}

أفريقيا الفهد الأسود (4 - 4)

عبد اللطيف عدنان 27 يونيو 2018

إثيوطوبيا: الكائن والممكن في أفريقيا الفهد الأسود (4)

أسال فيلم "الفهد الأسود" Black Panther، الذي أنتج عام 2018، مدادا كثيرا بسبب النجاح الذي حققه ولم يسبق أن حظي به أي فيلم بمواصفاته الإنتاجية. وشكل هذا الفيلم مناسبة أخرى لإعادة طرح السؤال الإشكالي حول علاقة السينما بموضوعة التمثيلية، وماذا تربح هذه الأخيرة أو تخسر حين ترتبط بأقلية معينة، وتكون مطالبة بالتعبير عن واقع وآفاق هذه الأقلية؟. في هذا السياق أتى فيلم "الفهد الأسود" بمعادلة جديدة تربك هذه القاعدة التي تحكم على سينما الأقليات بهامش المشاهدة الضيقة والمناسباتية، كما كان وضع السينما الأميركية من إنجاز المخرجين الأفارقة الأميركيين.

في هذه المقاربة نحاول الوقوف على بعض أوجه التجديد في هذه السينما، التي لا تزال تعاني الحيف في المقاربة الأكاديمية والنقد والتعليق، لكي لا نقول إن هذه المقاربات، وإن تحققت، تظل حصيرة جغرافيةٍ معينة. من عنوانه المفخخ "الفهد الأسود"، الذي يحبل بدلالات سياسية صدامية في السياق السوسيوسياسي في الولايات المتحدة الأميركية، إلى اختياره الأسلوبي في نمط إنتاجي كالكوميك الفيلمي، الذي لا يزال لا يحمل محمل الجدّ في العديد من المقاربات السينمائية، إلى رهانه في البنية السردية على فضاء أفريقيا المشحون بالتدليلات التنميطية، ينفتح فيلم "الفهد الأسود" على آفاق استقرائية مهمة تفرض إعادة تقييم سينما السود الأميركية.

يشكل هذا الفيلم تجربة جديدة ومتفردة في هذه السينما، حين يعيد طرح الأسئلة التي تؤرقها ويعالج المواضيع الكلاسيكية التي تدخل في أفق اهتمامها، كإشكال الهوية المرتبط بوضعية السود في المجتمع الأميركي، وإرهاصات الماضي وتحديات الحاضر واستشرافات المستقبل، في صيغة تتقاطع فيها سينما هوليوود الأكثر استهلاكا وتسويقا، مع السينما الأفريقية والعالمية، ومن خلال تصور ورؤية جديدين نابعين من أرضية ثقافية متجذرة في الثقافة الأفرو أميركية والأفريقية، يضع فيلم "الفهد الأسود" بصمته في سينما السود الأميركية والثقافة السينمائية عامة وبالأخص منها هذه التي ترتبط بالأقليات إنتاجا وطرحا.

هنا القسم الرابع والأخير:

واكندا: "ميلاد أمة" جديدة

تكتسب إشكالية الهوية في الثقافة الأفرو أميركية طابعها المركب والجدلي في هذا التداخل بين الصورة التي يملكها الأسود الأميركي عن نفسه والصورة التي يحملها في الواقع ويتمثله بها الآخر، أي صورة الأسود في ثقافته الخاصة وصورته المضادة في ثقافة الرجل الأبيض المهيمنة. فرغم المرونة، التي يعرفها المجتمع الأميركي وهذه الدرجة المتقدمة من التعايش بين جنسياته وأعراقه، لا يزال الأسود في الولايات المتحدة، وبدرجات متفاوتة، مجرّد صورة عن الأسود رسمها المخيال الأبيض الأميركي في الأدب والثقافة الجماهيرية، استندت إلى الاستعارات السلبية للون الأسود وولّدت وجوهًا جديدة لهذه الاستعارات. هذه الأوجه سرعان ما وجدت طريقها إلى السينما، هذا الفن الذي لا يخدم الإنسان الأسود قط كما عبر المخرج سبايك لي، لتنتج بدورها جملة من التنميطات ظلت لصيقة بشخصية وشخص الأسود. هذه التنميطات وجدت رحمها الأول في فيلم "ميلاد أمة" The Birth of a Nation (1915) للمخرج والمنتج ديفيد وورك غرفيث.

كنتيجة لهذا، اقترن السؤال حول هوية الأسود بالسؤال حول طبيعة حضوره في السينما الأميركية وصيغة تفعيل خطاب سينمائي يعيد طرح هذا السؤال من وجهة نظر الأسود نفسه، أي من داخل إطار السينما الأفرو أميركية.  

إن كون راين كوغلير مواطنا أميركيا من أصول أفريقية يجعل منه مخرجا سينمائيا "أسود" Black filmmaker. ونعت الأسود المرتبط بالهوية العرقية، يخترق كذلك مجال الهوية الفنية بالنسبة للأفرو أميركي، هذا في الوقت الذي لا يحتاج فيه وودي ألين، أو ويس أندرسون، إلى أي نعت يحيل على هويتهما العرقية، ولا يُعرَّف فيه مارتن سكورسيزي كمخرج "أبيض". فنعت الأسود تمييزي بالمفهوم العنصري لأنه يموقع مواطنا أميركيا كالأسود الأميركي في وضعية الأقلية، ويحصر عمله الإبداعي في الخانة الثانوية لكل ما يرتبط في الثقافة الأنغلو أميركية بإشكالية التمثيلية Representation. إسقاط نعت "الأبيض" عن المخرج الأميركي من أصول أوروبية يترك له، مباشرة، صلاحية احتكار نعت "الأميركي" المشحون كذلك بالاختزال العنصري نفسه الذي نجده في تسمية "أميركا" المسلوبة من كافة القارة لتحتكرها الولايات المتحدة الأميركية وحدها. هذا التّمييز يرفع المخرج الأسود لمستوى الأقلية المرئية visible minority والتي لا ترتقي إلا في شرط ما، هو ثانوي وإضافي أمام شرط الرسمي والمركزي الخاص بالأبيض. صلاحية احتكار الأبيض لنعت الأميركي تعني كذلك في لغة الإنتاج السينمائي، والهوليوودي خاصة، هذه الإمكانيات اللامحدودة في فرص الإبداع، والاستفادة الشاملة من قنوات التمويل ودعم الإنتاج السينمائي، ناهيك بضمان توزيع شامل وسوق استهلاكية كبرى.

في التسطير الوصفي لنعت "الأسود" تكمن كذلك أول مظاهر التحديات التي تواجه المخرج الأفرو أميركي، والتي تبدأ بعقبات التمويل وتنتهي بضيق مساحة العرض، مرورا بوصمة التمثيلية الحتمية التي يحاكم على ضوئها كل فيلم أفرو أميركي بناء على القيمة الإضافية التي يقدّمها في الطرح الإشكالي الذي يتناول وضعية وثقافة السود في الولايات المتحدة، بغض النظر عن نوايا ومقاصد المخرج نفسه.   

كل مخرج أميركي من أصول أفريقية يشتغل انطلاقا من درجة ثقل الوعي لتجربتين تاريخيتين، الأولى تنتمي لتاريخ الإنسانية وهي ما يزيد عن ثلاثمئة سنة من الرق؛ والثانية تقترن بتاريخ السينما وتكمن في قرن من الزمن شكلّت فيه السينما الروائية، وراكمت، صورة نمطية عن الأسود الأميركي كفرد وكمجتمع.

منذ ظهور فيلم "ميلاد أمة" والأبيض في السينما يحتلُّ حيّز المركز تاركا للأسود هامش الحضور بجانبه وفقط من داخل الشروط التي تبرز تفوقه الرمزي وسيادته الواقعية. في هذا الفيلم أطل الأسود من الشاشة بهذه الصورة المستقطبة التي تختزل فيه كل معاني الخطر من جهة، وكل أشكال الوداعة ونكران الذات من جهة ثانية. فهو إن لم يكن المجرم الحاقد والمغتصب، كان هذا العبد الطيِّع والمخلص لسيده الأبيض، أو هذا الفرد الوديع المتميز بنكران الذات. فضاء الأسود الأول بامتياز هو الفضاء الداخلي للمطبخ، حيث يحضّر الوجبات الشهية لسيده القديم والجديد، أو خشبة العرض، حيث يمتعه بالطرب والرقص؛ وحين يتواجد في الفضاء الخارجي، يلعب دوره النموذجي كهذا الكائن المتوحش الذي يوقظ بشكله كل المخاوف الأسطورية المرتبطة باللون الأسود، ويُعتبر تهديدا لأمن ونظام المجتمع يستوجب إقصاءه، أو السّيطرة عليه وترويضه كما يُروّض أي حيوان جامح.

في هذا السياق، تحفظ الذاكرة السينمائية فيلم "ميلاد أمة" كهذا السجل التنميطي الذي حدّد وظيفة الأسود في السينما. هذا الفيلم تحفظه هذه الذاكرة كذلك كنقطة بداية السينما الروائية حين اعتمدت سرديته النسق الثلاثي للرواية الواقعية الديكينسية. انطلاقا من هذا الفيلم ترسخت فكرة السينما الروائية كتمثل اختزالي للسينما عامة، ليترسخ معها كذلك الدور المحوري للرجل الأبيض وبناء نظرة للكون انطلاقا من مركزية هذا الأخير. في عوالم هذا الكون السينمائية، لم تكن هناك حكاية عن السود فيها الحب والكراهية، يتمتّعون فيها بما هو خاص بهم وما هو عام بخصوصهم، دون الإطار المرجعي لعالم الرجل الأبيض. حضور السود في أدوار جانبية ومنمطة بهذا الشكل يعني اختفاءهم عن الأنظار. تحضر ملامح عنهم ويغيب وجههم إذا أسعفتنا فلسفة إيمانويل ليفيناس في هذا السياق.

غياب الأسود كفاعل إيجابي في الشاشة يعني كذلك غيابه كمواطن مكتمل الهوية في الولايات المتحدة التي صنعها المخيال الهوليوودي. من هذا المنطلق ظلت علاقة الأفرو أميركي بالسينما محكومة بهذا التشنّج الناتج من كون صورته ظلت رهينة الاستغلال الوظيفي والتسخيري Blaxploitation داخل الشاشة، وموضوع رفض وصدام خارجها.  في هذه الخلفية الفصامية وجد الأسود الأميركي سببه الوجودي الأول la raison d'être لتأسيس سينماه الخاصة وصياغة روايته عن ذاته بناء على سردية تستمد مضامينها وأشكالها من عالمه الخاص. وراين كوغلير هو استمرار لإجراء سينمائي ينطلق من هذا الوعي. وفي نفس الآن استثناء مهم في هذه الإجراء.

عبّد المخرج أوسكار ميشو الطريق لسينما السود الأميركية باقتراح صورة بديلة عن صورة السود المستهلكة في الشاشة الفضية. في بناء هذه الصورة اعتمد هذا المخرج صياغة سينماتوغرافية توظّف الرصيد الفولكلوري والأدبي الأفرو أميركي في خطاب سينمائي يندّد بالتمييز العنصري، ويدعو السود للاعتماد على أنفسهم وتحقيق اكتفائهم الذاتي. كسبت سينما السود مع هذا المخرج الطابع البورجوازي الوطني حين موقعت أبطالها في خانة الطبقة الوسطى ومدّتهم بمهمة خلق هذا الأسود الأميركي الجديد الذي يتحكّم في مصيره ويحقق استقلاليته المادية والرمزية داخل قماشة المجتمع الأميركي. إلا أن إجراءه السينمائي التقدمي هذا كان يعيبه التمركز حول بطل ذكوري بالدرجة الأولى، مُهمشا المرأة في أدوار ثانوية ومنمّطة.

في نفس اتجاه أوسكار ميشو، مع اختلاف صارخ في هوية الأبطال، اقترحت المخرجة الأفرو أميركية  جولي داش Julie Dash، في تجربتها المتميزة "بنات الغبار" Daughters of Dust (1991)، سردية بديلة عبر الاشتغال على الفضاء السردي كحيز يتقاطع فيه الماضي المغتصب بالحاضر عبر ثلاثة أجيال من النسوة يتمثلن في أدوارهن التاريخ الأفريقي ومرحلة انفتاح الأسود على الحداثة بصورتها المشوهة والأكثر عنفا وتسلطا، ثم المستقبل الاستشرافي كمجال يحقق فيه الأسود الأميركي ذاته عبر تحقيق الاستمرارية لماضيه الأفريقي في حاضره الأميركي الجديد.

اعتمد جلّ المخرجين السود، من شاكلة أوسكار ميشو وجولي داش، على سرديات بديلة لترميم صورة الأسود في السينما. وهو ما جعل سينما السود الأميركية تحمل طابع السينما المستقلة الأقرب لسينما المؤلف منها للسينما التجارية التي كان الأفرو أميركي يستسيغها أكثر ومستأنسا بقالبها السردي. كانت أفلام المخرجين السود تجريبية في روحها وتقارب الفيلم كوسيلة بحث، معالجة لمواضيعها العامة بصيغة نقدية يسمها الغموض والانعكاسية. لم تكن سردية هذه الأفلام خطية، وكانت تعتمد شخصيات تنطق بأصوات تتداخل فيها الخطابات الأدبية بالسياسية، يتجاور فيها ويليام إدوارد دوبوا مع كارل ماركس، وتوني موريسون مع مالكوم إيكس، وأنجيلا ديفيس مع أليكس والكر. ضيق حيّز المشاهدة لهذه السينما جعلها كذلك معرضة للإقصاء في عالم المشاهدة الواعية للنقد والدراسة.

مع المخرج المؤلف سبايك لي حققت سينما السود قفزة نوعية مهمة حين تناولت تيمات وجودية تتعلق بالأسود الأميركي الواقعي وفي وضعيته الآنية، وعبر سردية تعتمد الواقعية في رؤيتها وإجرائها. تجاوبت سينما هذا المخرج مع شريحة أكبر من الجمهور وأصبحت تتجاوز دائرة المجتمع الأفرو أميركي إلى آفاق الجمهور الأميركي والدولي عامة، وبذلك حققت لسينما السود الأميركية طموح التوزيع الشامل، وشكلت مرجعية اعتمدها الجيل الجديد من المخرجين الذي يمتد من جون سينغلتون John Singleton وأيس كيوب Ice Cube إلى راين كوغلير.  

يجتمع هذا الجيل في كونه يحمل نفس الرؤية الإيديولوجية والتصور الإبداعي الذي ينطلق من قناعة أن طريق تغيير نظرة الأبيض للسود في أميركا تبدأ بتغيير نظرة الأسود لنفسه. وهو ما يعني في الطرح، البحث عن بديل في ترميم الذات خارج فلك معاناة ما يزيد عن أربعة قرون من العبودية في الماضي، وحاضر تقرحت فيه هذه التجربة في سلوك العنصرية والتهميش؛ وفي الممارسة استنفاد الفن السينمائي بكل ما يمنحه في الطاقة والفعل من أساليب وصيغ بما فيها الأسلوب الهوليوودي التجاري.

في هذا الرهان الجديد لسينما السود الأميركية يشكّل مخرج "الفهد الأسود" راين كوغلير استثناء مهما حين استطاع في فيلموغرافية مقتضبة كثلاثة أفلام الجمع بين طرح سينما السود المستقلة، بأسلوبها التأليفي، والمغامرة في الصيغ الأكثر نجاحا في السينما الهوليوودية ككوميك مارفيل الفيلمي.

في فيلم "محطة فروتفيل" تناول هذا المخرج قضية اعتداء الشرطة المنظم على الشباب السود، بتبعاته النفسية والاجتماعية والسياسية، بأسلوب إخراجي أقحم الصورة السينمائية نفسها في صلب الموضوع. لكنه، عبر فيلم "كريد" بالخصوص، فاجأ هذا المخرج الشاب جمهورا مستأنسا بقصة الملاكم "راكي" وبطله سيلفستر ستالون، ببنيتها السردية الخطية التي تكرست عبر خمسة فصول، بمعالجة فيلمية جديدة ومختلفة محورها يدور في فلك شخصية ثانوية كأبولو كريد، الملاكم الأسود الذي نافس راكي في إحدى الحلقات. بأسلوب السينما المباشرة Direct Cinema، وحكاية تدور حول ابن البطل غير الشرعي، عالج راين كوغلير انعكاسات الأبعاد السيكولوجية والاجتماعية للشاب الأسود الذي يحاول إيجاد معنى لكيانه في واقع الرفض الذي يحيطه من كل ناحية. في هذه الحكاية يقحم المخرج الرجل الأبيض في شخصية راكي بالبوا، في أول فيلم عن راكي لم يكن سيلفستر ستالون نفسه وراء كتابته أو إنتاجه، ويركن فيه في وضعية الدور المساعد، كهذه الحلقة التي تربط الماضي بالحاضر، بكونه الوحيد الذي يتقبض بخيوط السردية التي تمد الابن بأجوبة عن الأسئلة التي تؤرقه والتي قد تعطي معنى لكيانه. في العناية بتدريب الابن وتكوينه كملاكم محترف كان راكي بالبوا ينسج خيوط علاقة تصحيحية مع ماضيه نفسه يعيد فيها رؤية كريد الأب، ليس كملاكم منافس، أو كقرينة تحفيزية تساعده على مواجهة الخصم الإيديولوجي، بل كإنسان. عبر إمداد كريد الابن، أدونيس جونسون (مايكل ب جوردن)، بالإمكانيات والمهارات التي تجعل منه ملاكما محترفا، كان كذلك يساعده في تكوين شخصيته الخاصة كفرد في المجتمع، من داخل الصيغة الجديدة التي تتلخص في نصيحة أمه بالتبني حين ذكّرته أنه ابن أبيه، وجزء منه، ولكنه ليس مطالبا بكونه نسخة.

عبر "محطة فروتفيل" و"كريد"، أثبت راين كوغلير طاقته في إنجاز سينما سود جديدة تستجيب لحساسية الجيل من السود الذي يحمل شعار "حياة السود محسوبة كذلك" Black Life Matters، ويتمتع بتصور واضح عن دوره في النسيج الاجتماعي الأميركي، جيل يؤهل نفسه بكل المهارات والإمكانيات محققا نجاحات مهمة من داخل شروط العالم الأبيض، مسخّرا إياها في مجابهة مشاكل الماضي دون التردد في الانخراط في مجابهة مشاكل الحاضر كذلك. إنه الجيل الذي رفض أبطاله الرياضيون دعوة الرئيس ترامب لزيارة البيت الأبيض، ويرفض الوقوف أثناء تأدية النشيد الوطني الأميركي، ويهيكل قوة دفاعية لا تقل عنفا وعدوانية ضد اعتداءات اليمين المتطرف في المظاهرات الاحتجاجية. إنه الجيل نفسه الذي يقبل أكثر فأكثر على روايات مارفيل الفيلمية وتستهويه سينما الإثارة البصرية. من ثمّ كان استثناء راين كوغلير في سياق سينما السود الأميركية، هو رهانه على سردية جديدة عن الأفرو أميركي تدور في محوره الخاص، وتقترح أجوبة جديدة عن سؤال الهوية ومجالا جديدا لتمثلها، بعيدا من مراوغة التيمات المستهلكة والسرديات العامة لخطاب الهوية والعنصرية والتمثيلية والحق في الشراكة.

في فيلم "الفهد الأسود"، يقترح المخرج هذا الجواب في مجال هذا الحيز الفضائي الطوباوي الذي يعيد فيه الأسود الأميركي تجديد ارتباطه مع الفضاء الرمزي لأرضه الأم أفريقيا وفي الشرط التاريخي الذي ألغته تجربة الرق من الذاكرة وطمسته الرواية التاريخية العامة والسائدة. في هذا الفضاء الطوباوي يتداخل الماضي المشرق مع الحاضر المتأزم في جدلية تتولد عنها رؤية جديدة للمستقبل. يتشكّل هذا الفضاء الطوباوي في المدينة الفاضلة واكندا التي تتجاور فيها أفريقيا الكائنة مع أفريقيا الممكنة، لتخلق بديلا ميتافيزيقيا يعوض السردية الوجودية التي تحصر الأسود الأميركي في شرنقة الصراع الواقعي واليومي من أجل البقاء. في هذا البديل المثالي، يستغني المخرج عن بطله الواقعي الإشكالي ويعوّضه بهذا البطل الجديد ابن القارة الأم كنموذج أطلسي يجمع القوة والذكاء، وتتماهى معه أجيال السود الصاعدة، وتمتح منه فكرة عن الذات تتجاوز الحاضر بأزماته وتعبر للماضي التاريخي بأيقوناته ورموزه.

مستفيدا من إمكانيات هوليوود ومستنفدا طاقتها وقدرتها في مجال خلق الطوباويات وتسويقها، اعتمد راين كوغلير في تصميم فضائه الطوباوي كذلك على مرجعية فنية وإبداعية تتجذر في الثقافة الأفرو أميركية ومن إنتاجها الخاص كتيار الأفرو مستقبلية Afrofuturism ليكون بهذه الطريقة أول مخرج أميركي أسود يقطع مع المرجعيات الثقافية الأورو أميركية التي ظلت تسند سينما السود الأميركية تصوّرا وعمليا. توجد أفريقيا "الفهد الأسود" في هذا الحيز التخيّلي الناتج من هذا التصوّر الإبداعي والإستطيقي التقدّمي المقترن بهذا التيّار الذي دشّن عهده بالسينما مع فيلم "الفهد الأسود". في الأفرو مستقبلية يقترح الفنان الأفرو أميركي الخيال العلمي كإمكانية ووسيلة جديدة يمكن الاعتماد على طاقتها الفضولية والإبداعية، وطريقة إثارتها القوية، في إعادة التفكير في الماضي من خلال التصور الاحتمالي للمستقبل. من هذا المنطلق ينخرط المبدعون الأفرو أميركيون كتابا وموسيقيين في تشكيل سردية جديدة تتمركز حول حكايتهم الخاصة ومن منطلق تجربتهم الواقعية ومن خلال منظور تفاؤلي يؤثث لعوالم جديدة ووقائع مختلفة تتنبأ بالعقود المستقبلية.

يمكن أن نقف على رؤية راين كوغلير الإخراجية الجديدة في فيلم "الفهد الأسود" من خلال تعريف روائية الخيال العلمي الأفرو أميركية إنغريد لافولور Ingrid Lafleur بكونها طريقة لتخيُّل المستقبل من خلال منظار الثقافة الأفريقية الأميركية، وبعيدا من أي تمثل ثوري يمكن أن ينتج من هذا الترابط في الدلالات السياقية. بحسب الكاتبة، تكمن قوة هذا التيار الفني في قدرته على إحداث التغيير المنشود في واقع الأميركي الأسود دون التدخل في واقع الغير، وهو ما جعله يتناسب أكثر مع حساسية الجيل الجديد، والذي ينتمي له المخرج راين كوغلير. من ميزة المرونة التي يتمتع بها هذا التيار، تمكن مقاربة الأفرو مستقبلية كمنهجية أكثر منها كحركة، يحاول من خلالها الجيل الجديد إعادة ترتيب العالم خارج إطار سردية الرجل الأبيض، والنسق القيمي والمثل العليا التي تحملها هذه السردية، ودون إحداث أي قلاقل اجتماعية.

ارتبط هذا التيار بأسامي إبداعية أفرو أميركية ككاتبة رواية الخيال العلمي أوكتافيا باتلير Octavia Butler والروائي سامويل ديلني Samuel Delany، وبالخصوص موسيقار الجاز الشهير سان راع Sun Ra، الذي استلهم اسمه من إله الشمس في مصر الفرعونية. هذه الأسامي تشكّل أعمالها الخلفية الجمالية والتعبيرية التي يستند عليها فيلم "الفهد الأسود" وتقدّم المفاتيح الأولى لقراءته واستقرائه في اتجاه القيمة التي أضافها كميا ونوعيا في سينما السود الأميركية، وفي الثقافة الأفرو أميركية عامة، وهو ما لا يتحصل في حصر أفقه التأويلي داخل عالم مارفيل السينمائي أو سينما الحركة والإثارة البصرية.

في هذا الصدد يجد فيلم "الفهد الأسود" أرضيته المرجعية في بناء فضائه الفيلمي في التصاميم الديكورية التي يبتكرها سان راع كخلفية مسرحية لأداء فرقته أركيسترا Arkestra. في التصاميم الموحية بالخيال العلمي والواقع السيبراني الذي يعتمد نموذج مصر الفرعونية وأفريقيا الحضارات القديمة وحقبة ما قبل الكولونيالية، لن يتيه مشاهد فيلم "الفهد الأسود" في العثور على مرجعية التصاميم الهندسية لمدينة واكندا بديكوراتها الباروكية الجديدة، كما لن يصعب عليه العثور على المعادل الهندامي لأزياء سكان هذه المدينة الطوباوية في الأزياء التي يصممها سان راع لفرقته.  

بناء على مرجعية الأفرو مستقبلية، ركّب راين كوغلير فضاء الطوباوية الأفريقية في شكل فسيفساء سمعي بصري يعتمد في تشكيله على عناصر موجودة في الأرضية الثقافية والطبيعية للقارة. في هذا الفسيفساء تتناغم الموسيقى الأفريقية المدروسة والموظفة بعناية مع المشاهد الخارجية الطبيعية. وهي تمسح هذا الفضاء في بانوراميات ديناميكية، حرّرت حركة الكاميرا سهوب وهضاب أفريقيا وشلالاتها من ترسبات النظرة الإعلامية، دون أن تسقط في إعادة إنتاج النمط الابتذالي الفولكلوري الذي حاصر القارة وعرضها كنموذج للفضاء الما قبل صناعي المسخر للوظيفة السياحية. من خلال القماشة السينماتوغرافية قدّم الفيلم أفريقيا جديدة بين المتخيل والواقع، تجمع عنصر الطبيعة والثقافة وتصهرهما في رؤية جديدة للتقدّم تضع الإنسان والإنسانية في محورها الأساس. في عمران واكندا تتجاور الحواضر العالمية كسيدني ونيويورك ودبي وشنغهاي مع الرموز الحضارية للقارة كمصر الفرعونية ومملكة أكسوم الحبشية وحاضرة تمبوكتو التاريخية. في بنائه للشخصية الفيلمية خرج الملك تتشالا عن نمط الفهد الأسود، البطل الخارق، الذي عرفناه في حلقات السلسلة السابقة، لنكتشف شخصية جديدة تتمتع برؤية الزعيم الأفريقي التقدمي، كموسى داديس كامرا أو باتريس لومومبا وبصفات الملك الأفريقي الأيقوني كرمسيس المصري، ومنسا موسى المالي. نظام حكم هذه المملكة الطوباوية هو الآخر هجين بين الأفكار الأممية التي تزدهر بها الأدبيات الأفريقاوية عبر العالم، مثل طروحات ماركوس غارفي Marcus Garvey ، ونماذج النظام القبلي الأفريقي الزراعي ما قبل الكولونيالي الذي حافظ على التوازن الاجتماعي والسياسي للقارة قبل الغزو الأوروبي.

في معادلة الأفرو مستقبلية وكوميك مارفيل الفيلمي حتما يجد الأفرو أميركي سردية نموذجية للتماهي تربط أفريقيا الأرض بأفريقيا التيه، يعيد من خلالها الأفرو أميركي ارتباطه مع تاريخه المشرق ويستبصر مستقبلا جديدا يلعب فيه الدور الإيجابي للبطل عوض دور الضحية. ما أكدته اكتشافات الفضاء العلمية هو نجاعة ونجاح سلسلة حرب النجوم الهوليوودية في تحفيز الأطفال والشباب نحو الدراسات الفضائية، والشيء نفسه قد يتحقق حين تتجه سينما السود نحو الصورة المستقبلية للأسود في خطة ونهج فيلم "الفهد الأسود". فطوباوية أفريقيا في الفيلم تدخل في حيز ما اصطلح عليه إرنست بلوخ Ernest Bloch بالطوباوية الملموسةconcrete utopia ، أي كنظرة للمستقبل لا تتأتى عن الوهم المثالي أكثر مما هي متجذرة في الصراع التاريخي.    

الحضور الأفريقي

أفريقيا "الفهد الأسود" هي هذا الفضاء الطوباوي الذي يحمل معه شروط تحققه في الواقع الفعلي. في استبصارها لمستقبل أفضل، تتأثث هذه الطوباوية على المعطيات الغنية التي تتمتع بها حضارة القارة السمراء وتعرضها من منطلق يحتفي بها ويسطّر على أبعادها الجمالية المتفرّدة.

فيلم "الفهد الأسود" قد يكون قطعا الإنتاج السينمائي المثالي لو تعهدت فرضيا مجموعة الحضور الأفريقي الباريزية لهوليوود بإنجاز فيلم عن أفريقيا بنفس دافع الاحتفاء بأم القارات وعرض مميزاتها، كما فعلت مع كريس ماركر في الستينات. وسَيْرا في الخط الذي رسمه منطق هذه الفرضية، قد نشاهد في فيلم "الفهد الأسود" كذلك سينما السود الأفريقية التي كانت ستغزو القاعات الأميركية والشاشات العلمية والمعولمة، لو وضع أباطرة الإنتاج الهوليوودي المنظار العنصري جانبا، ونظروا إلى سليمان سيسي وعصمان سمبين كما نظروا إلى ميلوش فورمان وبرناردو بيرتولوتشي، أو مُنِحت لإدريسا ودراوغو، الذي ودعنا مؤخرا، ومحمد هارون أو عمر سيساكو نفس الفرصة التي منحت لغييرمو ديل طورو، وأليخاندرو إنياريتو، وألفونسو غوارون. حتما بهذا الانفتاح الذي لم يتحقق كانت هوليوود ستؤسس مرجعية بصرية أفريقية يبني عليها المخرجون من الأجيال السابقة والحالية واللاحقة.

فيلم "الفهد الأسود" من هذه الأعمال الفنية التي تموه وتخدع من عنوانها. قد يجد فيه بعض البيض من أميركا الشمالية تدويرا آخر لحكاية ترتبط بمجموعة عنصرية من السود تؤمن بالعنف الثوري وتتسم بالتطرف والتعصب العرقي! وطبعا لم ينج فيلم كهذا يحمل عنوانه كتهمة من الأحكام المسبقة والآراء الاستباقية. نفس التمويه قد تسقط فيه هذه الفئة من المشاهدين المقنّنين، أي النقاد، الذين قد يشاهدونه كمجرّد كوميك فيلمي آخر من سلسلة مارفيل، أي قصة هوليوودية أخرى خاصة بالأطفال، الصغار منهم والكبار، دون أن يروا داخله تجربة سينمائية جديدة وجديرة بمقارباتهم الاستقرائية المجنّدة لأفلام هوانغ تسو وجعفر بناهي وبلا تار.

فهذا الفيلم أثبت أن مارفيل السينمائي هو لغة هوليوود في الألفية الجديدة، وأن حبكة قصصية وصيغة مرتبطة بعالم الأطفال قد تكون أكثر نجاعة في تحقيق هذا الفن الذي يحمل مشروعا سياسيا مستقبليا.

هيوستن، 10 حزيران/ يونيو 2018 

* ناقد من المغرب يقيم في أميركا  

هوامش (ظهرت في القسم الأول)

(1)  بحسب التصنيف الإثني المتداول في الولايات المتحدة الأميركية، يدخل كل أميركي من جذور أفريقية في خانة الأفرو أميركي، في حين يطلق نعت الأفريقي على النازح من أفريقيا ما تحت الصحراء الكبرى كمهاجر مثل النيجيري أو الكاميروني. أما سكان شمال أفريقيا، فيضعهم التصنيف الفيدرالي في خانة البيض، فيما يُتمثلون اجتماعيا كعرب أو سكان الشرق الأوسط. في كل هذه الحالات تسقط عنهم خاصية الأفريقاوية التي تشكل عنصرا مهما في تركيبة هويتهم بحكم الجغرافيا والتاريخ.

(2)  أشير هنا بالأساس إلى المرجع النظري المهم في الدراسات السينمائية للباحثة مانثيا ديوارا Manthia Diawara Black American Cinema (1993) والذي أعادت فيه تقويم النظرية السينمائية من خلال منظور سينما أقلية السود في الولايات المتحدة الأميركية. مشروعها هذا يعتمد ويكمّل نظرية ثقافية تصحيحية تعيد النظر في المتن التنظيري والنقدي الأدبي الذي ظل حصير المركزية الأوروبية، والتي نجدها في مؤلف بالغ الأهمية في هذا الحيز ككتاب أدب السود والنظرية الأدبية للناقد هنري لويز غيت، Black Literature & Literary Theory (1990).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.