}

معرض "دوفي" الصيفي والاستشفاء بالموسيقى

أسعد عرابي 23 أغسطس 2018

 

هناك سحر يدعى راؤول دوفي في التصوير، تماماً كما هو سحر توأمه في الموسيقى جان سباستيان باخ. إذا عاودت تأمل لوحاته أدمنت على أسراره التجريدية. هي التي تقع تحت نواظم تحرّر الخط من المساحة اللونية. تماماً مثل تزامن «الكونتربوان» لدى باخ، فناننا في حالته البصرية يتزامن الإيقاع الخطي لديه مع تعددية المقامات اللحنية اللونية. هي التي تقتصر على أبجدية: الأزرق والأحمر والأصفر على نوطة بيضاء تشع بالنور. لعلّ السر الأول في جاذبية لطخاته اللونية الحدسية التلقائية الصدفوية المباشرة هو ارتباطها بموضوعه الأثير: الموسيقى: من عازف الكمان إلى عازف الفيولونسيل والكونتروباص إلى أوكتافات مجسّات (نوطات) البيانو. ثم عشرات اللوحات عن عالم الأوركسترا. ذلك المجتمع الصائت بالخط واللون، لعله سر الجاذبية المغناطيسية التي تشدّ العين وتدمن على سماعه الأذن، ما بين بصيرة دوفي وسماعي باخ. هو ما ينطبق عليه تعريف الوجد (كما جاء في طبقات السلم): «كمن يُسلم نفسه إلى زرقة الأوقيانوس أو خضم المحيط، ثم لا يرجو من غرقه نجاةً». حضرتني هذه المقارنة حول تواصل روحانية الاثنين لتعلقي الذوقي بهما منذ عقود. وبمناسبة المعرض الراهن لراؤول دوفي في متحف مدينة «بربينيان» (المعروف بإسم «متحف ريفو») التي هي مرفأ متوسطي كتلاني تكاد تلامس كتالونيا الإسبانية لقربها منها. أما العنوان الصيفي (لأن المعرض يقع ما بين الشهر السادس والحادي عشر من 2018م) فهو: «متحرفات بربينيان»، إشارة إلى المحترفات الثلاثة التي تنقّل بينها راؤول دوفي خلال عشر سنوات من إقامته فيها، أي ما بين 1940 وحتى 1950م قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة. تحدد بنفس الوقت تاريخ اللوحات المعروضة بهذه المسافة الزمنية، فاختيرت من تراثه مائة لوحة أغلبها على أصالته تُعرض لأول مرة، خاصة الوجوه النصفية (البورتريه) من مرآته الذاتية إلى معارفه وأقربائه وطبيبه وخاصة زوجته التي كانت تقوده إلى مزار بيت أهلها في درّة المدن المتوسطية نيس. يعانق المعرض العديد من مشاهد طبيعتها الغنّاء، وتنظيمها المعماري الأخاذ، وخاصة كازينو نيس؛ قبلة السياحة في الجنوب الفرنسي.




ولد فناننا عام 1877م في مرفأ الهافر الحاضن الشمالي (في النورماندي) للانطباعية، و توفي عام 1953 في مدينة فرنسية فاتني اسمها لكثرة أسفاره، فقد كان محكوماً بشدة الترحال رغم مرضه العضال، هو الذي قاده للاستقرار الفني والعائلي في مدينة بربينيان، ذلك أن عيادة طبيبه المختص تقع فيها، مما هيأ له فرصة العناية الدائمة به وتسكين آلامه المبرحة.

ثم إنه كان يملك صداقات فنية مع موسيقيين محترفين، نجدهم غالباً في لوحاته، أبرزهم بابلو كازالز المقيم أيضاً في هذه المدينة. يسمه النقد «بالمستقلّ»، إشارة إلى شراكته تاريخياً في مجموعته الوحشية عام 1905م إلى جانب هنري ماتيس وأندريه ديران وبراك وفلامنك، كما شارك معهم في المعرض الأول، ولكن أسلوبه استقل بسرعة بحيوته الخطية واللونية، وسطوعه الضوئي وتقصّيه (مثل إدغار ديغا) للحركة الراقصة في ساحات سباق الخيول أو اللاعبين وتواتر موجات المتوسط اللازوردية، ونسائه التي تشع بحدة ألوان شبقة للحياة والمرح. كان فنّه فردوسياً طوباوياً يمثل سلوى شفائه من آلام مرضه، وكانت الموسيقى بلسمه الضوئي والروحي الوحيد، لا يقتصر على موضوعاتها وحضور حفلاتها غالباً، وإنما محاولة ترجمة مواجيدها ورهافتها الصوتية، سواء الوترية منها أم النقرية، التوقيعية أم النفخية. محرضاً العين على التوليف بين عصيان الخط للمساحة وتمرّد انزياح المساحة عن حدود التخطيط، هو التوليف الذي يصل حدود التمايز والتفوق العبقري على معاصريه: اللقاح ما بين الكرافيزم والتّجريد الغنائي (مدرسة باريس)، مستشرفاً سعي جيل ما بعده الذي تعقّب بدرجات متباينة في عقد الزواج بين البصر والسمع بين الموسيقى والتصوير. سيخطو خطوة أبعد الشاب نيكولا دوستائيل منتحراً بعد أن أنجز أعظم لوحاته في آنتيب المتوسطية: «البيانو والفيولنسيل والنوطة والأحمر»، من المثير للانتباه إعجاب وصداقة جورج براك للاثنين. ثم يتفوق كوبكا في هذه الصبوة التوليفية في تجريداته على سواه بما فيه روبير دولونوي.

يربط النقد خطأً منطلقات راؤول دوفي الموسيقية ببعض لوحات هنري ماتيس، خاصة لوحة «الموسيقى» العملاقة (في متحف الإرميتاج) في سان بطرسبورغ. تفضح بعض رسوم المعرض للآلات الموسيقية تفوقه على ماتيس. وكذلك الأمر في رسم «البورتريه». لعل سوء فهم وتقدير النقد لخصائصه الموسيقية يرجع إلى شهرته بالفريسك الجداري الذي يمثل قصة «أسطورة الكهرباء»، (بتكليف من إدارة الكهرباء عام 1937م) فرشه على مساحة 640م٢ بالكونتربلاكيه (250 بانو) منجزة بالألوان الزيتية، تعرض اليوم بشكل دائم برحابتها على جدران «متحف الفن المعاصر لمدينة باريس».

لا شك في أن الفريسك يعتبر ملحمة عملاقة من القدرة الاستثنائية على تنوّع أداءات الخط واللون الطازج واستحضار تفاصيل إعجازية تلامس الموضوع، لكن الأشد إثارة هو تمايز أسلوبه وفيضه العاطفي المتفائل السعيد والمرح إلى درجة الحسية في اللون والضوء، بعكس بعض معاصريه من أمثال حاييم سوتين وجورج روو وقبلهما فان جوخ، الذين يعتبرون اللوحة شاهداً على قتامة العالم والمعاناة المأساوية فيه. تكفيه اللوحة والموسيقى لتنسياه، وكما يصرّح ماتيس نفسه، همومه الصحية وتوفر على المتفرج رمادية العالم وأحزانه. لعله الوريث الأصيل لفكر ورؤيوية «بول كلي» المتسمة بالغبطة والحبور حتى حدود «الوجد».

لعله من الجدير بالذكر أنه كان يصمم أحياناً موتيفات زهور أوراق الجدران الصناعية، هو ما أدى إلى انتشار أسلوبه في شتى الأوساط، بما فيه الفنانون متواضعو الموهبة والاستهلاكيون في سوق السياحة في حي المونمارتر، ولا شك في أن أسلبة منهجه الرهيف لتقليده أساءت إلى سهولته الممتنعة الأصيلة. يتميز المعرض الراهن على استقطابه السياحي بأنه نخبوي واكب إعادة النظر في أصالته وعمقه، ليعيد النقد إليه بعضاً مما تستحقه موهبته من تقدير لحسن الحظ.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.