}
عروض

كتاب "الطفولة والسينما"... ذاكرة لكلّ الأزمنة

الصحبي العلاني

7 أكتوبر 2017

بمقاييس الزمان وضوابط التاريخ يُعتبر الفنّ السابع -مقارنة بالفنون الستّة السابقة عليه- أحدثها سنّا وأصغرها عمرا. ورغم أنّ مسيرته لم تتجاوز القرن إلّا بعقدين ونيف فإنّني لم أنقطع يوماً عن اعتباره أكثر الفنون التصاقا بتجربة الكينونة والوجود في أعمق معانيهما دلالة وأكثرهما زخما وحِدّة. وليست السينما التي أقصد ما يشاهده اليومَ أغلبُنا وهم مستلقون على الأرائك في منازلهم، متسمّرون أمام شاشات التلفاز؛ فليست هذه من السينما في شيء حتّى وإن أبدى أصحابُها حرصا شديدا على متابعة آخر ما يظهر من الأفلام وأحدث ما يُنتَج من الأشرطة.

فالسينما -أوّلا وأخيرا- قاعة مظلمة، وشاشة مشرقة، وأصوات تأتي من حيث لا يدري أحد. وذلك بعض ما تأكّد لديَّ -مجدّدا- وأنا أقرأ الكتاب الجماعيّ الصادر مؤخّرا عن دار "آكت سيد" الباريسيّة للنشر تحت عنوان "الطفولة والسينما". وهو كتاب ممتع لأنّه يخاطب الوعي والذاكرة؛ مربك لأنّه يستعصي عن التصنيف؛ محفّز لأنّه يعود بالقرّاء إلى الأصول الأولى التي صارت –للأسف الشديد- منسيّة مهجورة بحكم العادة والمألوف! فقد أراده أصحابه والمساهمون فيه أن يكون -كالسينما تماماً- كتاب كينونة ووجود، لا مجرّد حديث عن النظريّات والتقنيات والحدود!

تذاكر العودة الأبدية!

ولأنّ كتاب "الطفولة والسينما" على هذا القدر من الفرادة والطرافة، فقد بدا لنا من الضروريّ -قبل استعراض مضامينه وما جاء فيه، وقبل التنبيه إلى الشكل الذي ورد عليه- أن نتوقّف عند الفكرة الأساسيّة التي انطلقنا منها وذهبنا فيها إلى القول بأنّ السينما (سينما القاعة لا "سينما البيت") هي تجربة كينونة ووجود. وملخّص هذه الفكرة التي أساسها الخبرة والمِراس أنّ أيّ شخص يقتطع تذكرة لحضور شريط سينمائيّ إنّما يُبرم مع القاعة التي اختارها ومع الشريط الذي رغب في مشاهدته -بكامل الرضا وبمنتهى الطواعيّة- عقداً يقبل بمقتضاه أن يُسلم نفسه -جسداً وروحاً- إلى الظّلمة التي تُفقد الأشياءَ أشكالَها فتُذيبُها في سديم العدم وتُلغي بذلك كلّ معاني الكون الجاهزة وكافّة الدلالات الماقبليّة المُسقَطة، استعداداً لانبثاق كَوْنٍ آخر جديد مختلف: كَوْنٍ من الخيالات والأصوات والصور!

ففي قاعات السينما -وخلافاً لما عليه الأمر في البيوت- تكتنفنا الظّلمة رغماً عنّا. وحتّى إن نحن أصررنا على فتح أعيننا إلى أقصى ما تحتمل وتمسكّنا بالواقع الذي تكتنفنا مفرداته وأشياؤه، فإنّ السديم سرعان ما يبتلعنا ويُخرجنا من حدود المادّة وضوابط الحسّ، إلى آفاق التخييل والوهم والحدس...

في قاعات السينما -وفي قاعات السينما وحدها- ثمّة لحظة فارقة كنت أعتقد أنّ تراثنا لا يمكن أن يُعبّر عنها ويستحيل أن يهتدي إليها. وكيف له ذلك والسينما فنّ"مستحدث الصنعة غريب النزعة"؟! ومع ذلك، فقد وقفتُ على عبارة في منتهى الروعة والبلاغة، عبارة يتقاطع فيها عريق العصور بمُحدث الفنون.. وأعني بذلك عبارة "الراسخون في العلم"، هذه التي يمكن أن نَـنْـحَـتَ بموازاتها وفي اقتباس منها عبارة "الراسخون في الكرسيّ"!

ولعلّ أروع ما في العبارة الأخيرة أنّها لا تعير اهتماما للحدث التأسيسيّ الأوّل (حدث اقتطاع الشخص الراغب في حضور الشريط السينمائي التذكرةَ من الشبّاك) ولا للحدث الذي يليه (حدث دخوله ظلمة القاعة). فالأهم من الحدثَيْن الأوّل والثاني، الحدثُ الثالثُ، حدثُ "ارتخاء الجسد" لحظةَ استقبالِه الكرسيَّ الوثير أو استقبالِ هذا الأخير له، ولحظةُ استسلامِ الروحِ لفيض الصور والأصوات. ففي ذلك إعلانٌ عن علاقة رَحِـمِـيَّـة (نسبةً إلى الرَّحِم) وإنباءٌ بلحظة ولادة جديدة تضاهي لحظة الخلق الأبديّة التي يتحوّل فيها الكون من العدم إلى الإمكان. وبهذا المعنى، يتيح لنا الفن السينمائي أن نكون شهوداً على لحظة لطالما حسبناها غابرة لا تتكرّر غير أنّ ظلام "القاعة/الرحم" يتيح لنا أن نحياها مرّة بعد أخرى في تجاربِ عودةٍ أبديّةٍ لا نهاية لها.

ولكن، هل احتفظ المنجز السينمائي بهذه الدلالات التكوينيّة العميقة عند تناوله لموضوع الطفولة؟ كيف صوّر كبار المخرجين العالميّين عالم الطفل؟ كيف قدّموه للمشاهدين؟ وكيف وظّفوه في النسيج السرد-سينمائي لأفلامهم؟

طفولة لا حصر لها!

لا يقدّم لنا كتاب "الطفولة والسينما" إجابة وحيدة عن مجمل هذه الأسئلة بل إنّه يضع أمام القرّاء أكثر من مدخل إلى الموضوع. ففي القسم الأوّل منه أُفسح المجال أمام ثلاثة مُخرجين فرنسيّين هم على التوالي كريستوف أونوري، صاحب شريط "آلام صوفي" (إنتاج سنة 2016)، وميشال أوسيلو صاحب السلسلة الكرتونية "كيريكو" (إنتاج سنة 1998 وما بعدها)، ونيكولا فيليبار صاحب شريط "فعل الكينونة وفعل التملّك" (إنتاج سنة 2002). ومن خلال الحوارات التي أُجريت معهم، استعرضوا موقع الطفولة في تجاربهم السينمائيّة. واللافت للانتباه أن تناولهم للموضوع كان من زاويتين مختلفتين ولكنّهما متكاملتان: زاوية التلقّي وزاوية الإبداع. أمّا الزاوية الأولى، فقد استرجعوا من خلالها -وهم الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة تمتدّ من خمسينات القرن الماضي إلى سنوات الثمانين منه- عديد الوقائع الشخصيّة الحميميّة التي ما زالت عالقةً في أذهانهم مؤثّرةً في وجدانهم. وهي وقائع اقترنت لديهم باللّحظات الأولى البعيدة التي اكتشفوا فيها السينما وهم صغار لا يفقهون من حقائق العالم المحيط بهم الشيء الكثير. ولكنّ الحقيقة الوحيدة التي أجمعوا عليها أنّهم وقعوا في سحر الصورة وخضعوا لإبهار المشهد (كلّ على طريقته).

ومن الزاوية الثانية، زاوية الإبداع، تحدّث كلّ من كريستوف أونوري، وميشال أوسيلو، ونيكولا فيليبار بإسهاب عمّا صار عليه الأمر معهم بعدما تقدّموا في السنّ وانتقلوا من موقع التلقّي البسيط العفويّ البريء الساذج، إلى موقع إنجاز الأشرطة السينمائيّة الموجّهة خصّيصاً للأطفال (كما الأمر مع ميشال أوسيلو على وجه التحديد) أو إلى ذاك الذي يكون الأطفال فيه موضوع الفيلم أو أبطاله (كما هو الشأن مع كريستوف أونوري ونيكولا فيليبار). ومن خلال الحوار معهم بيّن هؤلاء السينمائيون الثلاثة أنّ المخرج الذي يشرع في خلق شخصيّة الطفل لشريطه المقبل أو لسلسلة رسومه الكرتونيّة الجديدة يجد نفسه إزاء مهمّة شاقّة في مختلف أطوارها، بدءاً برسم الملامح الأوّليّة للشخصيّة، انتهاءً إلى إدارة الممثّلين الأطفال أثناء تصوير العمل.

وإلى جانب هؤلاء المخرجين الذين مثّلت نصوص الحوارات معهم مادّة القسم الأوّل من الكتاب والمدخل إليه (صص.8-25)؛ تضمّن العمل في قسمه الثاني (صص. 26-255) "موسوعة صغيرة" مرتّبة ترتيبا ألفبائيّا، من الحرف الأوّل في الأبجديّة الفرنسيّة (A) إلى الحرف الأخير فيها (Z). وقد ضمّ هذا القسم/الموسوعة أسماء شخصيّات سينمائيّة رسخت في ذاكرة الفنّ السابع العالميّة مثل شخصيّة "جون" التي أدّاها "جاكي كوجان" (1914-1984) في شريط "الطفل" The Kid (إنتاج سنة 1921، صامت) للمخرج العالمي شارلي شابلن (1889-1977)؛ وشخصيّة "إيليوت" التي تقمّصها هنري توماس (من مواليد 1971) في شريط "آي. تي" (إنتاج سنة 1982) للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ (من مواليد 1946)؛ وشخصيّة "زازي" التي قامت بأدائها كاترين دمنغو (من مواليد 1950) في شريط "زازي في الميترو" للمخرج الفرنسي لوي مال (1932-1995)... وغير هذه الأسماء التي أوردنا -من باب الذكر لا على سبيل الحصر- كثير. وقد بلغ عددها في الكتاب مائة وثلاثين شخصيّة شملت جميعها تاريخ الفنّ السابع منذ نشأته إلى أيّامنا هذه، عبر أصقاع جغرافيّة مختلفة وضمن سياقات ثقافيّة وإبداعيّة عديدة ومتنوّعة. وهي أسماء لفرط تعدّدها وتنوّعها واختلافها تدفعنا إلى الاقتناع بأنّ الطفولة في السينما تجربة لا حدّ لها... لا لشيء سوى أنّها جزء من تجربة الكينونة الرّحميّة.

نعم... ولكن!

بتفاعل إيجابيّ قرأنا الكتاب، وبأسلوب أقرب إلى التقريظ والاستحسان شرعنا في تقديمه وعرضه. وإحقاقاً للحقّ، فإنّ لهذا العمل مزايا لا تُحصى، وخصالاً لا تُعَدُّ. وإنّ من أهمّها على الإطلاق ما جاء في القسم الثاني منه، هذا الذي اتّخذ شكل موسوعة صغيرة تمثّل -دون شكّ- مرجعا مُوَثَّقاً/موثوقاً، سواء بالنسبة إلى هواة السينما وعشّاقها أو بالنسبة إلى المتخصّصين في دراسة تاريخها وتقنياتها وأفانين خطابها.

وممّا زاد هذا القسم قيمةً أنّ التعريف بالشخصيّات السينمائيّة، شخصيّات الأطفال المائة والثلاثين الذين وردت أسماؤهم في نصّه، لم يكن تعريفاً "جافّاً" فالقائمون على تحرير الكتاب أفسحوا المجال أمام عديد المخرجين العالميّين مثل المخرج اليوناني كوستا غافراس والمخرج الفرنسي إيمانويل مورّي لتقديم آرائهم في الشخصيّات التي تمّ تقديمها والتعريف بها.

ومع ذلك، فإنّ ما يحزّ في النفس حقّا أنّ السينما العربيّة كانت غائبة عن الكتاب، وهذا ما ينمّ عن تقصير واضح وخلل بادٍ للعيان. فكيف لا تتمّ الإشارة -مثلاً- إلى "فيروز الصغيرة" (1943-2016) التي أدّت مع أنور وجدي (1904-1955) أغنية "معانا ريال" وأغنية "كروان الفنّ وبلبله..." في شريط "دهب" (إنتاج سنة 1953)؟ وكيف لا تتمّ الإشارة إلى شخصيّة "يحيى" التي أدّاها الممثّل أسامة ندير في شريط "حدوثة مصريّة" (إنتاج سنة 1982) للمخرج يوسف شاهين (1926-2008)؟ وكيف يتمّ التغاضي عن شخصيّة "نورا" التي أدّاها الممثّل سليم بوغدير في شريط "عصفور سطح" للمخرج التونسي فريد بوغدير (إنتاج سنة 1990)؟ أسماء كثيرة كان من الجدير أن نراها ونقرأ عنها وهي التي شكّلت جزءاً من مدوّنة الطفولة في ذاكرة السينما العربيّة... ولكن!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.