}

يوسف جاها: اللوحة محراب نهضوي

أسعد عرابي 13 أبريل 2019
تشكيل يوسف جاها: اللوحة محراب نهضوي
(يوسف جاها)
تقيم "مونو غاليري" معرضاً للرائد يوسف جاها ليس كبقية المعارض؛ ففناننا يسيطر على ناصية اللوحة بموهبة استثنائية. تعرّفت على بهاء منهجه منذ عدّة عقود ولا يزال يملك سطوته الذوقية، رغم وعورة مرحلته الحروفية.
تشع درره التشكيلية بمناخات روحانية ترتبط نسبياً بمسقط رأسه في العتبات المقدسة في مكة عام 1954م، حيث يقيم محترفه ومعتكفه الاعتزالي الزاهد. ولا شك في أن التصاقه بنورانيتها لعب دوراً في استلهام لوحته التربيعية (المنزهة عن أدنى درجة من التشبيه) من قزحية فراديس تربيعات السيراميك. وذلك قبل أن تتعملق تربيعاتها لتتجاوز أبعادها ما بعد المتر، بتأثير من رحابة المدرسة النيويوركية لما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم انتقال جسدها الفارع بالعدوى متجاوزة حدود الأطلسي إلى أوروبا. لكن لوحة جاها حافظت رغم قياسها الحضري العولمي الحديث على خلوة مزاجها الحميم: "الوجداني - الوجدي - الوجودي"، والقدرة من جهة أخرى على الاقتحام الشمولي لأبعد المحترفات والتيارات، أقصد انخراطه في زمان اليوم والغد. هو مشروع لوحته "النهضوية" التي توازن وتؤاخي بين الذاكرة الذوقية وفلسفتها الروحية المحلية (مثل رسوم المنمنمات والمخطوطات وحلياتها وتقاليد الخروج من هندسة الصفحة إلى الهامش ومنظور "عين العنقاء"، مثله مثل تعددية مصادر الإضاءة وغيرها من تفاصيل ومخاتلات التنزيه). ثم من جهة أخرى القدرة النهضوية على التواصل مع الآخر (مخترع تقاليد لوحة الحامل في أوروبا وأميركا).

* * *

تعتمد معراجيّة ألوانه وخطوطه وتكويناته على حدسية قلبية تجلياتية، لا تحتمل تعديل الطفرة القدرية الأولى البكر بالمحسنات البديعية. هي إذن نوع من الحضرة البصيرية الإلهامية. في

هذا "المدى"، وهو عنوان المعرض، تبدو العناصر التشكيلية متحررة من ضوابط تشريح بعضها البعض. فالخط لا يتطابق مع المساحة اللونية، لأن العنصرين يعومان في فضاء ناري كوني متفتّت برفيف النور والنار (هو ما سميّته في معرضي الأخير "إطفاء الجمر في الصقيع"). نتخيل في الحالتين تلاقح الطبيعة وعنف صراعاتها، مما يحيل المساحة اللونية الصمّاء إلى صائتة توقيعية لحنية كما هو التواصل بين البصيري والسماعي. أي يرتشف رفيف نقيضه في القلب، وبمعزل عن الحواس المنوطة بإدراكه مثل السمع والبصر. نعثر هنا على البعد الروحي والتعبيري معاً، على برزخ فنون الشرق والغرب، أي على صهر مفهومين متباعدين من التنزيه العرفاني والتجريد الاختباري الغربي.

- "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة".. النفّري
يجمع جاها في صبوته الاختزالية: أولاً توخي الزهد البصري في الفنون التراثية خاصة المنمنمات أي رسوم المخطوطات، الأشبه بالعرائس الكرتونية المقصوصة ببعد ثنائي دون حجوم، شأنها شأن وصول تأثيرها على الحداثة الغريبة عن طريق صديق الثقافة التشكيلية العربية المعلم الفرنسي هنري ماتيس. هو الذي بلغ في تسطيحاته للمساحات الموسيقية اللونية حدود قصها بالمقص، ولصقها مباشرة في مواقعها الفراغية ضمن طبوغرافية روحية. هو ما وصل بميراثه إلى حدود "النحت المنمالي" في نيويورك، حتى تحولت "المنمالية" (الاختصارية) إلى تيار أساسي ما بعد حداثي. هو سليل ثقافة الاقتصار على لب اللباب في الشعر، والذي يعرّفه المتنبي بـ"الفن الإلماح" مختزلاً عبارة أن فن صناعة الشعر تعتمد على الإلماح أكثر من التصريح، تناغماً مع حكمة: "في البلاغة الإيجاز" و"اجعلوا من رسائلكم تواقيع".. إلخ. تقنع تصاوير جاها بالقليل من عناصر الوجود الأولى: "النار - الماء - التراب - الهواء" ، تنقلب فيما بعد إلى رموز دلالية خيماوية بسيطة: الغيمة أو السحابة، التلال أو الوهاد، النخيل أو شجرة الحياة؛ قبل أن يرسو على التجريد الراهن.

2 - موروث النهضة العربية في التشكيل
يتآلف في مشاهده (مناظره) وتكويناته الحميمة مواصفات التنزيه الشرقي، وخصائص التجريد الغربي، وذلك ضمن برزخ نهضوي موروث، من حركة "النهضة العربية" (هي التي انتعشت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين). تبشْر هذه "النهضة" بالانفتاح على ثقافة الآخر، دون أدنى خوف على الخصائص الثقافية، ودون التفريط بالثانية. وبالتالي شمولية امتصاص رحيق التقدم التقني والبحثي في أوروبا وأميركا. هي الدعوة المتوازنة التي تجابه سرطان العزلة الأصولية، وسرطان التهجين الببغائي التغريبي.
تحضرني على وهن ذاكرتي أسماء متباعدة، منها راغب عياد، وسعيد العدوي، مروراً بالجزار ومحمود سعيد في مصر، ثم الدويهي، والباشا، وعبود في لبنان، يليهم فاتح المدرس، وصولاً حتى فؤاد دحدوح، مروراً بصابور في سورية، وفي المغرب نهضويون، مثل المليحي، ومحمد القاسمي. وفي تونس، كل من محمود الكامل، والتريكي. وفي الختام، سليمان، وشقرا، وتيسير بركات، في فلسطين، وهكذا.
يعتبر جاها بالنتيجة الممثل النموذجي لجحافل الفنانين النهضويين العرب. وقد يكون أعلى هامة في محترفه المحلي في هذا المقام.

* * *

يستحوذ جاها على كل ما يتناغم روحياً في المختبر الحداثي النيويوركي – الباريسي، مع ذائقته التصوّفية. يؤالف مثلاً بين تقاليد التكوين الحلزوني الجبري المسيطر على تأليف المنمنمات،

والنظام المروحي البؤري في تكوينات التجريديان بولياكوف ودولوني كما يزاوج بين خطوطه السوداء الحدسية ونظائرها لدى كل من أرشيل غوركي وفرزناي، ناهيك عن استثماره لروحانية العلاقة اللونية التأملية في رؤوس وليام دو كوو ننيغ، ثم مسطحات ماتيس ودوستائيل. ويصل في ترحاله هذا إلى زاد جماعة الكوبرا فيتناظر مع لطخات أسجر جونس (خاصة النيلية الزرقاء منها) وغيرهم.
ابتدأ العرض منذ أوائل مارس/ آذار 2019 مستمراً خلال شهرين، أما مدير الصالة فهو سوري من عائلة دمشقية عريقة يدعى مؤمن مسلماني. ويعانق المعرض ثماني وعشرين لوحة حديثة ويستحق وقفة تأملية لما يثيره من أسئلة تشكيلية عربية.

3 – التوقيع الخطي والتلحين اللوني والتواصل بين المرئي والمسموع
تجمع تقنية ألوانه المساحات المشبعة الساطعة بحدّتها القزحية القصوى مع مجاورتها (بنفس اللوحة) لتهشيرات صباغية متراكبة لونياً (أشبه بتقنية أقلام الباستيل ورفيفها الضوئي المرتجف). إذا كان أسلوبه في الأساس ينخرط في التجريد الغنائي (مدرسة باريس) فإن كمونه الروحي المشرقي يعبق بشخصية متميزة، تنحو منحى التواصل بين النواظم الموسيقية والبصرية، بحيث تصبو حشرجة المساحة الصباغية لأن تكون صائتة. هو أحد أسرار أصالة جاذبيته المغناطيسية المتحولة أبداً. فالألوان تملك حناجر للغناء، ومقامات للتلحين والتوقيع. فالتنزيه يفترض رفع الحدود بين حاستي السمع والبصر ضمن بصيرة وسماعي القلب (أو الحدس) الروحي. أما التنّقل من لوحة إلى أخرى في المعرض فيماثل الارتحال بين الشرق والغرب على بساط ريح علاء الدين.
وهنا لا بد من استحضار مذكرة فيلسوف الارتحال والضرب في أرض الله الواسعة "ابن بطوطة" حين يقول: "أسعى جهدي ما استطعت ألّا أسلك طريقاً كنت قد طرقته سابقاً". وهكذا بذل ابن بطوطة سنوات عمره في رحلة حج وطواف متباعد حول الكعبة (خلال أربع دورات) لا تعرف في عبورها البحري أو البري أي تكرار، مثلها مثل التربيعية المثيرة المطلة على مطلق يوسف جاها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.