}

"مِشعَل": أعطاب الاستعمار والعنصرية وإبادة السكان الأصليين

عبد الكريم قادري 19 يوليه 2023
سينما "مِشعَل": أعطاب الاستعمار والعنصرية وإبادة السكان الأصليين
المخرجة فلافيا نيفيز وملصق الفيلم


تتقاطع العديد من أفلام أميركا اللاتينية مع تيارات الأدب بشكل كبير، وتعتمد في معظمها على منطلق "الواقعية السحرية" التي سلبت قرّاء العالم بوقعها ولذّتها وعوالمها العجائبية، وهي ما يثبت بشكل عملي تشابك الفنون واندماجها مع بعض، لهذا لم تعد تلك المناهج حكرًا على خورخي لويس بورخيس وغابريال غارسيا ماركيز وبيدرو برامو وغيرهم، بل تعدّها لعوالم السينما، وهذا ما تجلّى بشكل واضح في الفيلم البرازيلي الناطق بالإسبانية "مِشعَل" (Fogaréu) (100 دقيقة/ 2022) للمخرجة فلافيا نيفيز (41 عامًا) الذي شارك في الدورة الـ72 لمهرجان برلين السينمائي (10 إلى 20 شباط/ فبراير 2022) في قسم البانوراما.

يروي فيلم "مِشعَل" قصة الشابة فيرناندا (بربارة كولين) العائدة حديثًا من فنزويلا لبلدتها غويانيا  في البرازيل، تنفيذًا لوصية أمها التي تبنتها قبل وفاتها، وهذا من أجل نثر رمادها في النهر الذي كانت تسبح فيه في شبابها، ولقد صادف اليوم الذي عادت فيه لبيت خالها أونطونيو  (يوسين دي سوزا) عمدة البلدة، إقامة احتفال تقليدي من خلال حمل المشاعل ولبس أقنعة في الشوارع، وهو أحد الطقوس الدينية  التي يتم الاحتفال بها سنويا، لكن فيرناندا لم تسر مع الموكب، بل كانت تسير عكسه، وهي رمزية قوية في الفيلم، تظهر شخصيتها بشكل عام، وفي أحد الشوارع يجيب عليها أحد الأشخاص الذي كان يجلس وحده، بأن بيت العمدة الذي هو خالها قد تركته خلفها، وقد تعجبت من هذا السلوك، وكيف لشخص لم يُسأل أن يعرف الإجابة، وهي أول المؤشرات التي أظهرت سحرية الفيلم واتجاهه، ولقد تم التأكيد عليها في باقي تفاصيل الفيلم، انطلاقا من هذا الرجل/ الدرويش أو الصوفي حسب مصطلحاتنا، لتصل بعدها إلى بيت خالها العمدة، حيث كان يقيم حفلا ومنشغلا بالأحاديث السياسية، خاصة وأنه في فترة حملة انتخابية من أجل منصب العمدة للعهدة الثانية، وهناك تبدأ الحقائق في التكشف، انطلاقًا من دخولها البيت، أين بدأت زوجة خالها آرليت (فرناندا فيانا) في تقديمها للضيوف، بعدها أخذتها للمطبخ وقدمت لها الخادمتين ميسي (نينا إينوي) وخوانا (فيلمينها شافيز)، وقالت بأنها تلقتها كهدية زفاف من عند عمتها (تقصد الخادمة ميسى)، نظرت فيرناندا لها بغرابة، فردت عليها زوجة الخال بأنها لولاها لكانت في أحد الملاجئ، من هنا تنكشف العديد من السلوكيات العنصرية المقيتة لأفراد هذه العائلية الثرية والإقطاعية، من خلال معاملتهم والتهامهم لحقوق وأراضي الهنود الحمر، وهم السكان الأصليون للمنطقة، إضافة إلى عمل ابن الخال في تهريب مادة الكوكايين وهو مرشح لمنصب انتخابات المجلس.

مشهدان من الفيلم


عوالم قوطية موحشة وماض استعماري أسود

استوحت المخرجة الشابة فلافيا نيفيز (كتبت السيناريو بالتعاون مع ميلاني ديمانتاس) قصة فيلمها من العوالم القوطية الموحشة التي تغلفها الأسرار والبناءات ذات النمط الاستعماري، والأسرار الكنسية والملاجئ السرية، والسلوكيات التي تتقاطع مع جشع البشر وشرورهم، من أجل بناء عالم نفوذ وسلطة وثراء، على حساب الطبقات الكادحة والسفلية التي لا تكاد ترى، وهو العالم البشع الذي ساهم في بنائه أونطونيو خال فيرناندا التي صدمت من سلوكه وماضيه الأسود، وهي تصرفات ورثها من الاستعمار البرتغالي الإقطاعي، كما وقفت على عنصريته ومحاولته اقتطاع أراضي الهنود الحمر وتغيير مجرى النهر الذي يعتبر عصب الحياة بالنسبة لهم، كما عرفت بأن هذا الخال ما هو سوى والدها البيولوجي، وأن أمها الحقيقية هي الخادمة ميسي، وعندما واجهته بهذه الحقيقة المرة حاول قتلها، ليتجلى الشر في أكمل صوره وأتمها لأنه أراد القضاء عليها، لأنها كانت واضحة معه، لا ترضى بتصرفاته، وكشفته أمام الناس، لأن تلك الحقيقة البشعة هي التي حاول إخفاءها لعقود من الزمن، من أجل ثرائه وجشعه ونفوذه الذي بدأت فيرناندا في تهديده، ومن هنا يتبين أن رحيل أمها سيسليا من المنطقة ليس لأنها مثلية، بل بسبب هذه المعطيات القاسية التي وقفت عليها.

فيلم "مِشعَل" هو صرخة مدوية في وجه بلدة غويانيا البرازيلية، وهي نموذج حيّ على الفساد السياسي والمجتمعي، وأبان عن وجه البرازيل المخفي، من خلال التمييز العنصري الممارس ضد السكان الأصليين، واستعباد ذوي الاحتياجات الخاصة من الذين يتم التخلي عنهم جراء تشوهات أو إعاقات جسدية، بتواطؤ من الكنيسة التي تهبهم إلى الأسر الثرية، لا لتبنيهم، بل لاستعبادهم، كما فعل أونطونيو مع ميسي وجوانا.

في المقابل أظهر الدرويش الذي يملك قوى خارقة بأنه العنصر الموازي أو المقابل للواقع، وبالتالي أعطى للفيلم واقعيته السحرية، وهو نفس الشخص الذي أرشد فيرناندا لبيت خالها، وهو من أنقذها بقواه العجائبية التي لا يقابلها تفسير منطقي، لكنها تنقل شحنة من الإحساس يتقبلها المتلقي ولا يكثر حولها الأسئلة.



مكانة الهنود الحمر في مجتمع البرازيل

استطاعت المخرجة فلافيا نيفيز في أولى تجاربها السينمائية في الفيلم الطويل، أن تقدم عملًا مليئًا بالمشاعر، وأن تسلط الضوء على أحداث هي في غاية الأهمية، وبالتالي تكون قد وفقت في هذه الخطوة المهمة في حياتها السينمائية انطلاقًا من تجربتها الأولى، وقد أبانت من خلالها عن موهبة متقدة وحس إنسانيّ كبير، خاصة وأنها تتطرق إلى قضية غاية في الأهمية، وهي تأثير الماضي الاستعماري على الأجيال الحالية، بشكل أو بآخر. وبخصوص فيلمها "مِشعَل" فقد كان هذا الماضي ليس أسود فقط، بل قاتمًا ومؤلمًا لدرجة الوجع، إضافة إلى مرورها بشكل سريع على مكانة الهنود الحمر في البرازيل الحديثة، خاصة وأنهم النواة الأولى التي شكلت قارة أميركا ككل، ولكن مصيرهم كان المعاناة الدائمة مع الرجل الأبيض التوسعي، الذي لا يؤمن سوى بمصالحه الخاصة، ولا ينظر أبدًا في عيون أولئك الذين ينظرون لتلك الأراضي بقدسية كبيرة، وهو المعطى الذي فهمته بطل الفيلم الرئيسية، وهذا حين تنازلت عن ميراثها من الأراضي التي ورثتها من عائلتها، وأعطتها لزعيمة الهنود الحمر، كما حافظت بهذا السلوك على معبر النهر الذي كان سيتغير مجراه من طرف خالها الجشع، وهو خيط من الأمل أعطته المخرجة للمشاهد، وكأنها تقول إن الجيل الجديد يملك نظرة أكثر واقعية، وأنه منطقي ويفكر في السكان الأصليين، الذي يعتبرون في حقيقة الأمر ملح تلك الأرض وأساسها. وفي نفس السياق تقدم درسًا بليغًا ضد العنصريين والإقطاعيين الذي ينظرون للأمور بجشع ظاهر، ليكون فيلم "مِشعَل" من الأعمال الجيدة التي تحمل بعدًا إنسانيًا كبيرًا وتقدّم دروسًا مهمة في معنى أن تكون إنسانًا. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.