}
قراءات

موريزيو بتيني: الجذور والنهر

الصحبي العلاني

14 أكتوبر 2017

في سياق حديثه عن أهمّ الخصائص المميّزة للعودة الأدبيّة في فرنسا هذه السنة، وفي مقال له بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2017 أشار إيريك لوري المحرّر الثقافي بجريدة لوموند إلى أنّ جلّ دُور النشر الباريسيّة قد اختارت إصدار أعمال من "الحجم الثقيل"! وهو في ملاحظته هذه لا يعني بالحجم القيمةَ الأدبيّةَ للآثار أو المكانةَ الاعتباريّةَ لأصحابها بل إنّه يقصد -على وجه التحديد- الجانبَ الكميّ فيها وعددَ صفحاتها مثلما هو الشأن -على سبيل المثال- مع رواية "كانغ" لميشال لوبري الصادرة عن دار قارسي في 944 صفحة، ورواية "نصر توما زينس" لماتيو يونغ الصادرة عن دار كاريار في 648 صفحة؛ دون أن ننسى -بالطبع- رواية أورهان باموق "هذا الشيء الغريب فيَّ" التي تقع في حوالى 700 صفحة والتي سبق لنا عرضها وتفصيل القول فيها ضمن مقال نُشر لنا مؤخّراً على صفحات "ضفّة ثالثة".

ولأنّ القواعد -في نظر الفرنسيّين وكما يقولون في مثلهم السائر- "إنّما وُضِعت من أجل أن تُنتهك"، فقد أصدرت دار فلاماريون للنشر (أيلول/سبتمبر 2017) كتاباً صغير الحجم يقع في 176 صفحة حمل عنوان "ضدّ الجذور"، وقّعه الإيطالي موريزيو بتّيني، ونقله من لغة دانتي إلى لغة موليير المترجمُ بيار فيسبيريني. وهو -على صغر حجمه وقِلّة فصوله- كتابٌ/حَدَث، أراد صاحبه من خلاله أن يؤكّد -مُجدّداً- أنّه يصرّ على السباحة ضدّ التيّار في النهر تحديداً لا في البحر كما قد نظنّ!

 

بتّيني.. المُشاغب الذي عَبَر اللّغات!

في زحمة "الأحجام الثقيلة"، وفي خضمّ الأعمال السرديّة التي تتنافس على حصد الجوائز، كان من الممكن لكتاب "ضدّ الجذور" أن يمرّ مرور الكرام دون أن ينتبه إليه أحد... ولكنّ وجود اسم الكاتب الإيطاليّ موريزيو بتّيني على صفحة الغلاف كفيل لوحده بإثارة انتباه القرّاء. فقد صار بتّيني لدى متابعي المنشورات الفرنسيّة ولدى المهتمّين بالقضايا الفكريّة اسماً من الأسماء التي تثير الضجّة وعَلَماً من الأعلام الذين يدور حول مواقفهم السجال. ففي مثل هذه الأيّام من السنة الفارطة، صدرت للكاتب عن دار "الآداب الجميلة" للنشر الترجمةُ الفرنسيّةُ لعمله الذي حمل عنواناً مستفزّاً يمكن تعريبه على النحو الموالي: "في تقريظ الشِّرْك" أو "في امتداح تعدّد الآلهة". وهو كتاب دعا فيه صاحبُه القرّاءَ إلى الخروج قليلاً عن دائرة العقائد السائدة وعن حقل الإيمان المتوارث من أجل إعادة الاعتبار للديانات غير التوحيديّة والنظر في المضامين الروحيّة التي تأسّست عليها. وهذا ما يُفسّر اختيارَه الجملة التالية عنواناً فرعيّاً للكتاب: "ما الذي يمكن للديانات القديمة أن تُعلّمنا إيّاه؟". وممّا لا شكّ فيه أنّ دعوة كهذه لا يمكن إلاّ أن تُعدَّ من قبيل "الهرطقة" ومن باب "التجديف" بعدما استقرّت مقولة التوحيد في الضمائر وفي العقول وصار من العسير التخلّي عنها والاعتقاد في غيرها.

والحقيقة أنّ أطروحات موريزيو بتّيني -بالرغم من طابعها الصادم ومن خطابها المستفزّ- لم تكن تهدف إطلاقاً إلى تقويض الأسس العقائدية التي ينهض عليها التوحيد ولا إلى خلخلة المرتكزات التي تستند إليها الديانات الإبراهيميّة الثلاث، بل إنّ أطروحاته هذه -على "غرابة" مضامينها- كانت تمثّل -في جوهرها- شكلاً من أشكال "تجذير التوحيد" عبر استدعاء نقيضه السابق عليه ومحاولة استيعاب هذا النقيض ضمن صياغةٍ روحانيّةٍ أَرْحَبَ.

وما كان لموريزيو بتّيني أن يُقدِم على مثل هذه الرؤية الجريئة ولا أن يصدع بمثل هذه الدعوة "الغريبة" لولا استناده إلى خلفيّة فكريّة عميقة ولولا تسلّحه بأدوات منهجيّة متينة. كيف لا، وهو القادم من أفق معرفيّ أصبح اليوم عزيز المنال؛ ونعني بذلك أفق الفيلولوجيا، هذا العلم الصارم المتناهي في الدقّة، المبالغ في التجهّم إلى درجة الكابوسيّة والضجر؟! كيف لا، وهو الذي جمع مع الفيلولوجيا تخصّصاً دقيقاً آخر هو تخصّص اللّغة اللاتينيّة، لغة العلوم واللاهوت التي انبثقت عنها وانتهت إليها جميع حقائق العصر الوسيط وصولاً إلى عصر الاكتشافات الكبرى وعصر النهضة؟! كيف لا، وهو الذي أضاف إلى الفيلولوجيا وإلى المعرفة باللاتينيّة علم الأنتروبولوجيا الذي أتاح له أن يكون منفتحاً على سائر الثقافات دون أيّ تمييز أو مفاضلة؟!

تلك هي الخلفيّة النظريّة والرؤية الإيبستيمولوجيّة التي حكمت موريزيو بتّيني في كتابه/الضجّة السابق: "في تقريظ الشِّرْك" أو "في امتداح تعدّد الآلهة" فما الجديد الذي حمله كتابه الأخير: "ضدّ الجذور"؟

 

عن الجذور... وعن الحاجة إليها!

انطلاقاً من ملاحظات جزئيّة بسيطة واستناداً إلى وقائع يوميّة عابرة ينبّه موريزيو بتّيني قرّاءه إلى أنّ الأنماط الحداثيّة التي سادت طيلة العقود الأخيرة في العالم الغربيّ على المستويات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية قد ولّدت ردّة فعل حادّة لا تخلو من غرابة ومفاجأة! وقوام ردّة الفعل هذه سعيٌ محمومٌ إلى إحياء التقاليد ورغبةٌ ملحّةٌ في العودة إلى الماضي وتمسّكٌ شديدٌ بالمحافظة على الموروث.

ولكنّ هذا الموقف الذي قد نُسارع إلى وصفه بـ"الرجعيّة" ليس كذلك حقّاً. فالمجتمعات الغربيّة -وفق بتّيني- لا تقبل إطلاقاً أن تتخلّى عن مكتسبات الحداثة، ولا أن تُفرّط في منجزاتها التكنولوجيّة، ولا أن تتنازل عن الحريّات الفرديّة والجماعيّة التي تنعم بها؛ بدليل أنّها لم تتوقّف يوماً عن المطالبة بمزيد دعمها وترسيخها وتوسيع أفقها.

ومعنى ذلك -وفق ما يستنتجه الكاتب- أنّ النزوع إلى إحياء التقاليد والعودة إلى الماضي والمحافظة على الموروث ليس تعبيراً عن رفض للحداثة في ذاتها، ولا موقفاً سلبيّاً ممّا تحقّق للأفراد والجماعات في ظلّها، بل إنّ الأمر يتعلّق بمسألة قد تبدو -في الظاهر- جزئيّة بسيطة غير ذات بال، ولكنّها -في العمق- جوهريّة لا بدّ من الانتباه إليها ومن إيلائها مطلق الأولويّة عند تحليل واقع الحداثة اليوم، بل واقع ما بعد الحداثة.

فالمجتمعات الغربيّة (والمقصود بها، حسب بتّيني، مجتمعات أوروبا بدرجة أساسيّة والمجتمع الأمريكي، بدرجة أقلّ) -وهي تحاول استرجاع "جذورها" وإحياءها والتذكير بها- لا تهدف إلى التخلّي عن الحداثة ولا إلى التنكّر لها -في المطلق- بل هي تُعبّر -فقط- عن احترازها من "تيّارٍ جارفٍ" تلبّس بالحداثة دون أن يكون -في الأصل- جزءاً منها أو مقوّماً أساسيّاً من مقوّماتها. نعني بذلك تيّار "النمطيّة" الذي قضى أو كاد على ما كان يُميّز المجتمعات بعضها عن بعض والثقافات المحليّة عمّا جاورها واختلف عنها من الثقافات.

فالسائح الذي يحطّ رحاله اليوم في مطار باريس أو في مطار روما أو في غيرهما من المطارات لا يكاد يشعر بأيّ فرق بينها؛ وهو إذا ما امتطى سيّارة تاكسي تُقلّه من المطار إلى وسط العاصمة لا يكاد يرى حواليه إلاّ عربات لا تختلف أنواعها وألوانها وموديلاتها عمّا تعوّد على رؤيته في بلاده؛ وهو إذا ما تجوّل في الشوارع الكبرى وتوقّف أمام واجهات المحلاّت الراقية، أو إذا انغمس في الأزقّة الخاوية وابتلعته الزوايا المنسيّة والأركان المظلمة، لا يكاد يسمع -هنا وهنالك- إلاّ رنّات الهواتف المحمولة.. نفس الرنّات التي تتكرّر عبر الأمكنة إعلاناً عن "زمن مُعوْلمٍ" عنوانه الأوحد المَـحْـوُ والانسحاق...

فلا غرابة -والحال هذه- أن تصبح "العودة إلى الجذور"، و"الدعوة المُلحّة" إلى التمسّك بها ضرورةً لا محيد عنها وشكلاً من أشكال التصدّي للعَدَم ومظهراً من مظاهر مواجهة النمطيّة الزاحفة على كلّ شيء... فبالجذور، وبالجذور وحدها -أو هكذا ظنّ الغربيّون! وبعض الظن إثم!- يمكن للأفراد كما للجماعات أن تستعيد التوازن المفقود في مواجهة العواصف...

 

عن الجذور... وما صنعته بأهلها!

ولكن! ماذا لو كان هذا التمشّي برُمّته -وبالرغم من النُبْلِ الذي ينطوي عليه، والحصافة التي يُعلن عنها- مجرّد "وهم" لا قيمة له، ومحض "يوتوبيا" لا تُسمن ولا تُغني من جوع؟! ماذا لو كانت "الجذور" التي يظنّ الكثيرون أنّها الطريق إلى الخلاص والسبيل الأوحد للوقوف في وجه "النمط السائد" مجرّد "خطأ مضاعَف" يُرْتَكب، ومَحْضَ "خطيئة جديدة" توقعنا فيه سذاجة لا تُحْتَمَل؟!

ذلك هو السؤال المحيّر الذي يطرحه موريزيو بتّيني والذي ينبّهنا من خلاله إلى أنّ "الجذور" التي تبحث المجتمعات الغربيّة عنها والتي تحرص على التمسّك بها ليست إلاّ "قشّة موهومة" لا يمكنها البتّة أن تنقذ السابحين في بحر الحداثة وما بعد الحداثة، ولا أن تعصمهم من خطر الغرق... فالخطابات التي ما انفكّت تتغنّى بـ"الجذور" وبـ"التقاليد" وبـ"الماضي العريق" وبـ"التاريخ المجيد" تتأسّس -في نظره- على مُسلَّمَة واهية ليس ثمّة ما يؤكّد صدقها ووجاهتها: مُسلَّمَة يعتقد فيها الكثيرون أنّ الثقافة التي ينتسبون إليها هي ثقافة في منتهى النقاء والصفاء والجلاء ترقى إلى حدّ "الجوهرانيّة" و"التعالي"؛ بمعنى أنّ العناصر التي تشكّلت منها هذه الثقافة وقامت عليها وانبثقت ضمنها هي عناصر ذاتيّة خالصة لم يُخالطها دخيل طارئ ولم تؤثّر فيها العوامل الخارجيّة سواء أكان ذلك التأثير صريحاً مباشراً أم خفيّاً مُستتراً. وهذا ما تُكذّبه وقائع التاريخ وما تشهد بنقيضه حقائق الماضي.

فليس ثمّة -عبر التاريخ واستناداً إلى حقائق الأنتروبولوجيا- ثقافةٌ "جوهرانيّة" نقيّة خالصة.

وفي اللّحظة الراهنة، لحظة الحداثة وما بعد الحداثة، لا معنى للبحث المُضني عن ذلك "الماضي النقيّ" الذي يسكن أوهام الكثيرين.. ذلك الماضي "الخلاصيّ/الخالص" (نِسبةً إلى الخلاص و"الخلوص").. ذلك الماضي الذي يدفع "عامّةَ" الناس وكثيراً من "خاصّتهم" إلى الانسياق وراء الإيمان الساذج بوجود زمن سرمديّ قديم لم تَـشُـبْـهُ الشوائب! فما هذا "الزمن السرمد" سوى وهم تؤثّثه مقولات من قبيل "الأصالة" و"العراقة" و"الفرادة". وهي مقولات تُعطينا الانطباع بأنّنا "متوازنون" و"متماسكون" لأنّها تتأسّس على نظرة "عموديّة" للعالم وللوجود، نظرة "تراتبيّة/تفاضليّة" تدفعنا -رغماً عنّا- إلى البحث -في الأسفل- عن "الجذور"، وفي الأعلى عن "الكائن الأرقى" الذي نُسلم إليه أنفسنا...

وفي خضمّ هذا التموقع العموديّ الذي يحكمنا فيه "وهم التجذّر" و"زيف التعالي"، ينسى أغلبُنا ذلك البعدَ الآخرَ الخفيّ وتلك الإمكانيّة الأخرى المتاحة المباحة: إمكانيّة أن نفهم العالم فَهْماً "أفقيّاً" بأن نُساير مجرى النّهر مُتحرّرين تماماً من "أسر الجذور".

 

في مُفترق استعارَتَيْن كُبْرَيَيْن، وفي هوّة دلالاتهما السحيقة القائمة على صميم المفارقة وعلى محض التناقض: استعارةٍ "عموديّةٍ" ظلّت (الجذور) فيها تنحو إلى الترسّخ في الأعماق حَدَّ الجمود؛ واستعارةٍ "أفقيّةٍ" قوامُها (النهر)، عنصراً طبيعيّاً يحمل في دَفْقِهِ الطّميَ، إيذاناً بالميلاد والخصب والخلود؛ صاغ موريزيو بتّيني كتابَه الأخير "ضدّ الجذور"... وهو كتاب لا شكّ في أنّه يجمعنا، نحن القرّاء، على تقديره وتوقيره، مهما تفرّقت بنا سُبُل فهمه وتأويله... لا لشيء سوى أنّه قد تجرّأ -منذ صفحاته الأولى- على مساءلة قضيّة الهويّة وعلى الخروج بها من عتمة المُسلّم به والمسكوت عنه، إلى نور المُختلف فيه اللاّمتّفق بشأنه! وما هذا الخروج -بمعايير الحداثة وما بعد الحداثة- إلاّ أضعف الإيمان، بل أوّله في انتظار إيمان آخر جديد مختلف!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.