}

بول كلي وأثر رحلته إلى تونس

أسعد عرابي 9 أغسطس 2019
تشكيل بول كلي وأثر رحلته إلى تونس
إبحار السفن للفنان بول كلي (1927/Getty)
قد يكون المعلم بول كلي (1880 - 1940)م من أكبر مبشري الفن المعاصر في أوائل القرن العشرين، ومن أبلغ المتأثرين الرؤيويين ببصيرة وتنزيه الفن العربي - الإسلامي، خاصة إثر رحلته الشهيرة إلى تونس مع زميله أوغست ماك (1887- 1914)م، ولويس ماييه (عام 1914)م. وهو يعترف في حينها "بأني أحس لأول مرة بأني مصوّر مع ألوان وشموس تونس". وفي المقابل فقد يكون الفنان الأشد تأثيراً تبشيرياً بخصائص تجريده وحروفياته في منطلقات الحداثة الفنية العربية، فهو أسبق وأشد عمقاً من الإهلالات التأسيسية للحروفية في بغداد. علينا أن ننتظر روحانية "جماعة البعد الواحد" بريادة شاكر حسن آل سعيد، هذا وإن كان لا بد من استدراك أن الحروفية كمعنى صوفي أسسها النسيمي (أذربيجاني، وقبره قائم في حلب) قبل قرون من بول كلي، وشاكر حسن.
لعلّ كلي أيضاً أشد انحيازاً من أي فنان تراثي عربي إلى الجوهري في الذائقة الروحية. وهو عنصر المحراب الأشد شيوعاً ومركزية في المساجد الإسلامية. وهو الذي يعتبر البوصلة المعمارية والتنظيمية على مستوى المسجد الجامع المركزي، والتنظيم الحضري في تقاليد المدينة الإسلامية. ويعتبره بول كلي في دراسة بالغة الحساسية الأشد أصالة في أدائه الفني، ما بين ترصيعات تقعره في مركز "جدار القبلة" بأنواع صناعات النور والنار والتوهج والسطوع والانعكاس: من شظايا السيراميك والفسيفساء المزجج ومشكاة أنواع الرخام مثل الأبلق
واللوحات الخطية الملونة بالثلث وسواه من الطرز المقدسة، مثل "كلما دخل عليها زكريا المحراب". والنص التحليلي المذكور على قيمته الاستثنائية محفوظ في اليونسكو. واستعنت به كاملاً في أطروحتي الأولى في علم جمال الفن الإسلامي (جامعة السوربون) عام 1987م.

ثم أنه الأول الذي حقّق علمياً التواصل بين النواظم الموسيقية والنواظم البصرية التجريدية؛ هي التي تنبأ بها لأول مرة قبله بعقدين مؤسس علم الجمال المقارن العالم والفيلسوف الفرنسي إتين سوريو في كتابه: "التواصل بين الفنون". أما أبرز قائدي الأوركسترا في فرنسا وهو بيير بوليز (الذي يعود إلى مقارعاته فضل إنهاء فيلهارموني باريس) فقد حقق كتاباً رائداً (منهج علم الجمال المقارن) يعقد فيه تواصلاً استثنائياً بين تجريدات بول كلي، ونوطات مؤلفاته الموسيقية (فهو الوحيد في تاريخ الفن المصور المحترف والموسيقي المحترف في آن واحد، كان عازفاً للكمان في فرقة البلدية الرسمية في ميونخ ألمانيا). عنوان الكتاب "الأراضي الخصبة لدى بول كلي"(*). ونحتفل اليوم بذكرى مرور مئة عام على زيارته لتونس. ولم يصل إلى مستواه في الرهافة التوليفية الموسيقية التشكيلية إلا كوبكا في الأربعينيات في باريس.


"عليكم بالشعر"
من الضروري استدراك كنه انحياز بول كلي إلى "الذوق الوجدي" التصوفي وليس العقيدة الإسلامية بالعموم. هو ما كان يرمي إليه كلي وتوأمه الروسي المهاجر واسيلي كاندينسكي (مكتشف التجريد عام 1908م) ومن خلال نشاطهما التربوي في مدرسة الباوهاوس وجماعة "الفارس الأزرق". ويرمي الاثنان بتعبير "ما هو روحاني في الفن" إلى أن هذا البعد يتحقق من تواصل فنون السمع مع البصر في برزخ الحدس أو القلب (بمعزل عن الدين). وهو ما أثبته العديد من كبار المتصوفة مثل عبد القاهر الجرجاني الذي يتحدث عن "روحانية الشعر بمعزل عن الدين". بل إن عصر النهضة العربي برجالاته المتزامنين مع عصر بول كلي درجوا على تأويل النص القدسي بمنهج أدبي مجازي إثباتاً أن بلاغة هذا النص ترد من كونه بياناً بليغاً إبداعياً يحمل إعجازاً أدبياً إلى جانب كونه وحياً يوحى (وما علمناه الشعر ولا ينبغي له). لكن السيوطي يؤكد أن من يحرّمون الشعر يحرموننا من متعة الإعجاز القرآني. بل إن أحد المتنورين ينصح بأنه "إذا أشكل عليكم شيء من القرآن فعليكم بالشعر فإن الشعر ديوان

العرب".
ويذهب د. نصر حامد أبو زيد أبعد من ذلك في كتابه "خطاب التحريم" فيعرض في المقدمة ما معناه بأنه: لا نعرف ما إذا كان الدين أسبق من الفن أم العكس، ويورد قرينة مثيرة يستحضر من خلالها رسوم عصر الكهوف (في التاميرا ولاسكو وشوفي) وأن الفنان البدائي كان يصور طريدته مصابة بالسهم قبل أن يصيدها ويصيبها سهمه، في هذا المعنى التشكيلي وخياله السحري المرسوم التنبؤي ابتدأت الحاجة إلى العقائد الدينية الشفائية أو الطقوسية عامة.
بل إن أعلام المتصوفة مثل مولانا جلال الدين الرومي (تلميذ ابن عربي) يرون في الذوق طريقة للوصول إلى "الحق"، وهو يقول: "كثير من الطرق تقود إلى الحق، أما أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص". ودعونا ننصت إلى السيوطي حين يؤكد أن "من لا تحسس أذنه الموسيقى لا يدخل قلبه الإيمان". وحين سؤال الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية ومؤسس بلاغة عصر النهضة العربية، عن رأيه في تحريم التصوير، ابتدأ بقوله "لا يمكن أن تكون الحضارة العربية الإسلامية معادية للفنون الجميلة" ثم استطرد نقاط الإثبات ومنها سوء الفهم اللغوي.

***

عليّ الاعتراف بأن بول كلي قد يكون من أعمق المؤثرين في بناء لوحتي من الناحية الغنائية أو الموسيقية منذ بداية الستينيات. ونحن لم نعرف أنه يدين باليهودية (ولا يهمنا أو يؤثر في موقفنا الإيجابي منه شيئاً) إلا عندما طورد من النازيين، وذلك عقب إغلاق مدرسة الباوهاوس ثم إحراق لوحاته مع سواه في ميدان عام بتهمة "الفن الفاسد" عام 1936م. فاضطر لأن يهرب من ألمانيا إلى سويسرا كلاجئ، ليطلب الجنسية بعد ذلك.
سنعثر في تاريخ اليهودية السابق على نماذج وضّاءة على مثال بول كلي أكثر من اليوم. لنتذكر هنري برغسون وقوة فلسفته الروحية بعنوان "الديمومة". يعرّف التجربة الصوفية بأبلغ تعريف بأنها "التأليه الدائم للوجود" فإذا لم يكن يعرف العربية مثله مثل بول كلي (الذي كان يخطط تكاوين الأحرف العربية دون معرفة ألفاظها)، فإن برغسون بدوره كان يقرأ ابن عربي والنفري والنابلسي وابن الرومي والمقتولين: السهروردي وابن سبعين والحلاج وسواهم بالفرنسية. ونعثر على بصماتهم في بعده الروحي (بمعزل عن الدين) فهو يهودي اعتنق الكاثوليكية. وهذا شأنه ولا يعنينا في شيء، ما يعنينا هو التسامح مع المتسامح منهم مثله ومثل بول كلي وليس مع العنصري اليميني المتطرف القادر على رمي كل ما هو انتماء مخالف له بـ"اللاساميّة"، وحتى يدفع بعض المثقفين العرب عنهم هذه التهمة يتحولون إلى معاداة كل ما هو عربي بالمفهوم الحضاري. ابحثوا مثلا عن المسؤول عن تغييب مشاركة أهم فنان عربي محمد القاسمي عن تظاهرة الفن المغربي في معهد العالم العربي مؤخراً لأنه خلال حياته كان متعاطفاً (وبمنتهى الدماثة والاعتدال مع الحق الفلسطيني). فلعنة اللاسامية حتى لو كانت ملفّقة تلاحق المبدع حتى بعد وفاته.


أصل تعبير "لاسامية"
العديد من القراء يجهلون أصل تعبير "لاسامية" الذي كان لا بد منه وقاية من الفرز العنصري الذي ينال من الأصول السامية سواء العربية منها أم اليهودية. تعود هذه التفرقة إلى أواسط

القرن التاسع عشر (العهود الاستعمارية)، ثم انتعاشها ما بين الحربين في القرن العشرين (مع صعود النازية). تهيأ لي الاطلاع على نموذج من المؤرخين الفرنسين الذين يقفون مع هذا الفرز التقويمي حضارياً، للفصل بين أصلين إثنولوجيين: العرق الآري التفوقي حضارياً الشمالي الذي يقع بين ألمانيا والهند مروراً بفارس، والعرق السامي الجنوبي المتخلف فكرياً وفنياً. وهو تقسيم لا يعتمد على أي أساس. فالفرق في الحضارات الرافدية مثلاً (العراقية القديمة) بين السومريين والعلاميين من جهة الآريين وبقية الحقبات الحضارية ابتداء من الأكاديين وانتهاء بالآراميين والكنعانيين (الفينيقيين) الساميين، لا تكشف سوى التراكم والتواصل المعرفي واللغوي المسماري قبل النسطري ثم العربي وسواهم. وكان لا بد من هذا التصحيح القانوني الدولي الذي يساوي بين الأعراق والمذاهب.
لعله من الجدير بالذكر أن تهمة اللاسامية في أغلب مجتمعاتنا العربية توزع جزافاً مع شيوع النميمة وبطريقة مجانية غير مسؤولة بعكس نظيرتها في القانون الأوروبي، فالنميمة يعاقب عليها القانون كما يعاقب العنصرية بأنواعها عند ثبوتها بالأدلة القاطعة.
يحضرني في النهاية ما جرى في غمرة مساجلات وحوارات الندوة العالمية للفنون التي كان يشرف عليها الناقد المحترف وكوميسير بينالي القاهرة أحمد فؤاد سليم (مدير متحف الفن المصري المعاصر). تقام هذه "الندوة" بالتوازي مع عروض البينالي كل سنتين ويدعى إليها المختصون بدرجة وكفاءة عالية مثل الدكتور مصطفى الرزاز، وكنت مساهماً في اقتراح العديد منهم الفرنسيين والعرب مثل جيرار أغسيروغيرا أو فنانين يعنون بالفكر النظري مثل مهدي مطشر، مشاركاً بدوري بتعاون بالغ العناية والجدية. بعض من هذه المداخلات كانت باللغة الإنكليزية، أو مترجمة فورياً عن العربية تنتهي بوقائع مؤتمر نقدي، تنافس بأهميتها كاتالوك وعروض البينالي الذي أصبح عالمياً ومتفوقاً على نظيره في فينيسيا. وكانت دوماً العناية ببول كلي وابداعاته فضفاضة باعتباره بوابة رحبة للحداثة والمعاصرة وبرزخ (مثله مثل بيلا بارتوك) متوسط توليفي شمولي بين قيم الموروث الفني العربي والخصائص الألمانية في الدعوة إلى التشكيل الشمولي من خلال الباوهاوس وجماعة الفارس الأزرق. هم الذين اكتشفوا أهمية روبير دولونوي فدعوه للعرض مرات عديدة وفاتتهم أهمية كوبكا.
تسرب في إحدى ندوات (دورة بينالي القاهرة للعام 1992م) خلسة وبسرية تامة وبعبور تحت طاولات الجميع كتاب نقدي تكفيري صاحبته الناقدة زينب عبدالعزيز، التي تحمل لقب الدكتوراة في التربية، وتدرّس في الجامعة، وهي اسم معروف خاصة وأنها ابنة وزير سابق

مشهور، أما عنوان الكتاب فكان استفزازياً مفرطاً في الديماغوجية والأمية والتبشير النقدي الدهمائي دون حدود في الإسفاف، ودون حدود في إدانته غير المعلنة للمشاركين في جلسة حوار نقدي وجمالي حول معنى الحداثة وراهنية الاتجاهات المتقدمة في العالم. يعالج فيما معناه العلاقة بين الصهيونية والاستعمار والتجريد وبول كلي وبيكاسو في كتاب عنوانه: "لعبة الفن الحديث بين الصهيونية - الماسونية وأميركا" دار الزهراء - القاهرة 1990م. والواقع عكس ما ترمي إليه مرضية العنوان، فإسرائيل لا تعانق إلا فناناً تجريدياً واحداً نصفه فرنسي مقيم في باريس هو آغام، وهو الذي استثمر النقوش السينيتيك للسجاد الإسلامي والكنعاني مصمماً "بحيرة الديفانس" في بداية السبعينيات، وبالعكس فإن هذا الاتجاه كان يقوده الهنغاري فكتور فازاريللي الصديق الحميم للقضية الفلسطينية، تبرع لصالحها مرات عديدة من لوحاته. وتعرف عليه من خلال المرحوم سمير سلامة، هو التجريد المستقى أصلاً من الموروث الهندسي الإسلامي من فنون الرقش والأرابسك. إذاً أطروحة التآمر بين الصهيونية والتجريد لا تخلو من أمية في تاريخ الفن، كذلك الربط بين الصهيونية وعنصرية الاستعمار وبول كلي المتسامح بامتياز، وأكبر صديق كما رأينا للحضارة العربية الإسلامية، ودفعتني غيرتي عليه لأن أتبرع بالرد التفصيلي على مغالطات وأحقاد الكتاب. ووزع النص الحاسم الرد على وسائل الإعلام ووكالات الصحافة، وأعدت نشره بعد فترة كاملاً في كتابي: "وجوه الحداثة"(**)، وبإمكان القارئ مراجعته في الكتاب المذكور، أو على الانترنت. وأحسست يومها وكأن الكتاب التسللي ما هو إلا استمرار لنظرية "الفن الفاسد" لدى نازية 1936م.

هوامش:

(*) - 1989 Pierre Boulez la pays ferlila- Paul Klée , Gallimard.
(**) منشورات دائرة الثقافة والإعلام. "جائزة النقد" بينالي الشارقة عام 1999م.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.