}
عروض

زرايب العبيد: سؤال الهويَّة وتمزُّق الذَّات

رشيد الخديري

18 أكتوبر 2017
تتبأر رواية "زرايب العبيد" للروائية الليبية نجوى بن شتوان حول موضوع العبودية في ليبيا، وقد ذكرتني فصول هذه الرواية ومداراتها السردية بما يُطرح الآن من رؤى نقدية جديدة، خاصة على مستوى التنظير للدراسات الثقافية، وتيارات ما بعد الحداثة التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي، ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار الرواية موضوعًا للدراسات الثقافية، أي تلك الشواغل التي تجعل أي عملٍ أدبي خاضعاً لرؤية نقدية تتوسل بأدوات إجرائية وقرائية جديدة. ولعلَّ ميسم هذه الرواية، يتساوق كليًا مع المنظور التعددي للدراسات الثقافية، إذ تنفتح السرود على الآخر الأسود، وما يشوب هذا الآخر المختلف من مظاهر الانتقاص والدونية داخل المجتمعات العربية.

لقد لمّح الناقد البحريني نادر كاظم في كتابه الموسوم بـ"تمثيلات الآخر، صورة السود في المتخيل العربي الوسيط"، إلى أن المتخيل الثقافي العربي، سعى إلى رسم صورة نمطية عن هذا الأسود، وجرى تداول هذه الصورة على نطاق واسع، وعبر مختلف الحقب التاريخية العربية. مفهوم الصورة وتشكيلها ودرجات تمثيلها لم يتغير، رغم تغير العقليات، ومستويات الفهم والإدراك. يقول في هذا الصدد:"سوف نقرأ النصوص الأساسية التي شكلت التمثيل السردي والشعري. وذلك بوصفها أحداثًا ثقافية، لأنها، وببساطة، تجعل الأشياء والأحداث تقع في عالم الواقع، فظاهرة كالرق مثلاً يمكن أن تكون ممكنة لا بفضل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فحسب، وإنما كذلك بفعل إسهام النصوص وبلاغة الخطاب الثقافي والأدبي، كما أنها قد تتحول إلى ظاهرة عنصرية خبيئة، ومن ثم مستحيلة، بفعل بلاغة الخطاب تلك"، ولا شك أن بلاغة الخطاب، تعمل على توريط هذه التمثيلات الثقافية في مفارقات عديدة، وتصير أكثر قابلية للإدراك والقراءة والتأويل، خاصة إذا جرى التعامل معها بوصفها أنساقًا ثقافية وليست نصوصًا أدبية، وهذا لا يعني أيضًا، أنهما متعارضان ومنفصلان، فكل إنتاج أدبي هو حادثة ثقافية في الآن نفسه.

يحسب للكاتبة نجوى بن شتوان جرأتها في اقتحام موضوع العبودية، وإن كان موضوعًا مكرورًا ومستهلكًا على مستوى التمثيل السردي، ففي السنوات الأخيرة، تواترت الأعمال السردية في هذا المجال، وفي هذا السياق، نتمثل بروايتي "شوق الدرويش" للروائي السوداني حمور زيادة، "طعم أسود، رائحة سوداء" للروائي اليمني علي المقري. إلا أن للروائية بصمتها الخاصة، في ما يخص بناءات السرود، والرفد من ينابيع إبداعية أخرى كالفلسفة والأنثربولوجيا والتاريخ والموسيقى، وغيرها، مما يعطي الانطباع على قدرة الرواية بوصفها "إمبراطورية السرد" على خلق جسورٍ حميمية مع حقول إبداعية أخرى. إن الحبكة أو الدال الأكبر للسرد في الرواية، تدور حول قضية "إثبات النسب"، نسب (عتيقة بنت تعويضة) التي يجري في عروقها دم مختلط، وهذه القضية يمكن اعتبارها "حادثة ثقافية" إذا ما تم النظر إليها من زاوية الدراسات الثقافية، وأيضًا من خلال وسائل "تخريط" هذا المعطى حول تاريخ الرق عربيًا، خاصة إذا علمنا أن المحرك الأساسي لكتابة هذه الرواية، هو صورة فوتوغرافية لعبيد على شاطئ بنغازي التقطها رحالة إيطالي مجهول بداية القرن العشرين، وهذا أسلفنا الذكر، في كون المهمش من الذاكرة، قد يكون عامل تحريض على كتابة مثل هذه الأعمال السردية.

لقد راهنت نجوى بن شتوان على فعل التداعي من أجل التأسيس لخطاب روائي يجمع بين البساطة في الأسلوب، بدون أن يكون هناك جنوح نحو "فن تطريز الكلام" بتعبير الناقد المغربي نجيب العوفي، أي تلك المنمنمات التي غالبًا ما تطفو على سطح أي منجز سردي، لكن بالمقابل، هناك اشتغال على الهوامش للشرح والتفسير، بحيث تحفل الرواية بالكثير من الكلمات الدارجة الليبية، أو الاشتغال على مكون الثقافة الشعبية من خلال الأغاني الشعبية، وهذا يوضح بجلاء مدى حرص الروائية على "تخصيب" الخطاب، وحمله على الاستعانة بمكونات خطابية ونصية أخرى، إلا أن ما أثارني هو هذه المهادنة في تناول مثل هذا الموضوع (العبودية)، رغم ما يطرحه من مماحكات ومفارقات مجتمعية كفيلة بأن تخلق "تثويرًا" للغة والأسلوب والرؤيا الفنية، ونحن نطالع فصول هذه الرواية، تبزغ صورة المرأة من بين السطور، وهي مغموسة في حبر من الطقوس البائدة، والتي حاولت الكاتبة التطرق إليها بالكثير من الوعي والذكاء السردي أيضاً، مثل ظاهرة "تقفيل" البنات التي كانت شائعة في عدد من البلدان العربية، ولعلَّ اتخاذ عملية السرد طابعاً مرآويًا أي الاتكاء على تقنية الفلاش باك في تأثيث السرود، خاصة على مستوى سرد العوالم الخفية لعتيقة، وما يقع من أحداث داخل زرايب العبيد كنوع من التعويض عن حرمان ما. عن خيبات ما، مقابل تغوُّل الآخر وتغلغله في الذوات الأخرى. إن هذه الرواية تعكس تمزقًا داخليًا ولو أنه قُدِّم بشكل محتشم ومهادن، قد يصل أحيانًا إلى حدِّ البساطة والسذاجة في سرد المحكيات، ورغم ما قيل وما يقال عن هذه الرواية، فهي تبقى في الأخير عملاً سرديًا يحتفي بالمهمشين، والمنذورين للبؤس والشقاء.


تجدر الإشارة إلى أن الكاتبة والروائية نجوى بن شتوان، حاصلة على ماجستير في التربية، وهي مساعد محاضر في جامعة قاريونس. مقيمة في إيطاليا وتعد لشهادة الدكتوراه في جامعة روما. لها مؤلفات عديدة في مجال الرواية والقصة والمسرح. تعد رواية "وبر الأحصنة" الصادرة عام 2005 أولى أعمالها الروائية. أقامت معرض رسم شخصيا بالديوان الثقافي في عام 2008. مهتمة بتاريخ العبودية في ليبيا وكان هذا موضوع روايتها "زرايب العبيد".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.