}

"ما إلي غيرو" لـ"إم حسين": صوت كوميدي مكثّف للتغيير

على مسرح Marcellin Champagnat في لافال- مونتريال في كندا حلّت الضحكة ضيفة على مدى ساعتين في مسرحية "ما إلي غيرو" My only one للكاتب والممثل المسرحي ناجي مندلق وإخراج عزيز شاراباتي. وتعدّ هذه المسرحية واحدة من سلسلة مسرحيات "إم حسين" التي عُرفت بها "فرقة مسرح أجيال" منذ عام 1988. 35 عامًا من زرع البسمة على طريقة الكوميديا الساخرة التي تأسّست عليها هذه الفرقة مثل جسر يأخذنا من الواقع إلى ما فوق الواقع، يدفعنا للتأمل في الثقوب النفسية لمجتمعاتنا، ذلك التأمل الذي يأخذ مسارًا في الوعي متلاحمًا مع المتعة، ما يذّكرنا بسيغموند فرويد في مقالته "الفكاهة" عام 1927: "الأنا ترفض أن تشعر بالأسى من استفزازات الواقع، إنها تصرّ على أنها لا يمكن أن تتأثر بصدمات العالم الخارجي، وتبيّن أن مثل هذه الصدمات ليست أكثر من مناسبة للشعور بالمتعة".

و"فرقة مسرح أجيال" التي أسّسها ناجي مندلق في ميشيغان بأميركا قبل 35 عامًا، هي أول فرقة مسرحية عربية أميركية، وقد قدّمت أكثر من 15 عملًا منذ ذلك الوقت على مسارح العالم العربي وأميركا وكندا وأستراليا. وكان مندلق مهاجرًا من بلدة مرجعيون اللبنانية الجنوبية حيث قضى طفولته في الملاجئ بسبب الاحتلال أو القصف الإسرائيلي، وكان قد قدّم أول مسرحياته "مرج الياسمين" في قريته، فيما كان لا يزال في المرحلة الدراسية الثانوية. وعام 1985 هاجر إلى أميركا وتخصّص في التلفزيون والإذاعة ثم الماجستير في الإخراج السينمائي وفنون الخدع السينمائية. وكان لهذه الطفولة تحت سقف الخوف والحزن أن تركت أثرًا فيه، فأصّر على المحافظة على التواصل مع العالم العربي وأسّس هذه الفرقة العربية- الأميركية. وتتمثل المهمة الرئيسية للفرقة في توفير تجارب مسرحية وفنية وثقافية عربية للمهاجرين العرب حول العالم. ويمكن ملاحظة عناوين المسرحيات لندرك أن رسالة، مندلق عبر هذه الفرقة، هي الإضاءة على مشكلات ومعاناة العرب أينما كانوا، في المهجر أو في بلادهم الأم. لكن إضاءة مندلق حساسة، فهو يحاول التوازن بين السخرية والإضحاك وبين تنبيه المتلقين لما يجري معهم وحقيقة ما يفكرون أو يتبنون أو يدافعون عنه في الوقت الذي يجب إعادة النظر في مفاهيمنا وانتماءاتنا. ومن عناوين أعماله المسرحية: "حاميها حراميها"، "أنا مش إرهابية"، "تأمركنا يا سندي"، "عرب وراسنا مرفوع"، وغيرها من العناوين التي تشير مباشرة إلى القضايا التي تواجه العرب والصعوبات التي يواجهونها إن على سطح الجغرافيا العربية أو في بلاد المهجر. و"إم حسين" هي شخصية انطلقت في عام 1994 ضمن إحدى المسرحيات التي قدّمها مندلق في الولايات المتحدة الأميركية، وبسبب نجاح الشخصية التي أدّى مندلق دورها، قام بتخصيص مسرحياته اللاحقة لـ"إم حسين" والتي عرفت شهرة عربية وعالمية واسعة لاحقًا.

المخرج عزيز شاراباتي إلى اليمين، وناجي مندلق (إم حسين) بين الممثلين يتوجه للجمهور عند انتهاء العرض  


يكتب المخرج شاراباتي في بيان هذا العمل: "من المعروف أن الكوميديا ​​يمكن أن تكون أداة قوية في إيصال رسالة، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو غير ذلك. ناجي مندلق يمزج مسرحياته بالكوميديا. لا تساعد الفكاهة فقط على طبع رسائله في أذهان الجمهور، ولكن شخصياته الكوميدية تساعده على نشر أفكاره إلى جمهور أوسع. يمتلك ناجي مندلق بشخصية "إم حسين" قدرة خارقة على طرح مواضيع جادة بخفة واضحة. ستدفعك مواقف "إم حسين" الفكاهية لأن تضحك على تحديات المجتمع، مهما كانت معقدة أو قاتمة، بينما تجعلك في الوقت نفسه تعيد التفكير في مفاهيمك عن الصواب والخطأ، والصدق، والعدالة الاجتماعية، والمزيد". وأضاف شاراباتي: "قال الممثل والكوميدي البريطاني بيتر أوستينوف ذات مرة: ‘الكوميديا ​​هي ببساطة طريقة مضحكة لتكون جديًا‘. مع كل الرعب الذي يحدث في جميع أنحاء العالم، دعونا نستخدم روح هذا العمل لمندلق، لجعل العالم مكانًا أفضل".
ويشارك في هذا العمل، إضافة إلى ناجي مندلق بدور إم حسين، ميشال مندلق بدور "إم الياس"، وأيمن صفاوي بدور "أبو حسين"، وحسن الحاج بدور "أبو الياس" والمشتغل بالسحر والزوج مرزوق، وربيع جابر بدور "حسين"، ونادر عودة بدور الطبيب النفسي، ورامي طه بدور موظف السفارة الأميركية، وكارو كافيندن بدور زوجة أبو حسين الجديدة.

تنطلق مسرحية ""ما إلي غيرو" من زيارة "إم حسين" للطبيب النفسي في محاولة لمساعدتها في تخطي المشاكل التي حدثت دفعة واحدة وصولًا إلى طلاقها من "أبو حسين": "آخ يا حكيم، شو بدي خبرك، زوجي من جهة، ابني من جهة، ما  عاد راسي يحمل، النصب، الاحتيال، قلة الوفا، الخيانة، الكورونا، المصاري بلبنان طاروا، جنى ديّاتي... راحوا راحوا... 17 سنة وأنا إخبز مرقوق وبيعهم وجمّع مصاري وابعت ع لبنان، قلنا لنأمّن آخرتنا، الله لا يوفقن للي أخدولنا هل المصريات...". هي الفكرة والثيمة التي قام عليها العمل حيث تسخر مجتمعاتنا العربية من فكرة الاستعانة بالطبيب النفسي، وينظر المجتمع إلى الشخص الذي يستعين بالطبيب النفسي بنظرة ساخرة، ويعدّونه غريبًا وربما غير سويّ. هي مسرحية عن نظرة المجتمع العربي الساخرة من العلاج النفسي، وعن المرأة المظلومة، ولكن المفاهيم التي يبثّها مندلق في العمل كثيرة، وبحسّ فكاهي ذكي يخترقنا لنشعر أننا خرجنا لوقت من الزمن.

تنمو الأحداث مع سينوغرافيا متبدّلة متناغمة مع كل مشهدية، بين عيادة الطبيب والبيت ومكان المشتغل بالسحر وبيت الزوجية الجديد والسفارة الأميركية بلا ثرثرة سينوغرافية، لكن كل فضاء مكاني سيشبه نفسه والسيناريو المعدّ له. أما إم حسين بحجابها الجنوبي السبعيني وفستانها المشغول على يد خياطة قروية من الجنوب، وجواربها، وجسد مندلق نفسه ووجهه داخل هذه الشخصية، فكلها تركيبة معدّة لإيصال الفكرة والضحكة معًا. مبدع المندلق في تطويع جسده وصوته، حضوره جاذب للبسمة داخل هذه الشخصية، ويزداد حضوره توهجًا كلما تقدّم العمل، ينقل لنا خيبات إم حسين بروح فنية عالية مثيرة للضحك، وبلهجة إم حسين الجنوب لبنانية متماهية مع إنكليزية بسيطة تتواصل فيها مع الطبيب الأميركي اللبناني الأصل الذي لا يعرف إلا بعض الكلمات العربية.

مشهد من العرض


ستبدأ إم حسين بتمثيل قصتها عندما يُحضر حسين لها "إخراج قيد عائلي" كانوا قد طلبوه في فترة الانتخابات النيابية، ويُظهر أفراد العائلة الواحدة وقد ذُكر قرب اسم أبو حسين أنه متوفٍ قبل عامين وأنه طلّق إم حسين قبل وفاته للمرة الثالثة، وبعد أن تنوح إم حسين لوفاة زوجها باكية، تنبّهها جارتها إم الياس بأنه غير متوفٍ، فتتساءل إم حسين: "- بيّك متوفي من سنتين! كيف؟! وأنا ضهر مين كنت عم أفرك من شوي؟! مين قلك إنو بيّك متوفي؟/ - الدولة اللبنانية... اليوم وصل إخراج القيد العائلي، ووزارة الداخلية كاتبة ع إخراج القيد العائلي إنو بيّي متوفي". وفي إشارة إلى التلاعب وقت الانتخابات تقول إم حسين: "هيي الدولة اللبنانية بتقوّم الأموات وقت الانتخابات ليصوّتوا، والطيبين للي بدن ينتخبوا بتموتن". وفي رسالة أخرى عن تعامل المجتمعات العربية مع ذوي الاحتياجات الخاصة تعلّق إم حسين على إضافة كلمة "معاق" قرب اسم ابنها حسين متسائلة إذا كان لا يزال ثمة بلد في العالم يستعمل هذه الكلمة "إذا الإنسان خلق أعمى أو أطرش، هيدا خلق متلنا إنسان، الإنسان ما بعمرو بكون معاق، بس نحنا عنا مجتمعات ودول معاقة". ولإيجاد حل لمشكلة الطلاق للمرة الثالثة، حيث أن "أبو حسين" كان قد طلّقها مرتين قبل آخر طلاق مدوّن على إخراج القيد العائلي، يتوجّب على إم حسين حسب الشريعة الإسلامية أن تتزوج أحدًا آخر وتحصل على الطلاق منه حتى تتمكن من الزواج من "أبو حسين" من جديد.

كتب الكاتب المسرحي الألماني فريدريش شيلر أن مشاهدة المسرح الحي هي قطعة تعليمية قوية، ويضيف: "إن رؤية الشيء أمام أعيننا هي دائمًا أقوى من الوصف. ولذلك يمكن تعزيز فهم القوانين إذا تم استخدام المسرح لعرض حقائقها"، ومن هذا المكان سيعمل مندلق وشاراباتي على تفكيك مفاهيم متوزعة بغير تساوٍ بين أفراد المجتمع بهدف إحداث تغيير ما. سيصحبنا العمل إلى حكايات عديدة في مجتمعاتنا، أغلبها عن المرأة، حكايات تعكس قصص كثيرات، أغلبهن غلبهنّ الصمت، وإحدى تلك الحكايا قضية من القضايا المزمنة والممعنة في الحزن في المجتمعات الشيعية والمحاكم الدينية، وهي قضية الطلاق، فإم حسين ستتزوج من رجل من قريتها بعد الاتفاق على أن يطلقّها بعد أسبوع، ولكن الزوج لن يفي بالعهد وسيشترط عليها أن تؤمّن له فيزا للهجرة إلى أميركا كي يطّلقها، في إشارة إلى تفرّد الرجل بقرار الطلاق ووضع شروط قاسية على المرأة ليوافق على تطليقها. لكن القصة ستمرّ بلغة إنسانية مشبعة بالسخرية والفكاهة.

ثمة إشارات أخرى تتساءل عن ماهية الدين في هذا الزمن، تقول إم حسين: "شو عم يصير، الأخ بيسرق خيّو، الرجال عم تبيع نسوانها، إبليس علّم الناس على النصب والغش وعمل الحرام وكتبوا كلن على رزقن ‘هذا من فضل ربي‘!!"، وفي مكان آخر تتساءل عن سبب انتحال أخي زوجها صفة أخيه لتطليقها "أبو طارق للي بيضل حامل مسبحة وعم يصلي!". وحين عودتها إلى أميركا دون الحصول على الطلاق سترى "أبو حسين" متزوجًا من امرأة جميلة ويشربان النبيذ، وهنا يطلّ علينا الكاتب مندلق بمشهدية أخرى منسوخة من مجتمعاتنا، فأبو حسين يخبر إم حسين أنهما لا يستطيعان العودة للعيش سويًا في بيت واحد قبل الطلاق من زوجها الجديد فتقول له: "ريحة المشروب واصلة لأول الشارع، بشي وشي لاحقلي الشرع والدين... يللي بدو يلحق الشرع والقانون، يا بكل شي بيلحقو، يا لاء، مش شغلات وشغلات بيختار، شي بيلحق وشي ما بيلحق".

مشهدان من العرض


سندخل مع مندلق وشاراباتي في سياقات متعددة، هي رسائل صوتية قوية المعنى، وخفيفة الظل في الآن نفسه، "الطلاق صار موضة، إذا الطبخة طلعت مش طيبة، زوجها بيطلقها"، وعن المرأة عندما تصبح متقدّمة في السن ويهملها الزوج ويقرّر تبديلها، وعن عقد الزواج الذي يجب أن يتضمن تاريخ صلاحية، وعن التطبيل للزعيم، وعن زعماء السلطة اللبنانية الذين نهبوا أموال الشعب. ولن ينسى الصديقان السخرية من الشارع الأميركي في حديث إم حسين عن طليقة ابنها "ع كل شي بتجبلي البوليس، إذا شمّت ريحة المجدرة بتجبلي البوليس...". ومن الموضوعات التي يتطرق لها العمل، قضية اللجوء إلى أصحاب السحر والشعوذة من أجل "الكتيبة" وكيف تكون النتيجة سرقة أموال هؤلاء اللاجئين إليهم.

وكثيرة هي الضحكات المرسلة في فضاء العمل، تكاد لا تعدّ، ومنها "من وقت للي الله عاطاني اياكِ بطّلت استرجي أطلب منو شي/ - أنا ما رحت ع لبنان بأيام الكورونا، وين رحنا بأيام الكورونا- رحنا بالعرض بأيام الكورونا/  - أي سنة خلقان - سنة للي ماتت فيها المرحومة ستي- والمرحومة ستك أي سنة توفت- سنة للي انتحرت فيه مارلين مونرو- إي مارلين مونرو انتحرت لما عرفت إنك جيت ع هل الدنيا/ الجنس الأنثوي جنسين، جنس لطيف وجنس يا لطيف".

ويستحضر مندلق أقوالًا شعبية من المجتمع اللبناني- العربي، منها: "بدك تشوفني، يشوفك إبليس بجهنم/ ريتك تطمّي حالك يا إم حسين... يبعتلك مرض التاني بالفراش والتالت بالإنعاش...  معلمة شو، تعلّم العصا ع جنابك. عزرايل يقبض روحو ع روحك".  

يختم شاراباتي ومندلق العمل بمحاولة الطبيب إقناع إم حسين أنها ليست مريضة، وأنها فقط عانت من عدد من المشاكل بشكل متلاحق ما يشبه طبقة فوق طبقة على صدرها، حتى أصبحت لديها طبقات من الحزن فوق بعضها البعض، فتخبره أنها تخاف من أن يعرف الأصدقاء والجيران أنها تستعين به كي لا يقولوا عنها إنها مجنونة، وهم يقولون لها إن الطبيب النفسي سيسحب منك أموالك. سينصحها الطبيب بتجاهل الجميع وأن تكون مثالًا لهم في الاعتراف بحالتها. هي العودة إلى البداية للتذكير بأن الثيمة هي هنا وتنسحب من نفس المستوى كل المفاهيم الأخرى التي تطرّق لها العمل.

حتى آخر دقيقة من العمل الممتد على ساعتين، سيمسرح مندلق الواقع المرير للمرأة، حيث سيتشاجر أبو حسين مع مرزوق، الزوج الجديد لإم حسين، أمام الطبيب النفسي، ويصرخ كل واحد منهما بالآخر لتطليق إم حسين فتصرخ فيهما: "شو ربطة فجل عم تشتروني، أو سيارة بالمعرض مين بيدفع أكتر بياخدها، أنا مرا عندها احترامها، عندها كرامتها، مش صرماية بتشلحوها من إجركن ساعة للي بدكن، وساعة للي بدكن بتردوها... المرا خلقت للأمانة مش للإهانة". 

"ما إلي غيرو" لناجي مندلق وعزيز شاراباتي عمل مكثّف بالوقائع المستعملة في كل بيت عربي، بالرسائل والإشارات التي تعبّر عن المرأة العربية المظلومة، والأجمل أنه مكثّف بالفكاهة اللامتناهية من أول كلمة وأول فكرة حتى آخر كلمة وآخر فكرة في العرض، بكاريكاتورية ذكية تُحضر مكونات الفرح في الوقت نفسه الذي تشرّح فيه مجتمعاتنا العربية وتفكّك خيباتها وانكساراتها، وقساوتها أحيانًا.  

   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.