}
عروض

"كاليسكا"... حين يصير الوطن إعاقة

صرخة مدوية يطلقها ناصر الظفيري في روايته الجديدة "كاليسكا: القيوط يطارد غزالا"، إذ تتناول الرواية النسق القيمي والثقافي للمجتمع الكويتي، حيث المواطنة والجنسية درجات، والتمايز الصارخ بين الحَضري والبدوي، وحيث السعي الدؤوب لدفن الماضي الملتاث بالفقر والدونية حتى لا ينسف الحاضر الذي أزهر صدفة. بل هي مرثية لحال مجتمعاتنا العربية السادرة في القمع وتبخيس الإنسان وقولبة المواطنة وفق أهواء السلطة. ففي الكويت يمارس رجل الأمن العقيد "اليزّاز" أبشع أساليب التعذيب بحق بطل الرواية "العواد"، بينما يفاجأ البطل في كندا بأن المسؤولين عن السجن يوفرون الكتب للموقوفين ويصطحبونهم لحضور المباريات الرياضية.

يأتي ذلك في فلك حكاية حلزونية يسلسها الكاتب، بعيدا عن رتابة التتابع الممل، فيباشر الرواية بالحلقة قبل النهائية للحكاية، ثم يلعب على تقنية التقديم والتأخير لضمان استمرارية التوتر الدرامي. فبين مدينة الجهراء في دولة الكويت، ودمشق، وكندا تدور أحداث الرواية، ما أتاح للكاتب رسم لوحة بانورامية راح يكشفها الواحدة تلو الآخرى دون ترتيب، محتفظا بشوق القارئ متأججا لوصل ما انقطع.

هذه الدول هي الأماكن التي اضطر بطل الرواية أن يعيش فيها، دون أن يكون له الحق في اختيارها. إنه اليتيم الذي فقد أبويه في حادث مروري وهو في السنة الأولى من عمره، فتبناه عمه، وعاش معه على الكفاف في مدينة الجهراء. وحين شب، والتحق بالجامعة أحب زميلته "رشا" الحَضرية، أخت العقيد في أمن الدولة "عبد الرحمن اليزّاز"، الذي استكثر على البدوي أن يحب أخته، فوظّف استخباراته لمراقبتها والعواد، ليبدأ مسلسل محاولات تغييبه، ومحوه من ذاكرة أخته إلى أن وصل الأمر إلى سحب الجنسية منه، ثم طرده من البلاد نهائيا ليستقر كلاجئ في كندا، يمضغ حسرته المرة: "وطني هو إعاقتي الأبدية الوحيدة التي لن أشفى منها أبدا".

لكن، أيصفح العواد، وينسى كل ذلك من أجل رشا، التي تمكنت أخيرا من الاحتيال على أخيها واللحاق بالعواد في كندا؟ أبدا، فقد ملأه الحقد وركبته العصبية، ما قاده إلى الاحتيال على العقيد، الذي لحق بأخته إلى كندا ليمنع إتمام الزواج، وجرّه إلى "بحيرة الطين"المتجمدة، وعمد إلى قتله بالتجميد البطيء.

دوامة المطاردة
كاليسكا التي تعرّف إليها العواد وسكن معها في أوتاوا ذكرت ذات مرة: "أن جدتها كانت في العاشرة أو أكثر قليلا حين طاردت أول صيدها وكان غزالا صغيرا عادت به مصابا بحربتها إلى والدها فأطلق الاسم (كاليسكا)عليها، ثم أطلقه عليّ أبي لقبا بعد اسمي الأول الذي أطلقته عليّ أمي الأسكتلندية" ص 318. لكن، مَن الذئب "كاليسكا" في الرواية؟ أتراه العقيد "اليزاز" الذي طارد العواد وسدّ عليه كل منافذ الحياة، وأقصاه إلى أوتاوا، أم هو العواد الذي احتال على العقيد، فأخرجه من الكويت، ثم طارده في كندا وأصابه بحربة التجمّد القاتلة؟ أم تراه المجتمع الطبقي، البوليسي، الغارق في الوجاهة والمظاهر والصراعات الفئوية والقبلية، المجتمع الذي تنخره الصراعات بين أفراده، ويطارد بعضهم بعضا بسلاح التضييق والتغييب والإلغاء؟ إنها دوامة المطاردة القاتلة التي يفتحها عنوان الرواية في أفق توقع القارئ على مصراعيها منذ البداية.


رواة متعددون
سيطر الراوي على أغلب أجزاء الرواية، وابتعد في بعض الأحيان عن الإيهام بموضوعيته. فقد وجدنا الكاتب يغفل أحيانا عن المسافة الفاصلة بينه ككاتب وبين الراوي، فيزيح الراوي ويقتحم النص ليعلق ويشرح في انتقاص لفهم القارئ. وللخروج من سطوة هذا الراوي، عمد الكاتب إلى كسر الرتابة، فاستعان برواة هم شخصيات في الرواية تولوا مهمة السرد بضمير المتكلم في أجزاء قليلة منها. وقد نجح ذلك في الكشف عن مخبوءات جديدة في الحكاية، فشخصية "شجاعة"، جارة العواد في الحارة، وزميلته في الجامعة لاحقا، التي أحبته ولم يبادلها الحب، كشفت من خلال روايتها جزءا من شخصية العواد. وكذا الحال مع "بو علي" الكويتي صاحب سيارة الأجرة في كندا، الذي تكشّف لنا من خلال سرده أن العواد عمل معه على سيارته كسائق. وألقى أمامنا أيضا أضواء جديدة على شخصية العقيد اليزاز مكنتنا من معرفة أنه مارس سطوته على الكثيرين. وبلفتة ذكية تمكن الكاتب أيضا من استنطاق الطائر الجارح، الذي راح يضيء لنا ساحة الجريمة في "بحيرة الطين" من علو. فقد بيّن أن العواد أصيب، لكنه لم يمت، في حين كان اليزاز جثة هامدة.

شكلت الرواية بحق نقطة مضيئة وإضافة في مشوار الظفيري الروائي، ووسعت من مساحة حضوره، ليس على مستوى الكويت أو الخليج فحسب، بل على المستوى العربي ككل.

(كاتب سوري)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.