}

المسرح أداةً للكشف السياسي: عرض "المصنع" نموذجًا

علاء الدين العالم 14 فبراير 2019
مسرح المسرح أداةً للكشف السياسي: عرض "المصنع" نموذجًا
من عرض "المصنع"
لم تُوأد النار السورية بعد، وبالرغم من كل الهذر السياسي الحاصل، واختلاف التوازنات على الأرض، لم يُكتب إلى الآن الفصل الأخير في التراجيديا السورية.
أصبحت السنوات الثماني الأخيرة تاريخا ثوريا معاصرا حافلا بالأحداث المتناقضة، والتفاصيل والخبايا التي أوصلت الحالة السورية إلى ما هي عليه اليوم. الخبايا بمعنى الأسرار التي أخفاها غبار القتل والاعتقال واللجوء، ولربما بدأ السوريون اليوم ــ وهم بأمس الحاجة إلى ذلك ــ بمحاولات الحفر في السنوات والكشف عن التفاصيل الأولى التي أتت بكل هذا الخراب، بدلا من أن تحصد الثورة الحرية والكرامة التي طالبت بهما وقت انفجارها.
هذا الكشف السياسي هو ما يقوم عليه عرض "المصنع" لعمر أبو سعدة (إخراج) ومحمد العطار (كتابة)، الذي قدم في برلين في مسرح Volksbühne في نهاية العام المنصرم، كما قُدّم في أثينا، وهناك عروض تالية في مدن وعواصم أخرى.
شكل الثنائي أبو سعدة والعطار برفقة السينوغراف بيسان الشريف شراكة مسرحية ناجحة على صعيد الحضور المسرحي السوري في أوروبا، كان آخر نتائجها عرض "المصنع" الذي تقدم المجموعة فيه كشفا سياسيا لحدث جلل بقي في الظل حتى وقت قريب، وهو استمرار العمل في مصنع لافارج في جلابيا، المملوك لشركة لافارج الفرنسية للإسمنت والواقع في الشمال الشرقي من مدينة حلب السورية.
من خلال أربع شخصيات ينطلق العرض ليحكي قصة المصنع القابع في غبار الحرب،
"فراس، رمزي شقير" رجل الأعمال السوري، و"المهندس، سعد الغفري" الأكاديمي العائد من كندا بخبرة واحترافية كبيرة في مجال هندسة المصانع، و"العامل، مصطفى القر" الذي بدأ العمل في المصنع منذ زمن بعيد وعاصر فيه السلم والحرب، و"مريم، لينا مراد" الصحافية الساردة للحكاية والباحثة عن خفاياها. يُنبش سر المصنع بعد تواصل العامل مع الصحافية إبان خروجه من سورية باتجاه تركيا، يتكلم العامل عن كل ما حصل منذ بداية تأسيس المصنع وحتى خروجه منه نهاية عام 2015، وترفد الصحافية رسائله ببحث صحافي حول كيفية تأسيس المصنع وملاكه وممثليه في سورية. ينتج ذلك كشفًا موثقًا لسيرة حياة المصنع على الأراضي السورية، وكيف استمر في الإنتاج والعمل، ليس بعد انفجار الأحداث وتنامي الخطر وحسب، بل أيضًا حتى بعد توالي تنظيمات إسلامية مسلحة كان آخرها تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر عام 2014 على منطقة المصنع. زد على ذلك سريان الفساد في المنظومة الإدارية للمعمل قبل الثورة وبعدها، ففراس، رجل الأعمال الصاعد في الألفية الجديدة، هو ذاته، وبرغم انقلاب مبادئه حينما أيد الثورة، من يقود المصنع بذات الآليات لقيادته قبل الثورة، مع فرق أساسي، وهو خسارة بعض العمال أرواحهم في سبيل استمرار عمل هذا الصرح الصناعي ذي التمويل الفرنسي. لا يوارب صناع العمل المسرحي أو يكنون في ذلك، فالشخصيات حقيقية، وفراس رجل الأعمال الكبير هو إحالة لفراس طلاس ابن وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، ومريم هي الصحافية الجزائرية الفرنسية دوروتي مريم كلو، التي نشرت تحقيقها الصحافي حول المصنع في "اللوموند" عام 2016، كذلك الحال بالنسبة لملاكه الأوروبيين الذين راهنوا على استمراره في بلاد ستكون بأمس الحاجة إلى الإسمنت بعد كل هذا الدمار. وهذا ما يزيد من حدة الكشف، ويجعل من العرض المسرحي فعلا سياسيا واضحا لا تورية فيه.
يحضر الإسمنت بصريا عبر الكتلة الإسمنتية الضخمة التي تتوسط الخشبة، مشكلةً جدارًا للمصنع تتقدمه كل مشاهد المسرحية، كذلك تُستخدم هذه الكتلة كشاشة إسقاط لبعض المشاهد الفيلمية وكمساحة لعرض ترجمة المنطوق (الإنكليزية والألمانية).
يساهم هذا الحضور الطاغي للكتلة الإسمنيتة في تركيز انتباه المتلقي إلى موضوعة ثبات المصنع رغم كل التحولات الجذرية من حوله، زد على ذلك باقي مفردات السينوغرافيا كقبعات العمال التي تكسو الخشبة في المشهد الأخير، والأقنعة الجصية التي ترتديها الشخصيات (تصميم محمد عمران). الإسمنت هو الأساس، واستمرار إنتاجه وإعادة إنتاجه هو المهم، ولو راح في سبيل ذلك عمال بريئون، واستحال مصنعا مبنيا بنية البناء إلى دليل على السلب الممنهج لحقوق الإنسان، تقوم به جهة فرنسية في بلادها قُرت وثيقة هذه الحقوق.

مساران متوازيان درامي وتوثيقي
يقوم نص العرض على جهد بحثي مُلم بقضية المصنع وتفاصيلها، وتسير الحبكة فيه ضمن 

مسارين متوازيين، الدرامي والتوثيقي، فلا يطغى العنصر الوثائقي على سريان الحكاية أو العكس، ويتتبع المتلقي قصة نشوء المصنع من جهة وحكاية عامل من عماله من جهة أخرى، ويكتشف مع تصاعد الحبكة خفايا إدارة المصنع. يأتي ذلك على هيئة مونولوجات حينا، ومشاهد تمثيلية أحياناً أخرى. بدايةً تسرد الشخصيات الأقصوصة على شكل مونولوج موجه للجمهور ــ وهنا في بعض الأحيان ينحو النص تجاه الخطابية ــ ومن ثم تبدأ بتجسيد مشاهد من حكاية المصنع، وأحداث مفصلية أثرت في مسار الحكاية... إذًا، اللعب يصبح مكشوفا أمام الجمهور، الشخصيات بعد مونولوجاتها التي تكسر فيها الجدار تعيد تجسيد المشهد، وربما تلك هي المسافة التي تمكن أبو سعدة من ضبطها، إذ بقي الانتقال بين الجانبين (المونولوج والتجسيد) سلسًا ومتماسكًا يشد انتباه المتلقي، وساعد في ذلك عمل الممثلين، وانضباط أدائهم في المستويين، وعلى وجه الخصوص "فراس، رمزي شقير" و"العامل، مصطفى القر"، فالأول تمكن من تقديم شخصية رجل الأعمال النافذ صاحب المبررات الدائمة لكل شيء، البراغماتي الذي لم يؤثر اختلاف مبادئه المعلنة على أولوية مصالحه الاقتصادية، والثاني أجاد إظهار صراعات العامل المعقدة مع مكان عمله المحاط بالنيران من كل جانب.
آخر المونولوجات كان على لسان العامل، في نظرة أخيرة على الأراضي السورية بعد أن تمكن أخيرا من الخروج من كابوس المصنع باتجاه تركيا، وبعدها يسدل العرض الستارة على حكاية مصنع لافارج، كاشفًا عن إحدى الحكايا التي خمدت تحت جمر النار السورية، ومعيدًا قضية لافارج إلى الواجهة للسؤال حول ضلوع الجميع في سفك الدم السوري في سبيل تسيير المصالح الاقتصادية الدولية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.