}
عروض

"الملاك الصامت": حياة في المدينة المدمرة

علي البشلي

16 أكتوبر 2017
لو توقّفت الحرب الآن في اليمن أو سورية أو ليبيا، وقُدّر لأحد من هذه الأوطان العودة إلى مدينته التي هُجّر منها، فلن يجد سوى ما وجد هانز بطل رواية "الملاك الصامت"، لـ هاينرش بول، الذي عاد إلى مدينته في نهاية الحرب العالميّة الثانية. ولن تكون فظاعة تلك الحرب، وآثارها المدمّرة على ألمانيا، وأوروبا كلّها، أكثر بشاعة مما تركته حروب الأهل في بلداننا.

إثر هزيمة ألمانيا النازيّة على يد الحلفاء، عاد هانز إلى مدينته كولونيا، ليجد أنّه لن يستطيع التأكّد من شيء فيها، جرّاء الدمار الهائل الذي حلّ فيها، إلى أن تُنير له ألسنةُ اللهب التي لا تزال تعتمل، الحروف المكتوبة فوق أحد المداخل، فيدخل، ليرى أوّل ما يرى هناك، ظلّه مطبوعاً على حائط بقي فيه جزء من السلامة، ظِلاً ليس بظلّ؛ بل هو أقرب إلى شبح هزيل، تتدلّى منه ذراعان، يكادان يتلاشيان فوق الحطام. في غمرة ذلك، يتنبّه إلى شبح آخر، فيرتعد خوفاً! لكنّه يقرّر أن يتقدّم نحوه بحذر، ليكتشف أنّه تمثال من الحجر، مغطّى بطبقة سميكة من التراب، يبتسم في رقّة، مُمسكاً في يده زهرة زنبق؛ "تمثال من الحجر": ملاك صامت، شاهد على كلّ ما حدث، هو أوّل وجه يلتقيه في مدينته المدمّرة!

هاينرش بول روائي ألماني 1917، 1985. حاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1972، عن دوره البارز في تجديد الأدب الألماني. غير أنّ جائزة نوبل، لم تغيّره؛ إذ بقي كاتباً مُشاكساً، مستمرّاً في فضح سوء استخدام السلطة الشموليّة في كلٍّ من ألمانيا الشرقيّة، وألمانيا الغربيّة. ليبقى شخصيّة غير مرحّب فيها عند الطبقة الحاكمة في كِلا البلدين. مع ذلك، عندما أُذيع نبأ وفاته سنة 1985، قبل أربع سنوات من سقوط حائط برلين، أُعلن الحداد في شطري ألمانيا، ونُكّست أعلام الدولتين، متّفقتين في ذلك "فقط"، على رجل ترك بصمات لا تُمحى في تاريخ الأدب الألماني والعالمي.

كتب بول روايته "الملاك الصامت"، بين عاميّ 1949 و1951. بعد عودته إلى مدينته كولونيا، من حرب عالميّة قضى فيها ستّ سنوات، جنديّاً في مشاة الجيش النازي. وجاء وصفه الروائي لمدينته المدمّرة، قاسياً في واقعيّته، مبيّناً الآثار الفظيعة للحرب إلى درجة لم يجرؤ ناشر على نشر الرواية، وطُلب منه مراجعة النصّ مرّات كثيرة، ففعل ذلك. لكنّهم في النهاية، لم يوافقوا على النشر، فعرف أنّ "ملاكه الصامت"، لن تُنشر حكايته إلّا بعد وقت طويل. وتأكّد ذلك؛ إذ لم تُنشر الرواية إلّا بعد أربعين سنة، أي بعد مماته بسبع سنوات "1992".

في الملاك الصامت، ليس هناك من شيء سوى هانز العائد إلى مدينته المدمّرة، عائد من حرب عبثيّة، حوّلته إلى شبح يائس مندثر الملامح، يفترسه الجوع إلى درجة تجعل دماغه لا يفكّر إلّا في شيء يمكن أن يؤكل، أيّ شيء، ولو كسرات من الخبز العفن، ليأكلها ببطء شديد، مؤخّراً لحظة البلع قدر ما يستطيع؛ لأنه، ربّما لن يجد شيئاً في أيام تالية.


ووسط الأسقف المتداعية التي يقطر منها الماء البارد، والأنقاض المختلطة، والروائح المنتنة من عرق وبول، كان على هانز، أن يبحث عن السيّدة "جومبرتز"، ليسلّمها وصيّة وسترة زوجها، الذي أُعدم بدلاً عنه. وفي المستشفى الذي قيل إنها فيه، لم يجدها؛ إذ خرجت. لكنه وجد معطفاً مُعلّقاً خاصّاً بالسيدة "ريجينا" ـ عرف ذلك من البطاقة في الجيب ـ فأخذه، وارتداه من دون إذن، أو تفكير في أحقّيته من عدمها باستعمال شيء ما للغير من دون موافقته؛ وهل يقدر إنسان حوّلته الحرب إلى شبح جائع، بارد، متلاشٍ، أن يُقدم على محاكمة كهذه؟ بدا المعطف عليه جيّداً؛ أبدى ذلك الرأي الطبيب المقيم على مداواة المرضى والمصابين، مُبدياً تعاطفاً إنسانياً مع هانز الجائع البارد. لكنّه ذكّره بعدم أحقيّته فيه، وأخذ عليه عهداً بأن يعيده إلى صاحبته، وقت يتدبّر أمره. من هذه الدرجة الأخلاقيّة العالية في الأمانة، والالتزام بالاعتناء بالمرضى والمصابين، يعود الطبيب وينحدر ببساطة إلى بيع هانز أوراقاً ثبوتيّة لرجل ميّت؛ فهو يحتاجها للتنقّل بأمان؛ إذ لا يزال جندياً فاشياً هارباً من القوات الأميركيّة التي دخلت المدينة! هي الحرب: في لحظة واحدة، تخلق في داخلنا تلك الانعكاسات والتناقضات غير المفهومة، لكنّها باعتقاد الكثيرين مُبرّرة؛ فالمَثَل القديم يقول: "في الحرب كلّ من يلتزم بالأخلاق يموت". وخرج هانز من المستشفى حاملاً اسماً جديداً: "إيريك"، مُتذكّراً، كم من الأسماء قد حمل، كي يستطيع المضيّ في هروبه: "هانز": اسمه الحقيقي. وعندما كان على وشك الإعدام، أخذ اسم "هنغرتز". وقبل ذلك "ويلكي". ثمّ "والدو". ثمّ "سكونر". كلّ ذلك يبدو حقيقياً تامّاً بمجرّد أن تضع على الأوراق ختماً مستديراً مزوّراً، وخطوطا خضراء، ستعطي الشرعيّة والحماية لحياتك؛ فلكي تنجو في كلّ مرّة، عليك أن تحمل ذاتاً جديدة غير ذاتك؛ فلا مكان في حدث الحرب لوجودك الحقيقي، قاتلت، أم لم تقاتل فيها.



"هل تريد أن تعيش"؟

"نعم"، أجاب هانز مرتجفاً.

"إذن خذ حياتي، وأعطني موتك".


بهذا الحوار المقتضب ما بينه وبين زوج السيدة "جومبرتز"، أجاب هانز على سؤالها: "كيف مات"؟ بعدما سلّمها سترته العسكريّة، وورقة يُوصي فيها بكامل ممتلكاته ومستحقّاتها لها. فتلقّت كلّ ذلك بتلك اللامبالاة التي تسم الوجوه كلّها، وكأنّ تلك التقاسيم المُتعَبة تقول: "مهما حصلتَ من الحرب فهي ليست بأخبار جيّدة"؟ وواصل هانز الحكاية، أنه كان هارباً، وحُكم عليه بالإعدام. لكنّ زوجها، أتى إليه تحت جنح الظلام، ورأى في عينيه، أنّه يحبّ الحياة، ويريد أن يعيش، فأطلقه وأخذ مكانه، ليُعدم بدلاً عنه.


"لقد كان نظيفاً إلى درجة سرق منّي موتي. كنت راغباً بذلك الموت النظيف، لكنّني لم أستطع"، قال هانز متأثّراً.

لقد سلّم السترة. وبقي المعطف. ورغم أنّه يشعر بالبرد والجوع الشديدَين، قرر أن يُعيد المعطف إلى صاحبته، فهو قد أعطى وعداً بذلك. ليجد اللامبالاة ذاتها عند السيّدة "ريجينا" صاحبة المعطف. ولم تكترث أيضاً لاعتذاره على استعارة بعض السجائر من العلبة في الجيب، وبقيت صامتة. فتنبّه إلى طفلها النائم، وقتذاك يعتذر أنه تكلّم بصوت عالٍ، وربّما أزعج الطفل. فتخبره باللامبالاة ذاتها أنه ميّت من ثلاثة أيام، يوم دخل الأميركيون إلى المدينة، وأصيب سقفهم بطلقة مدفع. يستسمحها بالبقاء عندها؛ إذ لا مكان يأوي إليه. فتأذن له، ويتبادلان الحكايات: يخبرها أنّه حزين جداً على زوجته التي قضت، حزين لأنه لم يكن لطيفاً معها. فتخبره أنها تزوّجت والد طفلها الميت من دون أن تعرف عنه شيئاً حتى اسمه، وبقيا مدّة وجودهما معاً، ينادي كلّ منهما الآخر بـ "أنت"؛ حين تُخاطب أقرب إنسان إليك بـ "أنت"، هذا يعني شيئاً واحداً: أنّك منكسر يائس إلى أدنى درجات الحضيض! في الصباح التالي، تُنادي "ريجينا"، هانز بصوتها الإنسانيّ العاديّ: "هانز"! فتنتابه قشعريرة تُربكه؛ فهو قد افتقد نبرة الصوت الإنساني العادي طوال مدّة الحرب! "هانز"، تناديه! فتشتعل شرارة الحبّ.

في الحبّ، نُقبل على الحياة، وتُصبح ممكنة حتى لو كانت مدمّرة بالكامل. في الحبّ، يدفعك اهتمام شخص آخر بك، كي تفعل أشياء لا طائل منها، كأن تلعن في سرّك تلك النزوة المُفاجئة التي دفعتك لتنظيف الغرفة، فظهرت لديك بُقع ودوائر قبيحة، لم تكن تلاحظها قبلاً. في الحبّ لا تعرف لماذا ترى كيف يرفع الآخر جذعه عندما يراك. وكيف ترى وهج السيجارة الضعيف يرسم الوجه الهادئ إليك. في الحبّ، تُضحّي بآخر ما تملك من موجودات، لترشو الجنود الغرباء كي تحصل على وثائق لشريكك كي يستطيع العيش بأمان. في الحبّ تسرق فحم القطارات، وتبيع دمك للمستشفيات، لتأتي بالطعام.


ولكن القدر يستمرّ بالسخرية؛ إذ عندما يذهب هانز إلى السيدة "جومبرتز" كي يطلب منها أن تشهد على زواجه من "ريجينا". يجدها قد ماتت. ويجد في منزلها السيّد فيشر، عضو حزب النازيين، صاحب المجلّة الدينيّة، الذي يُعاني من الضجر، ومن كثرة الأموال. هو ذاته الذي باعته "ريجينا" دمها من أجل ابنته. لقد جاء كي يسرق الوصيّة من أجل أن يستولي على ميراث "جومبرتز". وإذ غالباً ما تُلاحق الوجوه هانز، يتذكّره، يتذكّر هذا السيّد؛ إنه ذاته الذي مزّق كوبون الخبز ورماه في وجهه صارخاً: "لا خُبز لدينا". هذا هو الوجه الذي بقي أمام هانز، وأمام العالم إنّه وجه فيشر. أمّا الذي لن يراه أبداً الوجه اللطيف المورّد لبائع التذاكر، الذي التقاه آخر مرّة في عنبر المصابين: "كان القمل يزحف حول ضماد رأسه، ثمّ يجول بحريّة على رقبته وأذنيه....".

الشرفاء يرحلون، والأنذال يبقون؛ هذه هي غاية الحرب!

لا تزال رواية "الملاك الصامت"، تُقابل بالفتور من القارئ الألماني، بسبب موضوعها الناقر في الذاكرة الذي يستحضر مناخ اليأس والألم في تلك المرحلة.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.