}

"أحداث بلا دلالة".. أسئلة السينفيلي بمواجهة الواقع والفن السينمائي

محمد بنعزيز محمد بنعزيز 14 أبريل 2022

 

هذا مخرج شاب يعمل في سينما مغربية ناشئة يبحث عن موضوعه وأسلوبه. ماذا سيصور وكيف؟ يعرف أن عليه تجنب الأسلوب الكلاسيكي لتصوير فيلم... لكن ما البديل؟

ينزل إلى الشارع ليستقي الجواب من الشعب مباشرة، يدخل حانة شعبية فيها كتالوغ متنوع من الشخصيات، يصادف زبونًا يطلب كأسًا أخيرة ويعيش نزاعًا تافهًا مع باقي الزبناء... نزاع بلا دلالة.. إنه فيلم "أحداث بلا دلالة" (1974)، إخراج مصطفى الدرقاوي. 

يبدو أنه وحدها الحكاية ذات الدلالة تستحق أن تروى...

يتساءل المخرج: من أين تنبع هذه الحكاية؟ هل من الواقع أم من السيناريو المتخيل؟

الواقع مصدر إلهام... هل نتبعه أم نلتزم بالسيناريو الأصلي المتخيل؟

من خلال الأجوبة التي تلقاها المخرج الحائر:

تلاحظ شابة أن مشكلة الفيلم المغربي هي أنه إما يكون غامضًا جدًا بعيدًا عن مستوى الجمهور أو يكون مُستسهلًا يقدّم أشياء معروفة للجميع... لذا نفتقد أفلامًا تدفع المتفرجين للحفر في الموضوع وفهمه واكتشافه بالتدريج.

بين اتهام الفيلم بالغموض أو بكثرة التبسيط... وفي أوج الجدل يعلن سينفيلي هذه الجملة الكارثية:

 "كل واحد يفهم سينماه كما يريد".

وأثناء نطقها صدر صوت من خارج الكادر ذكّر الفريقَ التقني بسطوة الواقع على ما يفعلونه فتوقفوا... وكان مهندس الصوت تقنيًا أجنبيًا.

بينما يتم تجميع الآراء هناك حدث دال يتكرر في الفيلم، والحدث هو توجيه سؤال للمستجوبين عن ما هي السينما التي يفضلونها؟

 فيجيبون:

- إنها السينما المغربية.

وحين يُطلب منهم ذِكر فيلمهم المفضل يعجزون عن الجواب.

يتكرر السؤال: ما رأيك في السينما المغربية الأن؟

يأتي الجواب وفيه تصور عن كيف يجب أن تكون في المستقبل.

فجأة طالب متحدث بأن يتم أولًا تصوير أفلام مغربية وبعدها يمكن الاستمتاع بتصوير وثائقي لتوجيه السؤال له: ما رأيك في السينما المغربية؟

بالتوازي مع تلقي أجوبة الشعب يجري جدال بين أعضاء فريق التصوير:

من يسبق، الواقع أم الإبداع؟

هل نصور ما يجري حيًّا خامًّا أم نُحاكي ونبني ديكورًا ونجلب ممثلين؟

هل نصور سينما فرجة وتسلية مثل السينما المصرية أم سينما ملتزمة مثل سينما أميركا اللاتينية؟

لقطة من الفيلم



هل سنصور العنف الاجتماعي الحقيقي بين الطبقة الكادحة والطبقة البورجوازية أم سنصور العنف المزيف مثل ذلك الذي تعرضه أفلام الكاراتيه والويسترن سباغيتي؟

يلتقي فريق التصوير الروائي محمد زفزاف ويقدم جوابه:

"إن مهمة السينما هي أن تروي قصص الطبقة الكادحة... يجب على السينما المغربية أن تكون ملتزمة ومعبرة عن انشغالات الجماهير، سينما تطرح مشاكل سياسية... سينما مغربية بعيدة عن سينما التسلية المصرية وقريبة من سينما أميركا اللاتينية... مطلوب من السينما المغربية بأن تتناول مشاكل الحثالة  lumpenprolétariat لا مشاكل البرجوازية".

بعد مناقشة جواب الروائي صور المخرج شخصًا يحاول بيع سمكة في حانة يطلب بعض زبنائها سجائر...

بينما يسأل المخرج زبناء الحانة عما ينبغي تصويره كانت قصة تتشكل تدريجيًا على الهامش لتتقدم في النصف الثاني من الفيلم وتصير في المركز.... وقعت جريمة.

توقف النقاش بين السينفيليين أعضاء فريق التصوير للتعامل مع الواقع، لفهم واكتشاف أبعاد الجريمة... لقد قتل رئيس عمال في الميناء، هذه جريمة عمل وليست جريمة فردية... يحتمل أن الكثير من العمال في ميناء الدار البيضاء يرغبون في قتل رؤسائهم.

هذا واقع طارئ يفرض نفسه على السيناريو الأصلي، ما العمل؟

يجب التحرك فورًا وإلا فإن الوقائع ستتبدد قبل تصويرها... هنا تضيء النظرية التجربة، كما تختبر التجربة كل الثرثرة النظرية المتعالمة.

وبما أن المخرج يحمل تصورًا مسبقًا لعمله، يبحث عن أسلوب يمثل الحياة بدل الاكتفاء بعرض الواقع الخام فإنه مجبر على ابتكار الأسلوب أثناء التصوير. المخرج المؤلف يهمه الشكل الفني، وهو مخرج لديه نظرية لكل شيء.

هكذا يعرض فيلم مصطفى الدرقاوي بدقة كيف يطرح المخرج نظرته للسينما ووعي الممارسين بها. جدل يندرج ضمن خيارات سينما المؤلف بين جماليات الأسلوب وقانون السوق. تناهض سينما المؤلف كل متعة سهلة لذلك لا يهمها السوق، وهذا يهددها بالإفلاس.

تعكس بنية الحكاية وعيًا شديدًا بقوانين السرد، فهناك قصة إطار وقصة مُؤطرة لا ينتبه لها المتفرج طيلة أربعين دقيقة... فيلم سبق زمنه، ما يوحد الفيلم هو مفهوم يخترق ويمتد في كل لقطاته وليس وقائع مختلفة... يكمن الذكاء في التصميم، في وضوح الخطاطة ومقروئيتها سواء أثناء الاستجوابات أو أثناء متابعة جريمة وقعت صدفة على هامش تصوير الميتا سينما، أي تصوير حوارات عن اللغة الواصفة في السينما.

إدراكًا لسطوة الواقع الذي لا يرتفع صار المخرج محققًا بوليسيًا... يقرر القاتل أنه حين تسكن في المدينة الكبيرة يجب أن تحمل سكينًا، في المغرب يفهم السينوفيليون أنه حين تقف في الشارع تحمل كاميرا فأنت تغامر...

كان المخرج يطرح أسئلة تقوده لاكتشاف أن الحبكة المفقودة لديه، كانت تجري بجانبه ولم ينتبه لها... وفجأة يتلقى المخرج سؤالًا صفعة من شخص غاضب: كم من قدم قبّلت ليُسمح لك بالتصوير؟

صدر الفيلم في عام 1974 ومنع واختفى تمامًا من المشهد الثقافي المغربي لمدة 45 سنة، وانتشر اعتقاد مفاده أن الفيلم فُقد تمامًا، إلى أن ظهرت نسخة منه في خزانة إسبانية في برشلونة، تم ترميمها وعرض الفيلم في مهرجان برلين 2019. وقد وصف المخرج مصطفى الدرقاوي ذلك بأنه معجزة.

كيف يُمنع فيلم يعلن جهارًا أنه يحكي أحداثًا بلا دلالة؟

يبدو أن الرقيب الحذر قد اكتشف دلالات مزعجة فوجه ضربة للمخرج.

إن فيلم "أحداث بلا دلالة" أشبه ببيان (مانيفيستو)، يكشف نوايا ودوافع ويحدد اتجاهًا وما زال يحتفظ بحيويته الفنية، فيلم يطرح أسئلة السينفيلي في مواجهة الواقع وفي مواجهة الفن السينمائي.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.