}
عروض

لكنه ضحك كالبكاء.. الريحاني ومذكراته المجهولة

هشام أصلان

15 ديسمبر 2017

"يقولون إن المنحوس الذي يعبر البحر ثلاث مرات يزول عنه النحس. أمّا أنا فقد عبرت البحر حتى هذه اللحظة سبع مرات، ومع ذلك لم يفارقني النحس". لم يكن نجيب الريحاني يعرف، وهو يتمتم لنفسه على متن سفينة متجهة إلى باريس، أنه أخيرًا اقترب من مفارقة النحس. سيتفق خلال هذه الرحلة على كتابة السيناريو والحوار لفيلم "ياقوت"، الذي توقع فشله، غير أن ضيق الحال اضطره، قبل أن يعود إلى مصر، وبدعوة من الحاج مصطفى حفني، صاحب أحد مسارح القاهرة، أن يبدأ، مع رفيق الدرب بديع خيري، عرض مسرحية "الدنيا لما تضحك"، ثم لم تتوقف الدنيا عن الضحك حتى رحيله.

كان قد قرّر أنه لن يتولى إدارة الفرقة منذ هذه اللحظة، بعد ما وجده من شقاء سنوات رأى فيها الراحة حينًا والإنهاك المالي أحيان أكثر. سيقوم بدوره كممثل، ويذهب مع هذه الرواية إلى تلق غير مسبوق.

"نجيب الريحاني.. المذكرات المجهولة" صدر منذ أيام عن دار "بتانة للنشر" في القاهرة، مُقدمًا بدراسة مُطوّلة للكاتب المصري شعبان يوسف، يؤكد عبرها أن هذه هي المذكرات الحقيقية للريحاني، واضعًا عددًا من الأدلة على عدم صدق المذكرات المشهورة التي نشرتها دار الهلال في 1959، بعدما نُشرت مُسلسلة في مجلة الكواكب عام 1952.

غاوي فقر

البداية كانت عندما استقال نجيب من وظيفته بشركة السكر ملولًا من رتابة تلك الحياة، معتزمًا العمل في الفن مع أصدقائه المسرحيين. كان بالنسبة إليهم، قبل الاستقالة، مليونيرًا بوصفه يضمن دخلًا شهريًا ثابتًا، بينما هم "يوم فيه ويوم مفيش". استهوته حياة الفن على فقرها في تلك الأيام. وفي جلسه مع صديقه سليم أبيض، طلب منه الأخير 25 جنيهًا سلفة، أعطاه إياها وكانت آخر ما في جيبه، قبل أن يضطر لأداء دور صغير في فرقة سليم وجورج أبيض لاسترداد المبلغ قروشًا فقروشاً، ثم مسيرة سنوات من العمل المسرحي، بين صعود إلى مشارف الارتياح المالي ثم هبوط إلى قاع الفلس.

مذكرات أتلفها الخيال

المذكرات التي عثر عليها شعبان يوسف صدرت بعد رحيل نجيب الريحاني مباشرة، أواخر عام 1949. ولأنها، كما يقول، صدرت عن دار نشر لم تكن مشهورة "لم تجد رواجًا معقولًا، بل إنني لم أعثر على من يستشهد بها سوى د. علي الراعي في كتابه (فنون الكوميديا.. من خيال الظل إلى نجيب الريحاني)، وذكرها في هامش مرة واحدة، بينما المذكرات التي نشرت في كتاب الهلال وجدت رواجًا كاسحًا، وتوفرت لها كل أشكال الدعاية والتسويق".

المقارنات بين المذكرات الرائجة والأخرى المجهولة، في دراسة يوسف، كثيرة. أبرزها أن الأولى صدرت بعد عشر سنوات من رحيل الريحاني، وهو الوقت الذي ذاع فيه صيت فنانين كيوسف وهبي ومحمد عبد الوهاب، ما دفع الهلال إلى حذف الفقرات التي تخصهما حيث جاء ذكرهما مع  آخرين ببساطة الحديث عن فنانين ناشئين من دون حذر من سطوة نجوميتهم. كذلك هناك إشارة إلى خيال محرر المذكرات الرائجة، وتقديمه نجيب الريحاني حاكيًا عن نفسه بطريقته التمثيلية التي نعرفها، بينما الكتاب الذي لدينا حاليًا فيه شخص طبيعي وليس "كاراكتر"، يحكي بأريحية عن نجاحاته وخيباته.

الشخصي متواريًا

الكتاب ثلاثة أقسام: دراسة حول المذكرات الشائعة. المذكرات المُكتشفة. ثم عدد كبير من المقالات التي تناولت الريحاني لأسماء من قبيل عباس العقاد ويحيى حقي وزكي طليمات وصلاح عبد الصبور وألفريد فرج وسعد الدين وهبة ودريني خشبة وغيرهم.

ولا أعرف إن كان تصنيف "المذكرات" يُعدّ ملائمًا بدقة لما يقوله نجيب الريحاني في هذه الصفحات. فهو لم يتعرض، على الإطلاق، إلى حياته الشخصية، ما يُخيّب شيئاً من التوقعات الخاصة بثراء السؤال الإنساني الذي من الممكن أن تطرحه أجواء شخص مثله. القارئ إذن سيخرج برحلة مع "الفنان" من الفقر القح حتى الارتياح والنجومية الخالدة، وليس مع الريحاني بوصفه شخصية روائية مثلًا كما يحدث كثيرًا مع كتابات السيرة الذاتية أو المذكرات.

مع ذلك، أنت أمام مساحة كبيرة ومهمة على زمن شهد نقلة نوعية في التعامل مع فن المسرح. وقراءة تُغني بمعرفة تفاصيل بدايات تكوين أشهر الفرق المسرحية في ذلك الوقت، ومعاناة أبطالها الذين سنعرف أغلبهم بعد ظهور فن السينما ومشاركاتهم في أفلام أصبحت شهيرة: علي الكسار، إستيفان روستي، يوسف وهبي، زينات صدقي، حسن فايق، بشارة واكيم، ومطربين من قبيل محمد عبد الوهاب وسيد درويش.

مفكرو العصر وكشكش بك

"هذه سطور حياتي، بحلوها ومرها، بهنائها وشقائها، بكأسها المترعة، وكأسها الفارغة. إنها تسلية للذين أحبوني وشاقهم أن يروا صورتي بغير ماكياج، وتذكرة للذين سيحيون من بعدي، حينما يروق لهم أن يطالعوا قصة دراما ضاحكة، عذابها أعذب من راحتها!".

القسم الخاص بالمقالات التي كُتبت في الريحاني لا يقل أهمية عن المذكرات نفسها، إذ فضلًا عن متعة قراءتها توفر مساحة كبيرة للتعرف على وجهة نظر كبار كتّاب ومثقفي عصر الريحاني وعصور تالية قريبة منه في ما آل إليه فن المسرح بعد صاحب "كشكش بك".

ولا تتوقع احتفاءً على طول الخط. هناك كثير من الانتقاد واعتبار أن الريحاني هبط بفن المسرح، وراح به من العمق للتسطيح. المفارقة أنه بينما أتى الاحتفاء من عباس محمود العقاد، الذي عُرف ككاتبٍ محافظٍ بمعنى ما، جاءت الاتهامات بالمبالغة في تقدير الريحاني وأعماله من أسماء كيحيى حقي، المشهور بكونه الكاتب المُجدد في اللغة والداعي الأشهر لعدم التقعير والأب الروحي لأدباء الستينيات بحداثتهم الفنية، ومعه الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور مُستفزًا من خبر كاذب "لم يذكر مصدر قراءته"، حول إنشاء كلية مخصوص لتدريس فلسفة نجيب الريحاني.

فيما كان رثاء إستيفان روستي لصديق عمره، مع مقالي زكي طليمات، من أكثر القراءات التي اقتربت إنسانيًا منه.

كان طليمات أحد مهاجميه ضمن الأدباء المعترضين على ما سموه "المسرح الهزلي"، حتى التقيا مرة في مقهى فينكس. وبعد مناطحة حوارية حول جدية ما يقدمه الريحاني، قام طليمات للرحيل، قبل أن يناديه الأول:

"استنى شوية يا أستاذ. يظهر إني أخذت منديلك وانا مش واخد بالي ونشفت بيه عرقي"، تبادلا ابتسامة تحولت إلى ضحكة، ثم ربت نجيب على كتف طليمات: "عرقي وعرقك في منديل واحد، لازم هاييجي يوم نحب بعضنا". بعدما مات الريحاني قال طليمات مُستهلًا رثاء نشرته الكواكب: "وكانت في حياتك لي عظات".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.