هذا الكشف السياسي هو ما يقوم عليه عرض "المصنع" لعمر أبو سعدة (إخراج) ومحمد العطار (كتابة)، الذي قدم في برلين في مسرح Volksbühne في نهاية العام المنصرم، كما قُدّم في أثينا، وهناك عروض تالية في مدن وعواصم أخرى.
شكل الثنائي أبو سعدة والعطار برفقة السينوغراف بيسان الشريف شراكة مسرحية ناجحة على صعيد الحضور المسرحي السوري في أوروبا، كان آخر نتائجها عرض "المصنع" الذي تقدم المجموعة فيه كشفا سياسيا لحدث جلل بقي في الظل حتى وقت قريب، وهو استمرار العمل في مصنع لافارج في جلابيا، المملوك لشركة لافارج الفرنسية للإسمنت والواقع في الشمال الشرقي من مدينة حلب السورية.
من خلال أربع شخصيات ينطلق العرض ليحكي قصة المصنع القابع في غبار الحرب،
يحضر الإسمنت بصريا عبر الكتلة الإسمنتية الضخمة التي تتوسط الخشبة، مشكلةً جدارًا للمصنع تتقدمه كل مشاهد المسرحية، كذلك تُستخدم هذه الكتلة كشاشة إسقاط لبعض المشاهد الفيلمية وكمساحة لعرض ترجمة المنطوق (الإنكليزية والألمانية).
يساهم هذا الحضور الطاغي للكتلة الإسمنيتة في تركيز انتباه المتلقي إلى موضوعة ثبات المصنع رغم كل التحولات الجذرية من حوله، زد على ذلك باقي مفردات السينوغرافيا كقبعات العمال التي تكسو الخشبة في المشهد الأخير، والأقنعة الجصية التي ترتديها الشخصيات (تصميم محمد عمران). الإسمنت هو الأساس، واستمرار إنتاجه وإعادة إنتاجه هو المهم، ولو راح في سبيل ذلك عمال بريئون، واستحال مصنعا مبنيا بنية البناء إلى دليل على السلب الممنهج لحقوق الإنسان، تقوم به جهة فرنسية في بلادها قُرت وثيقة هذه الحقوق.
مساران متوازيان درامي وتوثيقي
يقوم نص العرض على جهد بحثي مُلم بقضية المصنع وتفاصيلها، وتسير الحبكة فيه ضمن
مسارين متوازيين، الدرامي والتوثيقي، فلا يطغى العنصر الوثائقي على سريان الحكاية أو العكس، ويتتبع المتلقي قصة نشوء المصنع من جهة وحكاية عامل من عماله من جهة أخرى، ويكتشف مع تصاعد الحبكة خفايا إدارة المصنع. يأتي ذلك على هيئة مونولوجات حينا، ومشاهد تمثيلية أحياناً أخرى. بدايةً تسرد الشخصيات الأقصوصة على شكل مونولوج موجه للجمهور ــ وهنا في بعض الأحيان ينحو النص تجاه الخطابية ــ ومن ثم تبدأ بتجسيد مشاهد من حكاية المصنع، وأحداث مفصلية أثرت في مسار الحكاية... إذًا، اللعب يصبح مكشوفا أمام الجمهور، الشخصيات بعد مونولوجاتها التي تكسر فيها الجدار تعيد تجسيد المشهد، وربما تلك هي المسافة التي تمكن أبو سعدة من ضبطها، إذ بقي الانتقال بين الجانبين (المونولوج والتجسيد) سلسًا ومتماسكًا يشد انتباه المتلقي، وساعد في ذلك عمل الممثلين، وانضباط أدائهم في المستويين، وعلى وجه الخصوص "فراس، رمزي شقير" و"العامل، مصطفى القر"، فالأول تمكن من تقديم شخصية رجل الأعمال النافذ صاحب المبررات الدائمة لكل شيء، البراغماتي الذي لم يؤثر اختلاف مبادئه المعلنة على أولوية مصالحه الاقتصادية، والثاني أجاد إظهار صراعات العامل المعقدة مع مكان عمله المحاط بالنيران من كل جانب.
آخر المونولوجات كان على لسان العامل، في نظرة أخيرة على الأراضي السورية بعد أن تمكن أخيرا من الخروج من كابوس المصنع باتجاه تركيا، وبعدها يسدل العرض الستارة على حكاية مصنع لافارج، كاشفًا عن إحدى الحكايا التي خمدت تحت جمر النار السورية، ومعيدًا قضية لافارج إلى الواجهة للسؤال حول ضلوع الجميع في سفك الدم السوري في سبيل تسيير المصالح الاقتصادية الدولية.