}

إضاءات الفن القطري المعاصر في معارض تعددية

أسعد عرابي 2 فبراير 2019
تشكيل إضاءات الفن القطري المعاصر في معارض تعددية
"ملامح قطرية"- لوحة جاسم الزيني
ليس غريبًا أن تحفل الأشهر الراهنة بحضور متعدد الوجوه للفن التشكيلي القطري المعاصر، ليس فقط لأننا شهدنا منذ فترة قريبة معرضًا بانوراميًا استثنائيًا في برلين (كرافتفيرك عام ٢٠١٨م) ثم مدريد، وكما يجري حاليًا في أحد متاحف إستانبول (بشقيه النخبوي والحرفي) وقبله البرازيل، وما جرى منذ فترة من نظائرها في موسكو، بل أيضًا لأننا بانتظار متلهف لافتتاح متحف الفن العربي المعاصر بعد فترة قريبة في الدوحة. أقول إن هذا غريبًا ليس على دفقة الحداثة والمعاصرة في حركة التشكيل القطري وديناميكيته التعددية - الشمولية التي انفجرت منذ أوائل الستينات، وبالذات بعد عام ١٩٥٦م، تاريخ بدء نشاط البعثات الأثرية الأوروبيّة واكتشاف مستحاثات ذاكرة النقوش الصخرية في شمال شبه الجزيرة (وقبل ذلك أنعش اكتشاف النفط عام ١٩٤٩ م الازدهار الثقافي مع المعيشي). لم يكن تأثير هذه التواريخ منعطفًا أكيدًا وحاسمًا وسريعًا، إذ كان علينا أن ننتظر حتى تكتمل الأبجدية السيميولوجية كظواهر مبكرة لإشارات الفن التشكيلي والتي ستتجدّد مع نهضة أوائل الستينات سواء بصيغة إرادية أم حدسية.
يدّعي هؤلاء الأثريون، الذين أشعلوا النار تحت رماد الفن، بأن بحوثهم عبرت من العصر الجليدي إلى الحجري إلى البرونزي إلى الطقس المعتدل وصولًا إلى الصحراوي. لكنّه من العبث تحرّي هذا اليقين الأنطولوجي السحري الموروث دون النظر إلى أن البيئة الحاضرة
والحاضنة للفن التشكيلي مزدوجة التأثير: من البحر إلى البادية، عبورًا من العناصر التنظيمية الحضرية. أي أن التراث الموروث يتلاطم رغم تراكم خبراته بين تجربة البحر من صيد الأسماك إلى غطسات اللؤلؤ الخطرة، مسجّلة عناصرها على محفورات المراكب وتصفيقهم وأناشيدهم والأبواب الشعبية والبيوتات التقليدية وصولًا حتى ازدهار صناعة النسيج (السدو) بألوانه الموسيقية المحلية المشعّة والتي كانت تصدّر إلى العالم الخارجي من خلال رحلات الشتاء والصيف، وطرق الحرير والبخور متصلة بالطريق الذي يصل مدينة البصرة بواسط.
ترجع إذن الرموز الأنثربولوجية إلى حقبة ما قبل التاريخ (أبعدها خمسون ألف عام) أي «الباليوليتيك» المنقوشة في الصخر والمغائر وعبر محفورات المراكب الشراعية والكبيرة، والأبواب والبوابات. ولا ينكر هنا تأثر الفن الإسلامي بعد تمايز صناعاته الذوقية بما يخص حضرية الحرفيات، المضافة إلى المحيط البدوي الذي غذّى بصوف الماعز والأغنام والجمال حياكة الأنسجة الملونة والخيام، ضمن واحات النخيل حول مناهل المياه العذبة.

أعلام نهضة الحداثة في قطر

كما أن جواد سليم يمثل التأسيس النهضوي للفن العراقي، ومثله راغب عياد في مصر أو صليبا الدويهي في لبنان وفاتح المدرّس في سورية وسليمان منصور في فلسطين، فإن جاسم الزيني هو الرائد الأكيد الذي انبثقت موهبته التعددية لتؤسس لخصائص الفن القطري المعاصر منذ بداية الستينات. فقد استهل نشاطه التشكيلي في الاستغراق التعددي في خزان هذا التراث. وعبر من المحفورات الذاكراتية العاطفية على المراكب العتيقة، بل وصمم نموذجًا عنها رصّع محترفه بها، ناهيك عن نشاطه الحرفي في تزيين الجدر الحضرية بالطريقة التراثية بتقاليدها المتراكمة، ثم انتقل إلى أنواع الحفر من المعدن: صفائح الزنك أو النحاس (مقابلات النيكاتيف والبوزيتيف في الطباعة)، وصولًا حتى الليتوغراف (الطباعة الحجرية)، مرورًا بالسيريغرافي (الطباعة على الشاشة الحرير)، وذلك قبل أن يرسى على تقنية التصوير واللوحة.

وتعتبر لوحته الأشهر من نار على علم «ملامح قطرية»، ١٩٧٢م، رمزًا لنهضوية خصائص المحترف القطري، ووضعها الرائد الثاني من الجيل الثاني يوسف أحمد غلافًا لكتابه الذي خصّصه لهذا المعلّم. وتمثل اللوحة مرساته الأسلوبية وذروة التعبير الذوقي الصوفي المتأثر بروحانية منهج المنمنمات الإسلامية (رسوم المخطوطات) المنزهة عن التشبيه.

لا شك في أن موهبة المرحوم جاسم الزيني (١٩٤٢- ٢٠١٢) غطت على معاصريه. فقد ابتدأ يظهر منذ عام ١٩٦٧م بعد إتمام دراسته في بغداد. وتوفي مبكرًا في ذروة عطائه مدرسًا في التعليم الجامعي وكثير الأسفار والاطلاع قبل أن يصبح مديرًا لمتحف قطر الوطني، وكان تقلّد مسؤولية أول رئيس للجمعية القطرية للفنون التشكيلية.

الانتقال من الزيني إلى يوسف أحمد يوازي الانتقال من هاجس الأصالة إلى صبوة الحداثة، دون أن يتخلّى الأول عن نهضوية الحداثة والثاني عن تجذّر الموروث.  فهو مرب فني جامعي، أما حياكته للسطح التعبيري – التجريدي الرحب فتبتدئ من الوحدات الحروفية الذرية. وهو ما قاده إلى استحواذه الدراسي العالي في نيويورك لمدرستها ما بعد الحرب العالمية الثانية المعروفة بالتعبيرية -التجريدية. كذلك فإن سعة دراساته العليا، وتعددية أسفاره وعلاقاته الفنية المحلية والعالمية، جعلت منه الأشد ثقافة وانفتاحًا وخصوبة مخبرية في نحت السطوح والمواد بأنسجة «وخيميائيات» متعددة الوجوه. وصلت تحديثاته إلى كسر «لوحة الحامل» ومضاعفة عدد اللوحات في اللوحة الواحدة حتى وصل إلى دائرة القمر كدائرة تجريبية تكسر نمطية تقاطع حدود اللوحة وزواياها الحادة. هو أشدّهم شهرة بدليل حصده للجوائز البينالية الكبرى مرات ومرات على مستوى قطر ومجلس التعاون (سعفة الكويت الذهبية) وجائزة بينالي القاهرة ثم البينالات العالمية وهكذا. وتحضرني حروفية تعبيرية موازية لفنان جزائري رائد لا يقل أصالة هو بن عنتر، تملك لوحته نفس الناصية العالمية ابتداءً من حياكات الأحرف العربية (بنفس الاستحواذ على مدرسة نيويورك). يملك كل منهما تمايزًا وقوّة شخصية تباعد بالنتيجة بين حساسيتهما الخاصة.

تقع الرهافة الروحية التصوفية للرائد الثالث علي حسن الجابر بين الاثنين، فتواصله الرحمي بثقافة ذاكرة التراث تتصل بروافد الزيني، وتواصل كرافيكية حروفيته تتواءم مع حداثة مراسي يوسف أحمد الأسلوبية. لكنّه أقرب إلى الحساسية المشرقية من الأطلسية، وذلك لارتباط حداثته عضويًا بالتوحد الصوفي بين الموسيقى والتخطيط الحروفي. يبتدئ ذلك من خلال تطويره للأداء اللوني، فالمقامات التي ينجز تهشيراتها بأقلام الباستيل الملونة تكاد تختفي الحروف تحت كثافتها الأشبه بتدرجات النوطة الموسيقية. وكثيرًا ما يقتصر في اختزالاته وزهده: «إن الحروف أمة من الأمم» على حرف «النون».

هو خطاط مجيد ومثقف بصريًا وأدبيًا، يتقن جميع طرز الخط وفق أصولها الموروثة منذ ابن مقلة وابن البواب والمستعصمي وعثمان، من الثلث إلى الكوفي والرقعي والنسخي وفروعها، لكنّه استقر ذوقيًا بصريًا وروحيًا على طراز «النص التعليق». هو حروفي تجريدي تغيب هيئة الحرف وتحضر وفق الحضرة الوجدانية- الوجودية- الوجدية لسماعياته المقامية. من النادر بين الحروفيين، الذين ينسخون تجارب التجريد الغنائي الأوروبي ما عدا الذين تحولوا إلى التجريد (مثل يوسف أحمد وبن عنتر)، من يعرف أصول الخط والحرف. يحتكر في تاريخ المعاصرة والتجريد هذه المعرفة الصوفية اثنان، علي حسن ومنير شعراني، ذلك لأن مؤسس الحروفية ليس شاكر حسن (جماعة البعد الواحد) وإنما المتصوف النسيمي وقبره في حلب. تتراوح إذن غبطة البصر والبصيرة والسماعي لدى هذا الفنان الرهيف بين شطح الحرف والمقامات اللونية، هي التي تبتلع في حالات الوجد سيميولوجية الحرف.

القطب الرابع هو فرج الدهام الذي يقع على رأس التعبيرية القطرية. فالجسد البشري في تكويناته التكعيبية يتـشظى وتبتر أعضاؤه ما عدا قدميه، ويتخلق من ذاته في تحولات تجريدية لا نهائية تستثمر كرافيكية الإشارات العدمية من نقاط إلى ضرب وشطب وإلغاء وإعادة بناء ضمن منهج بالغ الأصالة لكنّه يقع على حدود الأسلبة بسبب وضوح منهجه التربوي، رغم مختبره المخاطر والمغامر.

الخامس هو التعبيري سلمان المالك. تتظاهر في تكويناته مقصوصات (سيلويت) بشرية شبحية، غالبًا ما تمثّل نسوة بملاءاتهنّ وألبستهنّ التقليدية المبسّطة. لكن الأمر أصبح ذا دلالة مركبة، يعبر عن هياكل بشرية مقزّحة بألوان بركانية «وحشية» حادة محكمة التناوب بين الغامق والفاتح، الحار والبارد، أشد أسلبة بسبب وضوح نسقه الأسلوبي وارتكانه إلى محفوظات أشكاله البشرية، رغم بلاغة كل مرة من تمفصل عناصر التكوين.
يبدو حسن الملا أكثرهم تنوعًا واحتشادًا في عناصره الرمزية التراثية الحرفية الفولكلورية. ولا يستهان بدوره التربوي والإداري الحاذق والمتوازن ونشاطه الحيوي الكثيف في تعددية حضور معارضه ومسؤوليته في الجمعية القطرية للفنون التشكيلية.
الواقع أن كل من هؤلاء الرواد الذين ورد ذكرهم يحمل مسؤولية إدارية وتربوية لا يستهان بها، ابتداء من قيادة الزيني لمتحف قطر الوطني المؤسس عام ١٩٧٥م، مرورًا بقيادة علي

حسن للمركز الشبابي، وصولًا إلى النشاط التعددي ليوسف أحمد ما بين التدريس في الجامعة وجماعة أصدقاء الفن التشكيلي في مجلس التعاون وغيرها كثير.
بقي العديد من الأسماء مثل إبراهيم السيد والأنصاري والأخوة الكواري وفنانين تطبيقيين أو نظريين مثل محمد علي عبد الله المتخصص بتاريخ الفن من أوهايو عام ١٩٨٥م وغيرهم. ولعل أكثر ما يميز المحترف القطري كثافة نشاطه ومبادراته الفردية المتحالفة مع الرسمية، مثل انفجار عدد الجمعيات الخاصة وشراكة الفنانة الأنثى كل مرة مع الفنانين الذكور دون تمييز، ثم حشود المشاركات في المعارض المحليّة والخليجية والعربية والعالمية وحصد الجوائز كل مرة (بنموذجها يوسف أحمد) أو تبادلها كما يجري حاليًا. وكل هذا ناهيك عن نمو فن الحفر بأنواعه والنحت والإنشاءات والفوتو والفيديو، وبقية وسائط ما بعد الحداثة، وناهيك عن معارض الهواء الطلق والمرسم الحر.

انزلقت بعض الأسماء من الذاكرة، والكثير منهم لا أعرفهم لأني أنتمي إلى جيل الزيني. لعلّ تنامي البعثات ونمو مستوى القسم الفني في الجامعة المحلية طبع ولأسباب أخرى فناني المحترف بالثقافة النخبوية، وسهولة الاطلاع، على مثال مكتبة الشيخ حسن آل ثاني الفنية الأشد تنوعًا وثراءً من نظائرها في أي بلد عربي وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. أما مجلة «الجسرة الثقافية» فكان لها إشعاع خاصّ تشكيلي (أعتزّ بأني كنت مسؤولًا عن ملف التعريف بالفنانين العرب الملوّن).

متاحف الفنان الشيخ حسن آل ثاني

وهنا لا بد من الإشادة بمساهمة الشيخ حسن آل ثاني في ازدهار المحترف القطري، ويعتبر بمثابة «ميسينا» تاريخية نادرة في الشرق العربي. ومثله مثل آل مديتشي في فلورنسة (عصر النهضة الإيطالي) أو الملك الفرنسي فرانسوا الأول، الذي رعى الفنان ليوناردو فينشي، واستقدمه من روما حتى توفي بين أحضانه. والميسينا هنا تعني العاهل المشجع والراعي للفنون، وهو ما ينطبق على مسيرة الشيخ حسن، فهو مثقف كبير وفنان وجامع للكتب والوثائق ذات الموضوعات الاستشراقية أو النهضوية، حتى أصبحت مجموعته لا تقدر بثمن لندرتها وضخامتها، فحوّلها إلى مكتبة عامة للمختصين والباحثين والمناظرات والمحاضرات. ثم إنه قضي قسطًا من عمره يجمع أندر لوحات المستشرقين ورسومهم وكتاباتهم خاصة خلال حملة بونابرت على مصر والمشرق، وخصص لهم متحفًا خاصًا من أشهر المتاحف المختصّة في العالم: «متحف الاستشراقيين» في الدوحة، يعانق فنانين كبارًا بمستوى أوجين دولاكروا وإيتين ديني وتورنير وسواهم. ثم بذل ما يقرب من عقدين في اقتناء أعمال أشهر الفنانين العرب حتى أصبحت مجموعته الأهم والأشدّ موسوعية، تعانق لآلئ نادرة لعلي طالب وشفيق عبود وضياء العزاوي وشاكر حسن وفاتح المدرّس ومروان وصبري وعيادة والزيني. وتضمّ مثلًا عشرات اللوحات التي أنجزتها خلال نصف قرن. ونحن بانتظار افتتاح متحفه بعد فترة قريبة.
لعله من الجدير بالذكر أن الشيخ حسن كان بلسمًا يمسد جروح فناني العراق خلال الاحتلال. وأذكر أن النحات والمصوّر فتاح الترك، الذي أصيب بالسرطان بسبب قصف الراديوم، خصص له محترفًا لنحت النصب حتى توفي في الدوحة.
ولا شك في أن لمستشاره الفنان المعروف عالميًا ضياء العزاوي دورًا في مساعدة أبناء عراقه في الدوحة (على ما أعرف أن يوسف أحمد أيضًا كان مستشاره أيضًا).
لا ينكر إذًا ما كان للشيخ حسن من دور في دعم المتحف الإسلامي بمجموعته النادرة من الأسلحة، ناهيك عن نشاطه ومسؤوليته في هيئة المتاحف. وكانت جملة المعارض الراهنة والسابقة واللاحقة فرصة للتعرض إلى مسيرة ازدهار مواهب الحداثة والأصالة والمعاصرة في المتحف القطري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.