}

غياب علي صابوني: "المدرسة الحموية" في الفن التشكيلي

أسعد عرابي 18 فبراير 2019
تشكيل غياب علي صابوني: "المدرسة الحموية" في الفن التشكيلي
علي صابوني في محترفه
ها هو الفنان المختص بالتعبير عن «الصمت» علي صابوني. ظل يرسم، حتى لفه «الصمت». فغادرنا إلى الأبدية في ختام العام الفائت، ولم يقدّر له أن يعبر إلى عامنا الراهن ٢٠١٩م. وهكذا استمر بوفاته نزوح قوافل المعلمين عن نير جهنم القيامة الشاميّة.
هو من مواليد حماة، عام ١٩٤٠م، وأبرز أشقائه الفنانين: الأكبر مخلص صابوني كان رئيسًا لقسم التصميم الداخلي في كلية الفنون الجميلة، منذ تأسيسها في بداية ستينات الوحدة. فكلّف بتصميم النصب الثلاثي القائم في ساحة التحرير، يطلّ على مدرجاته طابقا الكلية. لا يزال حتى الآن شاهدًا على متانة نحته. أما الأخ الأصغر ماجد فقد تخرّج بدوره من كلية الفنون قسم التصوير (وبتفوّق مثل أخيه علي) كانت تعبيريته أشد عبثًا واستفزازًا وحداثة منه. لكن علي ظلّ أشدهم موهبة راسخة، لذا اختير مدرسًا في سنواته الأخيرة لمادة الرسم والتصوير في الكلية.
عرف بلون «الأهرة»، أي لون البيوت الطينية الحموية ومقاماتها الصفراء المحايدة الرهيفة التي تتمايل درجاتها برفق ما بين البرودة والسخونة. تبدو اختزالاته وزهده وتقشفه اللوني أشد رهافة من صوفية أواني موراندي الإيطالي ومن زجاجات نيكولا دوستائيل الوجودية الفرنسية. شارك منذ الخمسينات بتأسيس رابطة الحلقة الفنية في حماة.

شهادة فاتح المدرس
استنجدت في هذا المقام بنص كتبه المعلم الأكبر فاتح المدرس يقدم فيه المعرض الشخصي الأول لعلي صابوني، وذلك في قاعة نقابة الفنون الجميلة، عندما تسلّم فاتح مسؤولية رئاستها لفترة. وهو مؤرخ في عام ١٩٨٣م أي بعد عام من مأساة أحداث حماة. لا يخلو النص من العتب على تأخره في المعرض حتى الأربعين من عمره، خاصة وأنه تعرف بقدراته الموهوبة عن قرب لأنه كان أستاذه في الكلية. في تلك الفترة كان علي مع زميله نشأت يحتكران بالتناوب العلامة الأولى. استرجعت المقاطع البارزة كالتي ترتبط بشدة اتصال حساسية تصويره برحم بيئته في «حماة بلد أبي الفداء. ذلك الوادي الجميل الذي تزوره البادية السورية على

مدارات الفصول الأربعة»... ثم يؤكد أن علي: «يحمل في ذاته ظلال وألوان البساتين من الحيز الجغرافي المذكور. ثم النهر الغامض والتلال العتيقة... والبيوت الريفية. يغلف شخصه الهدوء الذي تميز به وسماحة في الخلق ووضوح في رؤية الأشياء: لون رصين شفاف محاور. أينما صور سواء في دمشق أم ليبيا أم الكويت إلخ.. نعثر على صمت حدائق العاصي وأنين نواعيرها» ضمن شجن مستديم.
لعل أبرز ما جاء في هذه الشهادة: التواصل الرحمي الروحي والرهيف بين مناخات هذه المدينة الأشد سحرًا وفردوسية وتلغيزًا وجاذبية معمارية وطبيعية متلاحمة وبين خصائص التيار التشكيلي التنزيهي (بالمعنى الصوفي) الغالب على مدرسة فناني حماة، ويقع على رأس هذه المدرسة علي صابوني وتوأمه نشأت الزعبي، ثم مصطفى النشار وعبد اللطيف الصمودي وإبراهيم جلل وحمود شنتوت وآخرون أفلتوا من الذاكرة.

العلاقة الأسلوبية مع البيئة الحضرية
لعلّ أهم أسباب تفوّق المدرسة الفنية الحموية أن فنانيها يعيشون في مرسم طبيعي يدعى باسم هذه المدينة، أجمل وأخصب وأغنى وأشد عراقة وأصالة، خاصة من ناحية تنظيمها المعماري الذي يعانق دررًا من النماذج المعمارية الإسلامية، ابتداءً من جامع أبي الفداء، وهو أحد أبرز سلالة صلاح الدين الأيوبي، أو جامع النوري، أو الكبير، وعشرات غيرها. إضافة إلى القصور النخبوية الزاهية كما هو حي الكيلانية الساحر أو قصر العظم أو الحمامات المدهشة مثل الدرويشية. تهدم أغلبها مثل سواها. تتعشّق هذه التحف النموذجية الطبيعة الخلابة المطوقة لنهر العاصي الميثولوجي، يصل عمره حتى غور الستة آلاف عام بما يحفه من صخور ملغزة، ترصعت على ضفافه سبع عشرة ناعورة تعكس تطور الميكانيك في بلاد الشام في العصر الإسلامي أبرزه المهندس «الجزري» الذي ترك لنا ثروة مفقودة من أجهزة الميكانيك (كتاب في الحيل الهندسية) التي تعتمد على تحول الطاقة في عروض الإنسان الآلي (الروبوهات) والساعات المبرمجة، نجد بعضها في رسوم كتاب ليوناردو فانسي في روما (عصر النهضة).
يرتبط العاصي بذاكرة عادة سباحة الأطفال في بركة ماء حتى هزيع الليل. أضف إلى كنوز هذه الصور الذوقية الملهمة مثل تقاليد عناية الفنانين التشكيليين بالموسيقى الشرقية الحميمية، فقد كان يعطر في كل مرة سهراتنا المشتركة مع علي صابوني ونشأت الزعبي زميلهم التشكيلي والعازف المجيد على آلة العود وهو بديع العوير بين تقاسيم ومواويل وألحان ومقامات، ذلك أن الإنشاد الصوفي كان يتعشّق جلسات السلطنة في حماة، بطرقها من الشاذلية إلى النقشبندية وسواهما. هي حاضنة تمايز التيار التشكيلي الغالب على مدرسة حماة المسافرة إلى دمشق (حيث مركزية كلية الفنون الجميلة)، وكان إذًا على رأس هذه الحساسية الغبطوية اللونية

الخاصة التوأم المتكامل المرحوم علي صابوني ونشأت الزعبي. بينهما توحد وتكامل واستقلال قوة الشخصية الأسلوبية التوأمية، تسربت إلى لوحات الاثنين المناخات الحموية التي عاشا تجربتها منذ الطفولة. تخصص علي بالمشاهد الحضرية العامة المجزأة بصيغة مدماكية فسيفسائية وفق المدرجات الموسيقية لنوطات السلم اللوني، وتخصص نشأت بالمقابل بالعالم الروحي الحميم (وأشواق زمان الوصل) في الحمامات الشعبية وسواها. كثيرًا ما كان علي يصوّر عزلته الليلية في أمسيات دمشق بحيث تنداح درجاته الحموية الرهيفة في شدق دماسة العتم المطلق. عرف عنه في مراحله الدراسية الصبوة التجريبية في ترويض اللون، وكتم أنفاسه بالصمت التأملي الروحي الفلسفي وكأنه يصوّر العدم أو اللاوجود وحالة خواء الصفر. نحسّ دومًا بهذا الحزن والأنين الخنسائي الذي يسيطر على نواعير بلدته، والاستغراق في النفي الشبحي لسديم تراتب البيوتات المنضدة على طرفي منعكسات النهر.
سافر علي صابوني بعد تخرجه ليعمل في ليبيا، وسافر نشأت إلى الكويت، والصمودي إلى الشارقة، والنشار إلى جنوب فرنسا، وإبراهيم جلل إلى باريس، وهكذا. ما إن عاد علي صابوني إلى دمشق ليدرس في الكلية حتى توجهت دفته الأسلوبية لتخيل بانورامية المعارك الكبرى في التاريخ الإسلامي. ولقيت نجاحًا بسبب مستوى رسمها وتكويناتها الإعجازية برغم تواضع التوثيق في الأزياء والأسلحة وسواها.

بانوراما المعارك الكبرى
لا شك في أن متانة علي صابوني الاستثنائية في الرسم وإحكام تنظيم طبوغرافية الفرسان وتمفصل التكوين بطريقة مثيرة للخيال تقع خلف تفوقه على كل من سبقوه في هذه المحاولات (الاستشراقية بدرجة ما) ولكنّه رغم الضرورة السردية المؤسلبة استطاع أن يحافظ على بصمته وحساسيته الخاصة المتفردة في تجزيئ اللون والاعتماد على المدماكية التي لا يحكم تناغمها سوى نسق مفردة الفرشاة ولمساتها وتلطيخاتها الديكارتية المنهجية، تماما كما هو نسق التنقيطية أو التجزيئية بروادها: سورا وسينياك وغروس وغيرهم، لكن الهدف في هذا المقام مختلف لأنه ذوقي تنزيهي روحاني يكاد يلامس تواصل التجريد مع النوطة الموسيقية، وبالتالي البحث عن الكمون الصوفي في التصوير بمعزل عن مقدرة الذاكرة الخطية على الاستدعاء الفرضي لمعارك تخيلية، معراجية تلامس المعارك الكبرى في الإسلام كما يرويها اللاوعي الجمعي لديهم.
من هذه المعارك وأبرزها معركة حطين: صورها أربع مرات، قياس كل واحدة خمسة أمتار بعرض ١٢٠ سم، وهي المعركة الحاسمة التي هزم فيها صلاح الدين الأيوبي الفرنجة الصليبيين عام ١١٨٧م، لأنها قادت إلى طريق تحرير القدس، وكانوا احتلوا القدس منذ عام ١١٠١م، أما الموقعة فجرت بالقرب من بحيرة طبريا في ضيعة تدعى حطين. وبما أن عدد جنود صلاح الدين لا يتجاوزون الاثني عشر ألفًا، وعدد أعدائه ستة عشر ألفًا، فقد اعتمد على الحيلة في استدراجهم منهكين بعد أن قطع عنهم مناهل المياه. ثم معركة اليرموك: صوّرها مرّتين، واحدة محفوظة في وزارة الثقافة، والثانية معلقة في مجلس الشعب (قياس اللوحتين: ١٨٠سم × ١٢٠ سم و١٢٠ × ٨٠ سم). جرت هذه الموقعة بالقرب من نهر اليرموك في مساحة مدينة إربد الأردنية حاليًا وذلك عام ٦٣٦م، أي بعد وفاة الرسول بأربع سنوات في عهد الخليفتين أبو بكر الصديق وعمر. وهي أول معركة هزمت الرومان (البيزنطيين) وكان فيها أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وجبله بن الأيهم. ثم لوحة تحرير القنيطرة، بقياس ٣٥٠ × ١٤٠ سم. وعندما انقطعت أخباره عني كان ينوي تصوير معركة «عين جالوت»، التي هُزم فيها المغول عام ١٢٦١م لأول مرة خلال الحكم المملوكي، ولست متأكدًا من إنجازه لها.
تعبّر هذه المعارك رمزيًا عن دحر الغزاة على أبواب المدن العربية، لذلك أكد الفنان على حيوية الفرسان والخيول وروح المعارك بطريقة مختزلة وبليغة وصريحة الدلالة. وهكذا انتقل من الطبيعة الصامتة والمناظر السديمية إلى صهيل وصهوات الجياد واحتدام صليل السيوف والرماح، محاولًا المصالحة بين مهارته الأكاديمية في التشريح والتفجر التعبيري، فختم بذلك أكثر من ستين عامًا من مغامرة التصوير المتحولة أبدًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.