}
عروض

المغامرة السريالية: وصفات خيالية لطبخة شعرية

د.حاتم الصكر

13 يناير 2017

يبدو أن نعْت السريالية بالمغامرة هو وصف دقيق لحالتها وسياقاتها وتداوليتها، ومحاولة للإحاطة بمبرراتها وسيرورتها التاريخية، والتساؤلات حول مصير خطابها ومنجزها النصّي في الشعر والفنون الأخرى.


هذا ما يجعل كتاب الشاعر العراقي المغترب، عدنان محسن، "المغامرة السريالية - مقالات ونصوص" (دار الجمل-2016)، مناسبة جيدة لمراجعة مقولات السريالية وأسس أطروحتها وما آلت إليه. فالتساؤل يبدو مشروعا اليوم عن مصير السريالية كأسلوب فني ورؤية  مقترحة في عالم تقبَّل ما دعت إليه في سياق ظهورها وتخلّيها عن سلطة العقل والواقع، ثم  صارهو نفسه -أي العالم- سرياليا بجدارة ؟
ولكن هل سيصمت السرياليون لأن الواقع أشد بلاغة منهم؟ هل سيذهب السرياليون خارج حدود مملكتهم التي حلموا بها بعد أن تحققت، ولم يعد لهم جدوى، بل لم يعد لهم ما يقولون فوق الواقع الذي لم يعد واقعا؟

لقد أخرج أفلاطون الشعراء بسلام - ولم يطردهم كما توحي القراءات المتعجلة - من جمهوريته المفترضة بعد تحقق عدالتها وقيمها ، تماما كما استبعد الحاجة إلى وجود الجند والحراس كمسؤولين؛ لم تعد إذن ثمة حاجة لأحلام الشعراء وأوهامهم التي يتمثلونها على بعد ثلاث خطوات عن حقيقتها.

سرياليون بلا سريالية

مثل ذلك فعله النقد بالسريالية التي قوضها السرياليون أنفسهم حين أدركوا ان  لاجدوى بعد لما فوق الواقع، الذي يستدعونه بوسائل الخيال والحلم والتلقائية والكتابة الآلية وهذيانات ما قبل النوم أو تحت سطوة المخدر والتنويم المغناطيسي، وغيرها من الوصفات التي لخصها بيان السريالية الأول الذي كتبه عام 1924 أندريه بريتون متأثرا بمخلفات الدادائية التي أسلمت رايتها للسرياليين الخارجين من رحمها.

إن التحرر من سلطة العقل والمضي في مغامرة الكتابة والرسم بلا رقابة واعية تقترب كثيرا من مفاهيم فرويد عن اللاوعي والعقل الباطن، وصراع المخيلة والإرادة أو الوعي واللاوعي المخزون ..
ويمكن هنا  استذكار ما قاله أراغون خلال مرحلته السريالية في تعليله لرفض ماهو واقعي في الفن والأدب  بقوله "إن جوهر الأشياء غير مرتبط بواقع الأشياء في أي حال...فثمة علاقات أخرى إلى جانب الواقع كالمصادفة والإيهام والخيال والحلم".

لا يهمنا إعلان وفاة السريالية ببيان أبرز مؤسسيها وهو شوستر عام 1969 بعد ثلاث سنوات  من غياب رائدها، أندريه بروتون، الذي التمَّ حوله شعراء ورسامون ومسرحيون وسينمائيون ومفكرون فرنسيون وأجانب استهوتهم الوصفة السريالية والاندفاع القوي خارج حدود العقل، الذي أنتج حربا مجنونة وخلّف دمارا بشريا وعمرانيا هائلين، بل كان أبرز أسباب ضعفها وانحسارها  تشتتها في تيارات عديدة واتجاهات وأساليب كثيرة، وليس لاستنفاد خطابها أو تخلفه عن العصر. فالعصر سريالي بجدارة، وهذا أحد أسباب الغياب جدليا.

جدلية غياب السريالية لا يمنع استذكارها في مختارات نقَّب عنها عدنان محسن بدقة. واستعدنا معه فضائل السريالية التي تبنت وطبّقت عمليا وفي وقت مبكر وحدة الفنون وعبور الأنواع والاجناس واقتراضها من بعضها . فكان السرياليون يركزون على الشعر والفنون الأخرى، لا سيما الرسم والنحت والمسرح والبصريات كالسينما والتصوير. هكذا ضمت قوائمهم الأولى شعراء وفنانين: من المسرح يأتي أنتونان آرتو، ومن الرسم إيرنست وبيكاسو، ومن الشعر بريتون وأراغون، كأمثلة وحسب. إنهم يعتقدون بوجود سرياليين قبل الظهور الرسمي للسريالية. هكذا يعد بريتون قائمة غريبة تجعل هرقليطس سرياليا في الديالكتيك، وبودلير سرياليا في الأخلاق، ورامبو سريالياً في الحياة، وبيكاسو سرياليا في التكعيبية..وضمت القائمة في نسختها الأولى قبل الحذف أسماء، مثل دانتي وشكسبير وشاتوبريان وهوغو ومالارميه وسان جون بيرس وسواهم. إذن فالجميع هنا من هرقليطس ودانتي وشكسبير حتى بيكاسو، كلهم مصنفون كسرياليين لسبب أو بدونه!

وصفات لطباخة قصيدة!

تأمين حرية الذهن ورفض ما يعارضه.تلك أهم مقولات السريالية ومضمون أدبياتها المعلنة. فكان التمرد من أبرز ملامح هوية السريالية كما يقول فردينان ليكيه في المقال الذي اختاره عدنان محسن في مستهل الكتاب. وبهذا نعلل رفض السرياليين الحرب. والابتعاد عن مخلفاتها  بالتأكيد على الحلم وحرية المخيلة. كتب بريتون في البيان السريالي الأول أن الإنسان هو الحالم الأبدي. وإذا كان ماركس قد اقترح تغيير العالم بذوبان الطبقات، فالسرياليون يقترحون تغيير الحياة عن طريق المخيلة والتلقائية والصدفة للتخلص من ضغط الفكر المراقب. إنها تتصادى مع أفكار سابقة كرستها الدادائية والتكعيبية ونظريات فرويد في التحليل النفسي وكل ما يؤكد على الباطن والمغيب في وعي الإنسان ومخيلته وأحلامه. ولقد حل اللعب محل التخطيط المسبق. هكذا ترك السرياليون وصايا ووصفات طريفة حول الكتابة الحرة. لخّصها تريستان تزارا في نص: كيف تكتب قصيدة دادائية:

خذ  جريدة

ومقصاً

اختر من الجريدة مقالاً بطول القصيدة التي تزمع كتابتها

اقتطع المقال من الجريدة

قص كل كلمة من هذا المقال بعناية

ضع الكلمات في كيس

حرك الكيس على مهلك

وأخرج الكلمات الواحدة بعد الأخرى ....

افعل كل هذا بعناية

لأن القصيدة ستشبهك".

ويؤكد هذه اللعب السريالية التي دافع عنها كتابها ما نشره بريتون نفسه بعنوان "اترك كل شيء":

اترك كل شيء

اترك دادا

اترك زوجتك ، اترك عشيقتك

اترك آمالك ، اترك مخاوفك

......اترك كل شيء وانطلق في الطرقات".

 

وما يكتبه ريمون كينو في نص"قصيدة":

"بضع كلمات تحسن اختيارها

ووضْعَها في مكانها الصحيح

يمكن أن تكون قصيدة

يكفي أن نحب الكلمات لكتابة قصيدة".

أما النص المختار لريمون كينو "من أجل فن شعري" فيقدم وصفة أيضا، لكنها شبيهة بإعداد الطعام مبتدئا جمله الشعرية بفعل الأمر:

"خذوا كلمة أو كلمتين

اطبخوا الكلمتين مثلما تطبخون البيض

خذوا كسرة من المعنى وقطعة كبيرة من البراءة

سخّنوا على نار هادئة

على نار التقنية

صُبوا صلصة اللغز

رشّوا بعض النجوم

أضيفوا الفلفل واستعدوا للرحيل".

 ولكن يبدو لنا فيليب سوبو أكثر تعقلاً إذ يكتب "نصائح للشعراء":

"كن مثل الماء ماء الينابيع وماء الغيوم

لا تخف من الريح

تعلم الغناء

كن  الماء الذي يطهّر

كن نقياً وعذباً".

لكن السريالية لم تستغن عن الوسائل التقليدية : منشوراتها معبأة بالنميمة وهجاء الآخرين. انشق كثيرون عن التجمع ليذهبوا إلى اعتناق الشيوعية: أراغون وإيلوار مثلاً. وبعضهم استقال لأسباب شخصية أو فنية. وهي بذلك تحاكي حركات شبيهة لها في أوروبا سبقتها في الظهور، كالمستقبلية التي فعل مارنيتي في قيادتها ما سيفعله بريتون في السريالية ، فقد أصدر بيان الشعر المستقبلي في إيطاليا عام 1909 وضم في جماعته رسامين وموسيقيين ومعماريين وشعراء يجمعهم رفض الماضي الفني وتقاليده واشتراطاته، ونبذ الأكاديمية التقليدية والمتاحف ونزوعهم لفن حر لا يقدس أعراف الماضي ومخلفاته. تلك البيانات والمنشورات الثورية من التكعيبية والمستقبلية والدادائية وحوارات روادها وتفاصيل لقاءاتهم وكذلك خلافاتهم وتشرذمهم، تشير إلى  مزاج القرن العشرين، في الربع الأول منه خاصة، وظلال الحرب الكونية الأولى وتداعياتها، وقبل ذلك مقدماتها والتوتر الذي أشاعته في النفوس.

 

الرسم ضد القواعد والمضامين

في الرسم لاقت السريالية رواجاً كبيراً لما طرحته حول إطلاق طاقة الخيال ونسيان الموضوعات أو المضامين، وتغيرت مركزية اللوحة تمهيدا لحركة تجريدية سوف تستقر وتتنوع مصادرها واتجاهاتها. وقد ضمت قائمة بريتون أسماء رسامين قدامى ومعاصرين وجد لديهم بذوراً سريالية. وكما حصل في الشعر، ورث الفن السريالي مؤثرات دادائية وأخرى تبدو بعيدة عن البرنامج السريالي. فقد أعلن السرياليون مثلا إعجابهم بلوحات غويا، كما استضافوا كاندنسكي في معرضهم الأول عام 1925 وكان بيكاسو أحد المشاركين فيه بجانب بول كلي وكيريكو وماكس إرنست. ويبقى التساؤل عن إمكان وجود فن سريالي خالص..لقد استعان السرياليون بأعمال خوان ميرو الطفولية والعفوية والقريبة من الفطري( الساذج) وكذلك الأعمال المتميزة بالكولاج ( التلصيق) الذي طوره ماكس إرنست وتخييلات ماغريت ومؤثرات أخرى من رسامين دادائيين وتكعيبيين مكرّسين.

كان التحاق سلفادور دالي بالحركة السريالية مثيرا وفاعلا،  رغم اعتراضات بعض نقادهم على جماليات أعماله وتردده بين الأكاديمية والحرية التعبيرية، وموافقتهم على ما ضمته أعماله من تمثلات نفسية، ودراسات للزمن واللاوعي الإنساني والتخيلات الحرة.

أما السرد فقد مثَّل عنصرا مهما في نصوص السرياليين وهم يمضون في مغامرتهم الجمالية، إذ حاولوا تكسير الهيمنة التقليدية للغنائية والعاطفية في الشعر التقليدي لصالح النثر، الذي استخدموه بصيغ متعددة منها السرد والقص واستخدام الومضات القصصية القصيرة للتعبير عن الحلم والوهم، وما هو فوق واقعي، وكذلك شيوع المحاورات الافتراضية بينهم والرسائل والردود المنشورة . .ولعل ذلك يتجسد في رسوم السريالييين أيضا إذ يكون للوحة وجود سردي  يظهر في الإنشاء والتأليف الخفي بين عناصر العمل وإيقاعاته وكتلته على السطح التصويري داخل بنية الحلم والخيال، رغم نبذهم تعينات الموضوع وتفاصيله.

سريالية العرب: تعديلات وتأويلات

إن كتاب عدنان محسن ينعش الذاكرة العربية بسيرورة حركة ثورية في الفن، لم يكن العرب في منأى عن تأثيراتها سواء بشكل صريح يكشف عينة المنهج والأسلوب والانتماء إلى الحركة، أو بالتأثر البعيد بها دون إعلان عن الانتماء أو التقليد لأدبياتها مباشرة.

يذكر في هذا المجال الكتاب الذين هاجروا إلى الغرب وانخرطوا في التيار السريالي، مثل جورج حنين وجويس منصور وجورج شحادة. ولكننا سنجد أصداء الأفكار السريالية لدى شعراء وكتاب عرب مقيمين في الداخل - بعضهم هاجر من بعد فازداد قربا من الأفكار السريالية، مثل فاضل العزاوي وعبدالقادر الجنابي، اللذين تجد في أشعارهما وكتاباتهما ما يلتقي بالأفكار السريالية سواء في إطلاق طاقة الخيال أو الدعوة للحرية في الكتابة والتخلص من الأغراض المباشرة، وهم قادمون من تيارات يسارية أيضاً. ويمكن أن نعد أنسي الحاج كذلك مطبقا للمبادئ العامة للسريالية في تركيزه على اللغة والتخلص من نمطية الصورة والإيقاع واعتماد المجازات الخيالية. وفي حالة شاعر كأدونيس نجد في بداياته خاصة كثيراً من النصوص ذات المنحى السريالي، فضلاً عن محاولته تأصيل السريالية عربياً بربطها بالمخيلة الصوفية وبحثها عما لا يرى وما لا يعرف أو يعقل .

وأيا كان،  تظل المغامرة السريالية عبر نصوص الكتاب الشعرية والنقدية مدعاة للتأمل كحركة فكرية تتعدى الخلق لمعاينة المخلوق وتقييمه، بعيداً عن مواصفات العقل وتقنيناته. وفي هذا كان مقتل السريالية ونهاية مشوارها المحفوف بالمشاكسة والتمرد والانشقاق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.