}

تناقضات السينما اللبنانية.. ماضٍ لا يمضي

أحمد محسن 11 أغسطس 2021
سينما تناقضات السينما اللبنانية.. ماضٍ لا يمضي
ملصقات أفلام لبنانية


احتفلت الأوساط السينمائية اللبنانية قبل أسابيع قليلة بجورج نصر، المخرج اللبناني الأول الذي أخذ إلى مهرجان "كان". ومناسبة الاحتفاء، في حد ذاتها، تدل قبل كل شيء على لهفة السينما نفسها للتحدث باسم المكان خارج حدوده، وعلى لهفة اللبنانيين، في دورهم، إلى مكان أكبر في هذا العالم، الذي هو السينما في هذه الحالة. في جميع الحالات، تبدو السينما اللبنانية مأهولة بالماضي. وليست السينما هي جميع الأفلام، وليست الأفلام المسماة التجارية ضمن الفئة التي نتحدث عنها. ما نتحدث عنه هو السائد في السينما، أو ما يمكننا أن نصفها "السينما المكرّسة"، بشروطها وتخيلاتها عن "الخير والشر"، عن الطهارة والنجاسة، عن الآخرين كآخرين في جماعات أخرى، وعن الحرب كمؤسسة مرشحة دائمًا لإنتاج المادة الفنية. سيخطر في البال فورًا سينما الرحابنة المنقولة عن المسرح، وعن سردية تاريخية قابلة للتشكيك. وقد يتبع ذلك سلسلة تصورات عن ثيمات الحرب، الجماعات، الطوائف، العلاقات مع الجيران العرب، القضايا الكبيرة. لا تحضر المدينة، ولا يحضر الجسد، ولا الفلسفة، إلا في ما ندر. ليس هنالك أفراد في السينما اللبنانية إلا قليلًا، الجماعة تحظى بدور البطولة دائمًا، وقصصها هي السائدة والطاغية على الأعمال عندما تصير ناجزة. باستثناء محاولات مخرجين قلة، فإن هنالك سينما لبنانية مكرّسة، في مكانها، تحفر عميقًا في هذا المكان، وتبحث عن نفسها فيه، وكلما ابتعدت قليلًا اصطدمت بالتناقضات وعادت إلى مكانها.



قلق الجماعات ومآسيها

المخرج اللبناني الراحل جورج نصر


يمكننا الحديث عن ثلاثة خلافات رئيسية في تحديد مكونات الهوية اللبنانية المعاصرة، تتجاوز اسمها كخلافات، وبحدة استخدامها إلى درجة العنف يمكن القول إنها تناقضات. وعندما نقول معاصرة فهذا يعني أننا نتحدث عن آخر مئة عام. التناقض الأول يبدأ مع الجيل الأول من المخرجين اللبنانيين، حول جوهر الهوية اللبنانية نفسها، والاعتقاد الأول بأن السينما كان يجب أن تكون انعكاسًا لهذا الجوهر وللخلاف حوله. انطلق هؤلاء من حيث ينطلق المخرجون عادةً، من الزمان والمكان الذين يكونون فيه. يسمعون أصواتًا ويشاهدون صورًا وأحداثًا. يتخيّلون أيضًا، ولا يجب أن يملى عليهم الخيال. وهذا ما يفسر التناقض بين نظرة أحد "الآباء الروحيين" للسينما اللبنانية، جورج نصر، وبين مخرجين آخرين من الجيلين الثالث والرابع.




آمن جورج نصر بأن السينما اللبنانية يجب أن تكون مرآة لهواجس المجتمع (المأزوم) الذي خرج منه. ولذلك، تأثر بالمهاجرين اللبنانيين في أميركا، وصنع فيلمه الأول "إلى أين"، وكان واضحًا أنه يحث الآخرين على البقاء، انطلاقًا من تجربة شخصية، لكنها لا تخرج من إطارها الجماعي. في فيلمه الثاني، نضجت هواجس المخرج جيدًا، التي هي هواجس المجتمع الذي خرج منه، على أعتاب جولات القتال الأهلي الطويل. في "المطلوب رجل واحد"، الذي بقي يعرض في سورية لوقتٍ طويل، وهذا مفارقة هائلة، كان نصر يبحث عن "الغريب" في قريته، والقرية هي الوطن إلى ذلك الوقت، الذي لم تكن السينما اللبنانية فيه، مثل الهوية، الخروج المتأخر إلى المدينة. أما "الغريب"، فصار صنوًا رخوًا لأيديولوجيا ما انفكت تزداد صلابة بالتزامن مع سنوات الحرب القاسية. كان نصر، كما بيّنت السنوات اللاحقة، أي سنوات الستينيات والسبعينيات في أولها، في أفلامه، خصمًا خاسرًا للطرف الآخر من الهوية اللبنانية، إذ أنه، ولعدة أسباب، انتصر الميل إلى العروبة في فترة ما قبل الحرب، على ذائقة اللبنانيين، فطغت الأفلام المشتركة تحت سطوة السينما المصرية ولهجتها على الإنتاج. بمعنى من المعاني، كانت تلك فترة صعود خطاب عربي/ قومي وجد أصداؤه في الشاشة الكبيرة، وفي عيون جماهيرها المستجدين، وقد استفاد هذا الميل من أدوات الإنتاج وشروطه التجارية إلى حدٍ كبير، ولكنه لا يرقى إلى استفادتها من قوة الميل إلى خطاب عربي، على حساب الانغلاق في القرية اللبنانية الصغيرة، كمحاولة مستمرة للانكفاء عن المحيط وحماية الخصوصية. كانت السينما اللبنانية في بدايتها انعكاسًا واضحًا لهذا الصراع الهوياتي، وكان هذا التناقض الأول في بنيتها، والسينما في النهاية ليست إلا تراكم التناقضات ومحاولات علاجها بالرواية والتوثيق، بالنفي والتأكيد المستمر، لقلق الجماعات ومآسيها. كانت السينما اللبنانية منذ البداية انعكاسًا لقلق الجماعة اللبنانية، واجتماع الجماعات مع بعضها في جماعة واحدة، هي مأساة القلق.



الحنين ضدّ التجريد

نادين لبكي وزوجها الموسيقي خالد مزنر في بيروت احتفالاً بجائزة مزنر عن الموسيقى التصويرية لفيلم "وهلأ لوين؟" من إخراج لبكي (8/11/2012/فرانس برس)


تحاول السينما دائمًا تقديم إجابات لسؤال الفردانية، ولأسئلة الجماعات. لكن مكان الفرد في الجماعة محدد مسبقًا في النظام الجماعاتي/ الطائفي في لبنان، وهذا ما أدى إلى تحديد موقع الجماعة في السينما، وقيّد حركة الأفراد والجماعات، على حد سواء، داخل السينما. وهذا مدخل أساسي للقول إن التناقض الثاني يتسلل بوضوح من الأول. تبدو أدواته تقنية، لكنه يقوم على خلفية فلسفية أيضًا: التجديد ضدّ الحنين. في بدايتها، كانت السينما مجهولًا، وتاليًا كانت نزعة من نزعات التحرر من الواقعية والانطباعية، أي أنها، في لبنان، مثل بقية العالم، كانت يجب أن تسلك مسلكًا طبيعيًا باتجاه التجريد، على الأقل في روحها. لكن المفاجأة كانت هي استمرار التأثير المسرحي على السينما. في زمن كانت بيروت تواصل صعودها كمدينة، قبل أن تبدأ سلسلة انكساراتها في الحرب، وجدت السينما اللبنانية نفسها أقرب إلى الأداء المسرحي/ الغنائي، رغم حضور مخرجين كبار، مثل هنري بركات، ويوسف شاهين، اللذين أخرجا أعمالًا تعد من كلاسيكيات الشاشة الكبيرة لبنانيًا، للأخوين رحباني وفيروز. حافظت القرية اللبنانية، وتحديدًا القرية في جبل لبنان، على مكانتها في العمل السينمائي اللبناني، عندما يكون لبنانيًا صافيًا، وبذلك بقيت سينما "محافظة" تقاوم المدينة والتحولات الكبرى في المدينة. وكما حضر جبل لبنان كمركز في تاريخ لبنان الحديث، حضر كذلك في بدايات السينما الحالية، على نقيض واضح من تطور الإنتاج، وتحول بيروت إلى مركز للإنتاج السينمائي العربي، تحديدًا بعد تأميم السينما المصرية خلال الحقبة الناصرية.




التناقضان الأولان قابلان للتفكيك، إلا أن التناقض الثالث يبدو أشد تعقيدًا، وانطلق من حقبة الحرب. وفي الأوساط المتابعة للسينما اللبنانية، يقال إن هذه السينما بقيت لوقت طويل سينما الحرب، أو سينما الماضي، التي تعاني من أزمة كبيرة هي الحاضر. أزمة الحاضر، وغياب الحاضر في حد ذاته. الإصرار على الاستمرار في الماضي، بما هو ماضٍ لا يمضي، وغير مؤهل لذلك، على ضوء الحاضر نفسه. وهكذا ظهر مارون بغدادي، الذي كان مخرجًا مميزًا، وصاحب تجربة غير قابلة لأن تتكرر، لأنه يكاد يكون، حتى نهاية الحرب، مخرج الحاضر الوحيد. كان بغدادي ملتزمًا أخلاقيًا وسياسيًا، مثل جيل كبير من المخرجين الذين جايلوه، بالقضية الفلسطينية، فأخرج "أجمل الأمهات"، والتف حول الحرب في "حروب صغيرة"، محاولًا انتزاع السمة القدرية عن النزاع الأهلي اللبناني، وتصوير الأمور من زاوية سينمائية تتكئ على وقائع لتنطلق إلى السردية، ولا تكتفي بالخيال والأسطورة كما كان رائجًا في سينما الحنين إلى القرية سابقًا.
انتهت الحرب واستغرقت السينما وقتًا لكي تمسح الآثار عن وجهها، وفجأة، اكتشفت أن الماضي ترك ندوبًا. لكن تجاهل أشياء كثيرة لم يعد ممكنًا. اكتشفت السينما اللبنانية المدينة والحقيقة، اكتشفت أن لها صوتًا خاصًا، يمكنه السطوع فوق الأصوات الأخرى. صحيح أن المجتمع هو السينما، والسينما هي المجتمع، والمعادلة نفسها معكوسة تنسحب على السينما والخيال، وعلى السينما والحقيقة، لكن الحرب بقيت حاضرة كمادة جذابة، كمحاولة لتضميد الذاكرة. وفي الخطوات الأولى للخروج من النفق، ظهر "كاراميل" لنادين لبكي، وسبقه "بيروت الغربية" لزياد الدويري، الذي بدا أشبه بسيرة ذاتية خرجت عن إرادة صاحبها، وصارت محاولة أكبر من حجمها لرواية سيرة 15 عامًا. الرواية الأصلية والحاضر يبقى في أعمال بغدادي لاتصاله بالزمن، ولكن يحسب لشريط الدويري أنه مصالحة مع الماضي، ومحاولة لتجاوزه، قبل أن يكتشف الدويري نفسه في "القضية رقم 23" أن ثمة ماضيًا لا يمضي.



محاولات مستمرة

مارون بغدادي 


يمكن لهذه التناقضات أن تكمل بعضها بعضًا في أفلام جديدة، مثل "درس في التاريخ"، أحد وثائقيات هادي زكاك، التي تحاول طرح الأسئلة في البداية، والوصول إلى إجابات غير نهائية، أو حتى في أفلام نادين لبكي التي تثير الاهتمام والنقد والسجال، ما يجعلها أفلامًا على حافة الحقيقة، مهما تفاوتت ردّات الفعل حولها، من فرط الثناء، وصولًا إلى اعتراض حاد. ويمكن لهذه التناقضات أن تتصارع. لكن ثمة فارق كبير يبدو واضحًا بين الأفلام الثلاثة التي مثلت لبنان في "كان" رسميًا، وحازت تقديرًا بدرجات متفاوتة، ثلاثة أفلام تبدو متناقضة إلى درجة أنها لا تبدو وكأنها خرجت من مكان واحد، ومتصلة ببعضها اتصال الأحداث اللبنانية ببعضها بعضًا. تبدو أفلامًا ناجية، أخرجها ناجون، عن أشخاص يحاولون النجاة.




في "إلى أين" لجورج نصر كانت الشاشة اللبنانية تبحث عن نفسها في الضوء. وكان الجمهور يبحث عنها من دون مبالغة في التقديرات أو التصورات، وكان بالفعل مكتفيًا بالتصورات الكولونيالية التي ما كانت غير خاضعة لما يكفي من النقد. وعلى الأرجح، وجده النقاد عام 1957، في مهرجان "كان" الفرنسي، مادةً إكزوتيكية، تحاكي التصورات عن شعوب مُستَعمرة، تحاول الهجرة إلى العالم الجديد، ولكنها في الوقت نفسه متمسكة بالتقاليد التي تشكّل عوائق أمام الحداثة. ولا يقلل هذا من أهمية الشريط، فقد كان محاولة هائلة في زمانه للنجاة من فِتنة الغرب. الفيلم الثاني هو "حروب صغيرة" لمارون بغدادي. وبغدادي يختلف عن الجميع، ليس لأنه صاحب مواقف سياسية لم تكن مألوفة في زمن الحرب اللبنانية وحسب، بل لأنه كان تجديدًا بالمعنى السينمائي للكلمة، وانتقل من أساطير الجماعات النوستالجية المؤسسة لكيانية لبنانية ملتبسة، انفجرت في الحرب وما زالت تتشظى، إلى ما يمكننا أن نطلق عليه ببساطة محاولة سينمائية للتحرر من هيمنة الأسطورة وقداستها على بناء سرديات، إلى درجة لم يكن تجاوزها ممكنًا. الفيلم الثالث، أي "سكر بنات" لنادين لبكي، مثّل الخروج من النفق. نفق الحرب ونفق الماضي، والنظر إلى الأمام، فطرح قضايا على مقاس الحاضر من دون ابتذال، وفي إطار سينمائي لم يكن معتادًا من قبله، مثل الجنسانية والعلاقات العابرة ومسائل الحرية الشخصية، من دون أن يستطيع مقاومة غواية التعددية الدينية في لبنان. المفارقة أن شريط لبكي الثاني حمل عنوان "وهلق لوين" [والآن، إلى أين؟]، حيث يبدو كإعادة للسؤال نفسه الذي طرحه نصر قبل عقود. كان نصر يعترض على الهجرة في اتجاه الخارج، وكان الاعتراض في حد ذاته على "العالم الجديد" مألوفًا، حتى في سينما عملاقة مثل السينما الإيطالية، مع الأخذ في الاعتبار أن الفارق في المعالجات كان شاسعًا. مع لبكي، كان السؤال عن وجهات "داخلية"، وبدا شريطها محاولة لإرضاء الجمهور نفسه، الذي ينظر إلى لبنان بعين كولونيالية، وكان إخفاقًا بذلت لبكي جهدًا واضحًا لتصحيحه في شريطها الأخير "كفر ناحوم"، من دون أن تنجح في اكتساب مناعة كافية ضدّ خيال الجماعات على حساب السينما، ومن دون أن يلغي ذلك أن أعمال لبكي الثلاثة هي أعمال سينمائية ناجحة، في أجواء مشحونة تضع ضغوطًا رهيبة (لجهة الرقابة وصعوبة متعاظمة في إيجاد التمويل)، بالإضافة إلى ضغوط معنوية، مثل الوضع السياسي المأزوم، والرقابة الطائفية المقوننة والمسلطة على السينما. كانت محاولات جادة ولامعة من ضمن المحاولات ما زالت مستمرة لطرح الأسئلة، قبل الذهاب إلى الأجوبة. المحاولات التي ما زالت مستمرة من أجل ظهور "سينما لبنانية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.