}

الفنان المجهول "غروس" أصبح أكثر من معروف

أسعد عرابي 7 سبتمبر 2018
تشكيل الفنان المجهول "غروس" أصبح أكثر من معروف
لوحة للفنان غروس

يغامر متحف الانطباعيين (في مدينة جفرني وفي قصر- محترف مونيه بالذات) بمعرض تكريمي للفنان "هنري إدموند غروس". هو الأول من نوعه منذ عشرين عاماً بعد المعرض الاستعادي اليتيم في بلدة مولده دواي (عام 1856- متوفى عام 1910). يستمر العرض خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل من العام الراهن 2018.

أقول يغامر لأن إدارة العرض نوّهت في أكثر من مناسبة تقديمية بأنه كان مجهولاً. باستثناء المحترفين من الفنانين أو المختصّين من النقاد. ذلك أن موروثه الفني يمثّل منعطفاً بالغ الأهمية والتحول من الأسلبة والباروك الانطباعي، إلى مفاتيح الحداثة والمعاصرة. هو الجسر أو البرزخ التواصلي الأول بين لذائذ الألوان البصرية وتطريبات المدرجات البوليفونية. وذلك قبل استقرار هذه التراشحات التوليفية (الخيماوية) في محترفي بول كلي وكوبكا (السمعية- البصرية). تنجدنا في هذا المقام شهادة المعلم هنري ماتيس السخية المديح لألوان غروس. هي التي تشيع التفاؤل والحبور ومحبّة الحياة، مستطرداً إطراءه بكلمته الشهيرة: "لدينا الكثير من الهموم في الحياة تكفي لتغنينا عن استمرارها في اللوحة". تزداد هذه الشهادة إيجابية عام 1905 في معرض تأسيس ماتيس لتيار "الوحشية" إلى جانب ديران وبراك وفلامينك، هي التسمية الساخرة التي وسم بها أحد نقاد الصحافة مجموعة ماتيس في معرض الخريف التي تطوق بجرأتها الصباغية التمثال الكلاسيكي لبوردان، وبعنوان "بوردان في قفص الوحوش"! أصبحت مع الشيوع رمزاً لأرهف الملونين الذين يعتبرون وعلى رأسهم ماتيس بأن غروس هو "الأشد أصالة بين مجموعة الانطباعيين"، وأكثر من ذلك، ثم إذا استعرضنا أعمال ماتيس في تلك الفترة نجدها صريحة التأثر بنسق الفنان غروس، قبل أن تنقل زيارة ماتيس للفن الإسلامي إلى طبوغرافية وألوان المنمنمات (رسوم المخطوطات) بمسطحاتها ذات المنظور المتعدد الرؤيا ومصادر الضوء والمقتصر على بعدين وعلى الأبجدية اللونية الأولى. منتقلاً من تجزيئية غروس إلى المساحات التصوفية (أي منظور عين الطائر ومشكاة المقابلات اللونية). لكن امتداح ماتيس النخبوي لبهجة ألوان غروس لم تكتنف كامل أسرار ريادته، وذلك بتمييزه ضمن كوكبة الانطباعيين تجنباً لحساسية بقية مجموعة التنقيطيين التي ينتسب إليها عموديّاً وليس أفقيّاً. 

تثبت هذه المعارض شراكة تورنير (انكلترا)، وشراكة انطباعية السويد وفناني مدينة الهافر في شمال فرنسا، ثم إسبانيا عن طريق إدوار مانيه وشراكة الولايات المتحدة في الاتجاهين: يعتبر النقاد الأميركيون أن الولايات المتحدة شريكة في حركة الانطباعيين لأنها تحتكر اكتشاف فنانيها واستحواذ أصحاب المجموعات لديهم على أغلب التراث الانطباعي، في وقت كان فيه الرأي الغالب على سلطة المحكمين والأدباء بأن هؤلاء ليسوا سوى مجرد مصوري مناظر مرتبكين (وأن ألحان كلود دوبوسي الانطباعية مجرد واسطة لإثالة الغبار وتنظيف آلة البيانو). هو ما يفسّر إحياء هذا الاتجاه على ضعف فنانيه في الولايات المتحدة، وتخصيص متحف لأعمالهم ملاصق لمحترف قصر مونيه (متحف الانطباعيين في جفرني حيث يقام معرض غروس). دون أن ننسى تحرّي تأثير أواخر مونيه (مرحلة النينيغار) على التجريدية التعبيرية الأميركية في المعرض الباريسي الراهن.

من الواجب استدراك تصحيحات دور كامي بيسارو في معارض موسم العام المنصرم والاعتراف بمبادرته في التحول من الانطباعية إلى التنقيطية، فهو الرائد الأول المنسي بدوره، لسبب بسيط أن أغلب لوحاته محفوظة في متحف واشنطن، ولم يشارك في معارض التنقيطيين أبداً رغم سبقه لهم، وهكذا يضاف إلى ترتيب قائمة التنقيطيين اسمه ومع زيادة أهمية غروس من خلال معرضه الراهن يصبح الاسم الأول بينهم كما سنرى.

*  *  *

قصة التنقيطية

إذا قربنا مجهرنا التحليلي أكثر من التنقيطية (المصطلح النقدي الصحفي الساخر بدوره والذي انتشر بحكم العادة والشيوع، وتغلّب على المصطلح الأدق الذي اقترحته الحركة نفسها: "التجزيئية". وجدنا بأنه من عادة المألوف والموروث في النقد الاستهلاكي أن نقتصر في حركة "التنقيطية" على اسمين: جورج سورا (مولود في باريس عام 1859 ومتوفى فيها باكراً عام 1891 عن عمر لا يتجاوز الثلاثين عاماً، بحيث لم تتجاوز مساحة زمان ممارسته للرسم والتصوير الست سنوات) وبول سينياك (مولود عام 1863 ومتوفى عام 1930) هو سندباد الحركة لأنه كان بحاراً يجوب طوال حياته أطراف المتوسط بمركب محترف مع بحارته (تيمّناً باتخاذ كلود مونيه لمركب نهر السين محترفاً له) مما يفضح تعلّق الانطباعيين وفروعهم بعالم المياه والرذاذ والرطوبة والموج والضباب والتحرر من سكونية الجاذبية الأرضية. فإذاً اعتمدت مبادرة كلود مونيه ورنوار وديغا وسيسلي وبيسارو على تحليلات عالم الفيزياء البصرية "شيفرول"، وبالذات في كتابه الموجّه إلى صناع السجاد (مثل طراز غوبلان الذي كان ينافس الكليم الأناضولي وسجاجيد بحرة الفردوس الإيرانية) لأنها تعتمد على تجزيء اللون بطريقة حياكة اللحمة والسداة. التزمت هذه الجماعة باقتناص الزمان الضوئي في الهواء الطلق (نموذجها هو تحليل واجهة كنيسة روان من قبل مونيه عبر أربع وعشرين لوحة. واحدة كل نصف ساعة) وذلك بطريقة التوليف الوهمي الذي يخلط الألوان على الشبكية إدراكياً، وليس على صفيحة الألوان (الباليتا) كيميائياً: فلمسة اللون الأحمر بتجاورها مع نظيرتها الصفراء تقرؤها العين: برتقالي وهكذا.

ما فعله التنقيطيون هو ترسيخ هذا النسق بطريقة الحياكة العلمية الديكارتية. مما غلّف لوحاتهم بضباب ضوئي مشكاتي ورفيف لوني صادر عن رفيف تجزيء اللون، ما إن وصل سينياك بمركبه إلى شاطئ اسطنبول واطلع لأول مرة على الفسيفساء البيزنطية حتى صرخ (مثله مثل نيوتن وتفاحته) "وجدتها"، فقد كانوا يرصفون وحداتهم اللونية وفق هذا النسق التوليفي.

أضاف الصناع العرب في الحقبة الأموية الزجاج في تغليف وحدات سيراميك جدران الجامع الأموي ترسيخاً لمادة "النور على النور". يتفق النقاد على أن "جورج سورا" أعظم موهبة من "بول سينياك"، تعتبر لوحته "بعد ظهر يوم أحد في منتجع الجات الكبير" رمزاً للمجموعة، وكذلك رسومه بالفحم على الورق لا تقدر بثمن خاصة وأنها محدودة العدد في المتاحف الأميركية والفرنسية. لكن سينياك كان أشد ثقافة منه، بل يعتبر كتابه الشهير: "من أوجين دولاكروا إلى ما بعد الانطباعية" إحالة أسست للكتابة الفنية المعاصرة في النقد غير مسبوق إلا "بفاساري" في عصر النهضة الإيطالي. وكان بالتالي المنظّر والمبشّر بحركة التجزيئية (التنقيطية) كما يطلق عليها هو نفسه. نادراً ما كان المؤرخون والنقاد يذكرون غروس الرابع ولا كامي بيسارو الأول، يصحح معرض اليوم إذن هذا الترتيب كما يلي: كامي بيسارو ثم هنري غروس يليهما سينياك ثم سورا. ألم أخبركم أن معارض جفرني تصحّح كل مرة الأخطاء الموروثة في حركة الانطباعية وروافدها. هذا ما يبرر إقامة معرضين استعاديين متجاورين ومتزامنين في نفس المتحف الأول لغروس والثاني لسينياك وكأنهم بصدد تصحيح أخطاء الماضي بخصوص هذه الفترة جملة وتفصيلاً.

*  *  *

قصة التراشح بين الموسيقى والتصوير 

دعونا نتأمل عن قرب المئة لوحة المعلقة على "سيميز" من معرض هنري غروس الراهن، فهي منتخبة بعناية نخبوية لا تخفى على العين الخبيرة، حيث تكشف بأنه الأول في تاريخ الفن المعاصر، الذي يبحث في مدرجاته اللونية (على غرار التماوجات المتدرجة في الشواطئ المتوسطية لمرفأ آنتيب) عن مقابلة تواصلية مع السلالم الصوتية الموسيقية، سواء أكانت لألة الأورغ أو سواها. يحاول غروس استنطاق هذه المدرجات اللونية الرهيفة، وذلك قبل أن تتحول هذه الصبوة الروحية التواصلية الخيماوية العريقة إلى مختبر توليفي "سمعي - بصري" لدى بول كلي ثم كوبكا ثم دولونوي وآغام وغيرهم من المحدثين، مثل النحات الفيزيائي اليوناني "تاكيس" مثلا، صاحب باقة النوابض المعدنية الرخصة المبرمجة معلوماتياً، لتهتز مترجمة برقصات ورفيف متحوّل غير متماثل مع ما يصدر عن المشاهدين من صفير وسواه من الأصوات، (والمعروضة في متحف بومبيدو- باريس)، من أجل أن ندرك أهمية هذه الصبوة الموسيقية لدى هنري غروس علينا أن نرجع إلى أوائل تبشيراتها لدى عالم الجمال الرؤيوي الفرنسي "إتين سوريو" في كتابه المستقبلي (منذ نهاية القرن التاسع عشر): "التواصل بين الفنون" يتنبأ فيه بأن تقدم السبرنيتيك سيتيح فرصة في المستقبل لاسترجاع التراث الموسيقي المندثر، خاصة غير المسجّل في التنويط مثل الموشحات الأندلسية، بهذا الهدف بالذات اختبر معاونوه "موتيفاً" مشتقاً من مقرنصات قصر الحمراء في غرناطة وحصلوا على معادلة "الصوتي" بطرق ميكانيكية معقدة.

المحصلة كانت متفائلة، لأنها تمثّل نظاماً صوتياً ونسقا مشوشا، ولكنه غير فوضوي، ترك سوريو للأجيال المقبلة من الفنانين الباحثين ليستكملوا تحقيق هذا التواصل بدقة أكبر. ثم يستشرف الفنان (المهاجر الروسي إلى ألمانيا) واسيلي كاندينسكي، خطوة أبعد في هذه التوأمية، حيث يكتب في مؤلفه الشهير: "ما هو روحاني في الفن المعاصر" 1910 ما يلي: "سيأتي يوم قرب أو بعد ستتحول فيه اللوحة إلى مخطط أو تنويط مسبق قابل للتأويل من قبل أكثر من فنان كما هي الموسيقى" لا شك بأنه كان على اطلاع على أعمال هنري غروس الذي يقع تاريخ نبوءته بين الاثنين (أي بين سوريو وكاندينسكي). يمثل المعرض بالنتيجة غبطة في نورانيّة سيولة الألوان المائية خاصة. ننصت إلى خرير مياهها وصخب أمواجها، وصدحات الأحمر الناري والأصفر وزغاريد المكمل اللوني: الفيروزي أو التركواز الكوبالت أو البروسي، اللازوردي الأوقيانوسي أو النيلي.

يبحث عن مناظر ومشاهد تمثّل ذريعة موسيقية لهذه المدرجات، من نسمات موجية أو تماوجات ساحلية رملية، يدغدغ رفيفها النسيم العليل، أو مراكب مشبعة بألوان غبطوية تئنّ في شجن مستكين، في أبديته الرخيمة، ثم الفناءات الشبقة إلى جزيئات اللون الصارخ أو المكبوت الأنفاس كما هي رنّة الحزن في حناجر أوتار "الفيولونسيل"، و ضمن "تمبو" إيقاعي طوباوي متفجّر بالمجون حتى الثمالة، يتخلل هذه الفناءات الفردوسية المزروعة بالغانيات والعذراوات الحسان، "غاديات رائحات" يعبرن مثل الزمن السعيد بسرعة حلم مارقة. هنّ نفس النسوة الملتفحات سندس الربيع المشرقي التي استلهم تكويناتها إلى حد الهوس المعلم هنري ماتيس. هو الاستشراق شبه التجريدي المنزّه بروحانيته عن أية مماثلة أو تشبيه للعالم المرئي. ما إن نعبر بوابة العرض حتى تحملنا أجنحة الحلم إلى عالم آخر يدعى هنري غروس.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.