}

أفريقيا الفهد الأسود (3 - 4)

عبد اللطيف عدنان 25 يونيو 2018

إثيوطوبيا: الكائن والممكن في أفريقيا الفهد الأسود (3)

أسال فيلم "الفهد الأسود" Black Panther، الذي أنتج عام 2018، مدادا كثيرا بسبب النجاح الذي حققه ولم يسبق أن حظي به أي فيلم بمواصفاته الإنتاجية. وشكل هذا الفيلم مناسبة أخرى لإعادة طرح السؤال الإشكالي حول علاقة السينما بموضوعة التمثيلية، وماذا تربح هذه الأخيرة أو تخسر حين ترتبط بأقلية معينة، وتكون مطالبة بالتعبير عن واقع وآفاق هذه الأقلية؟ في هذا السياق أتى فيلم "الفهد الأسود" بمعادلة جديدة تربك هذه القاعدة التي تحكم على سينما الأقليات بهامش المشاهدة الضيقة والمناسباتية، كما كان وضع السينما الأميركية من إنجاز المخرجين الأفارقة الأميركيين.

في هذه المقاربة نحاول الوقوف على بعض أوجه التجديد في هذه السينما، التي ما زالت تعاني الحيف في المقاربة الأكاديمية والنقد والتعليق، لكيلا نقول إن هذه المقاربات، وإن تحققت، تظل حصيرة جغرافيةٍ معينة. من عنوانه المفخخ "الفهد الأسود"، الذي يحبل بدلالات سياسية صدامية في السياق السوسيوسياسي في الولايات المتحدة الأميركية، إلى اختياره الأسلوبي في نمط إنتاجي كالكوميك الفيلمي، الذي لا يزال لا يحمل محمل الجدّ في العديد من المقاربات السينمائية، إلى رهانه في البنية السردية على فضاء أفريقيا المشحون بالتدليلات التنميطية، ينفتح فيلم "الفهد الأسود" على آفاق استقرائية مهمة تفرض إعادة تقييم سينما السود الأميركية.

يشكل هذا الفيلم تجربة جديدة ومتفردة في هذه السينما، حين يعيد طرح الأسئلة التي تؤرقها ويعالج المواضيع الكلاسيكية التي تدخل في أفق اهتمامها، كإشكال الهوية المرتبط بوضعية السود في المجتمع الأميركي، وإرهاصات الماضي وتحديات الحاضر واستشرافات المستقبل، في صيغة تتقاطع فيها سينما هوليوود الأكثر استهلاكا وتسويقا، مع السينما الأفريقية والعالمية، ومن خلال تصور ورؤية جديدين نابعين من أرضية ثقافية متجذرة في الثقافة الأفرو أميركية والأفريقية، يضع فيلم "الفهد الأسود" بصمته في سينما السود الأميركية والثقافة السينمائية عامة وبالأخص منها هذه التي ترتبط بالأقليات إنتاجا وطرحا.

هنا القسم الثالث:

هوية الأفرو أميركي بين

البطل والبطل المضاد

سؤال الهوية يحضر بقوة في فيلم "الفهد الأسود"، كما يحضر في الفيلمين السابقين للمخرج الشاب "محطة فروتفيل" و"كريد" Creed (2015). ماذا يعني أن تكون أسود في الولايات المتحدة الأميركية؟ وبالطبع هذا السؤال لا ينحصر في الأفق الضيق لمستوى وعي شقي ناتج عن لون البشرة. شخصيات هذا المخرج، ومن خلال فيلموغرافية مقتضبة كهذه، اكتسبت ما يميّزها عن شخصيات السود الأخرى في السينما في كونها لا تحكي عن واقعها من خلال القالب المستهلك لجماليات الضحية victim esthetic، لكن تتجاوز ذلك لتستفز المشاهد أيا كان وبما يكفي ليشعر بمسؤوليته في هذا الواقع المتوعِّك. يطرح راين كوغلير سؤال الهوية بعيدا عن الصيغة الكلاسيكية لكيفية نظر الأسود الأميركي لنفسه ليعالج كذلك كيف ينظر المجتمع الأبيض لسوده. في الفيلمين السابقين تأطر سؤال الهوية بسياقه الظرفي والتاريخي لأحداث العنف التي تعرض لها السود على يد قوات الأمن، ليكون مرافعة أخرى في حق الأفرو أميركي في مواطنة كاملة لا تشوبها النواقص المفروضة عليه بحكم لون البشرة والوسط الاجتماعي. وفي فيلم "الفهد الأسود" يُعيد المخرج طرح سؤال الهوية لكن في بعده الكوني ليشمل هذا الأسود العابر للجغرافيات، ويتجاوز الآني والظرفي إلى تبصر مستقبلي يستشرف صيغة جديدة لحضور هذا الكائن تتجاوز الواقعي بأزماته والتاريخي بعنفه الموروث.

من داخل وصفة الملامح السيكولوجية لأبطال سلسلة "المنتقمون" The Avengers التي ينتمي لها "الفهد الأسود"، نجد هذا الأخير هو الآخر يتحرك بدافع التصالح مع ماضيه ونفس الشيء ينسحب على بطل الفيلم المضاد إريك كيلمونغر. لكن هذه الرغبة المحركة تتجاوز بكثير مهمة العثور على قاتل أبيه التي أوكلت للبطل في حلقة "كابتن أميركا: الحرب الأهلية"، حيث تعرفنا على الفهد الأسود لأول مرة، وتعدتها إلى خلق حيز للتصالح مع هذا الأب ومنح هذا الأخير فرصة تفسير أخطائه كذلك. هذا التصالح المزدوج مع الماضي يشترط أولا مواجهة النتائج التي نجمت عن أخطاء الأب والتي تتمثل في خلق شخصية البطل المضاد كيلمونغر.

إشكال الهوية في "الفهد الأسود" يتجاوز ثنائية الصراع الكلاسيكية المحددة الطّرفين ليأخذ طابعا أكثر رمزية في شكل صراع داخلي يدور في المسرح الذهني لنفس الذات. إنها ذات الأفرو أميركي نفسه. هذا الصراع أخذ تعبيريته القوية في الفيلم عبر شخصيتي البطل والبطل المضاد، واللذان يمكن رؤيتهما كوجهين مستقطبين لنفس الذات. كلاهما يتمتّعان بنفس الصفات ونفس المؤهلات، ونفس الدم الملكي، ونفس اللقب "الفهد الأسود" المكتسب كنتيجة لهذه الشروط. يمكن أن نجد في التركيب المزجي لعبارة الأفرو أميركي تعبيرا أليغوريا عن الخاصية الذاتية لهذا الصراع بكونه يدور بين الذات الأفريقية، تتشالا، والذات الأميركية، إريك كليمونغر، ويستمد شحنته في اللقاء الأبوي الذي يدور في المسرح الذهني لكليهما.  

هوية الأفرو أميركي تتحدد بهذه الفروقات التي تتميز بها هوية تتشالا عن هوية كيلمونغر. في الوقت الذي يحمل فيه الملك الأفريقي اسمه الخاص بكل وعي، ويعرف من هو جيدا، تتمزّق هوية ندّه الأميركي في عدة أسماء: فهو إريك ستيفنسون، إريك كيلمونغر، ونجاداكا. في اسم إريك، الأنغلو سكسوني، تستمر وصمة تاريخ الرق، لأنه اسم من ملك الرجل الأبيض، وفي كيلمونغر "داعية الموت" لا نجد اسما وإنما مجرّد وظيفة تعبّر عن أقصى درجات إلغاء الهوية عبر التماهي مع هوية المتسلط التاريخي نفسه. في كلا الاسمين هناك صورة مشوهة عن الذات، فقط في فضاء القارة يسترجع إريك اسمه الأصلي نجاداكا. في كل هذه الأسامي تغيب الذات وتحضر هوية مركبة حسب شروط الظرفية التاريخية والواقعية.

يحضر تتشالا منسجما مع محيطه، ويستمد فكرة واضحة عن ذاته وكيانه من هذا المحيط، عكس كيلمونغر الذي نشأ في محيطات ترفضه وتفصله عن تاريخه، حيث لا يجد إلا إشارات مفكّكة لا تحدّد ذاته بقدر ما تلوّح بفكرة سطحية عنها. هوية تتشالا تتحدد كذلك إيجابيا من خلال علاقته مع الفاعلين في محيطه الخاص، حيث يحظى تتويجه بمباركة ممثلين من القبائل الأفريقية، ويربح أخيرا صداقة ملك قبيلة الجباري، الذي أشرف على معالجته. في الوقت ذاته نجد هوية كيلمونغر تتشكّل سلبيا إما في أبعاد صراعه مع الآخر الأبيض، أو في مظاهر التماهي معه ليصبح متسلّطا مضادا يحاول تصحيح الماضي بنفس لغة العنف التي مورست عليه.

دور السردية

تلعب السردية، خصوصا في بعدها الفولكلوري الأفريقي، دورا مهما في بناء الذات وتحديد الهوية. في بداية الفيلم، كما أشرنا أعلاه، كان الأب يروي تاريخه الخاص عبر تاريخ وطنه، مملكة واكندا، وغناها بطاقة الفيبرانيوم وكل ما جعلها تحصّل تقدما تكنولوجيا يجعلها مطمعا للأجنبي. في العناصر المركبّة لهذه السردية نجد كذلك المركبات الرئيسية لشخصية تتشالا. على العكس من ذلك يفتقد إريك كيلمونغر لسردية عامة تتبلور من خلالها المعطيات المركبة لهويته وتربط حاضره بماضيه. في الوقت الذي يمتلك فيه تتشالا حكاية عن نفسه لا يملك إريك إلا استعارات إحالية لا تعطي فكرة عن تاريخه بقدر ما تمنح صورة عن التشوهات التي تعرض لها هذا التاريخ. استعارات لا تمنح فكرة عن الأرض الأم، بقدر ما تزيد وتكثّف الشعور بالتّيه.

تواجد إريك كيلمونغر في رواق مقتنيات غرب أفريقيا داخل المتحف البريطاني يمكن أن يمنح نفسه كأليغورية تعبّر عن واقع الأفرو أميركي وصيغة ارتباطه بتاريخه الأفريقي. تستدعي هذه اللقطة للذاكرة عملا سينمائيا يتقاطع مع فيلم "الفهد الأسود" في معالجته صورة الحضارة الأفريقية وواقع التيه الأفريقي، كفيلم "التماثيل تموت كذلك" Les Statues Meurent Aussi الذي أخرجه الفرنسي كريس ماركر Chris Marker بتعاون مع المخرج ألان روني Alain Resnais سنة 1953. بغض النظر عن صور تماثيل الفهود والشخصيات الملكية التي تقترح فيلم ماركر كخلفية تناصية ومجالا للتقاطع مع فيلم راين كوغلير، نجد في النص الأدبي المصاحب للفيلم تعاليق بإمكانها تدوير صور الفهد الأسود ومنحها هذا البعد الإشكالي في سياق موضوعة هوية الأسود في بعديها المحلي والكوني. في التعليق الذي يذكرنا فيه كريس ماركر أن الأقنعة والتماثيل الأفريقية مواضيع تشاهد في الغرب ولكن "تُحس" و"تُشعر" في موطنها الأصلي نجد مرجعية تناصية لجملة إريك كيلمونغر الحوارية حين يجيب عن استفسار كلاو لتأمله قناعا أفريقيا داخل الصندوق الزجاجي بأنه "يحسّه" فقط.

في حيّز التقاطع بين فيلمي ماركر و"الفهد الأسود" من خلال مشهد المتحف، تذكرنا كذلك وضعية الزائرة السمراء، المنحدرة هي الأخرى من جذور أفريقية، داخل متحف الإنسان بباريس، أمام واجهة تعرض التماثيل وبعض الأدوات من أفريقيا ما قبل الكولونيالية، بوضعية إريك ستيفنسون، المقابلة داخل نفس الجناح بالمتحف البريطاني. بشعره المجدل على الطريقة الرستفارية، ولباسه المؤشر على موضة الرفض لأي نموذج اجتماعي تمليه المؤسسة، والذي يفضح خلفيته الذهنية الثورية، ويضعه في نفس الآن محط شك وريبة تجعل حراس المتحف يحيطونه من الجهات الأربع تتحوّل الشخصية إلى هذا الفاعل السينمائي الذي يمكن أن يأخذ فيه تعليق كريس ماركر الأدبي شكله التشخيصي المسرحي. في المشهد يتأمل إريك ستيفنسون بعض التماثيل والأقنعة وبعض الأسلحة الأفريقية البدائية وينخرط مع خبيرة في المتحف في حوار عن التواريخ والأزمنة التي تنتمي لها هذه المقتنيات. يستفسرها كذلك في أمر يعرف ويعي الجواب عنه مسبقا وهو سبب تواجد هذه المقتنيات بعيدة عن وطنها الأم. يذكر المشرفة الخبيرة بدورها في تحسين وتجميل الإرث الكولونيالي وتجريده من عنفه الأصلي عبر عرض الأشياء الجميلة التي استحوذ عليها في أفريقيا وبدون مقابل. تحولت نظرة إريك كيلمونغر إلى إدانة حولت بدورها خبيرة الآثار الأوروبية إلى مجرمة تاريخية. لفرنسا كما لإنجلترا ماض كولونيالي وجد أحد منافذه التنفيسية في هذا الاهتمام المتزايد بدراسة "موضوع" تعسفه في الأنثروبولوجيا، أو كما لا يتردد الكثير في نعتها، كهذا المبحث الأكاديمي التطهيري من ذنب الماضي، أي Anthro-apology (الاعتذار للإنسان).

في متوالية المتحف يحضر إريك كيلمونغر كهذه القرينة التي أعطت لوجه الماضي الكولونيالي التعسفي ملامحه الجديدة في الحاضر العنصري التنميطي بما فيه وجهه الأكاديمي كذلك. حضوره في المتحف يمكن أن نقاربه كمحاولة رمزية لترميم هويته بين فراغات هذا الماضي وتأويلات هذا الحاضر.   

في مواجهة الفهد الأسود البطل والفهد الأسود البطل المضاد يقف كلاهما على حقيقة مسؤولية الأول في وضع الثاني. يواجه تتشالا أباه الملك تتشاكا بمسؤوليته في تكوين شخصية كيلمونغر لأن هذا الأخير كان نتاجا حتميا لفكّ الارتباط الدموي بين الأب الملك وأخيه الذي كان متواجدا في أوكلاند، والذي يمكن حمله أليغوريا على فك الترابط بين الأفريقي والأفرو أميركي. تأخذ قرابة البطلين طابعا تراجيديا قدسيا يستلزم التضحية وإلغاء أحدهما للآخر. طبعا يتركنا الفيلم في حالة تساؤل عن وضع كيلمونغر بعد أن هزمه تتشالا حين يرفض فرصة علاج المحقق التي منحت له، ويصرُّ على موت استشهادي يخدم قضيته، كرمي جثته في وسط المحيط كما كان يفعل الأفارقة المأسورون في مرحلة الممر الأوسط middle passage، بين غرب أفريقيا وجزر الكاريبي، كتعبير عن رفض واقع العبودية الذي ينتظرهم في الضفة الأخرى من البحر. في الجدلية بين الخيارين نقف على نوع العلاقة الجديدة التي يقترحها المخرج بين الذات والآخر، بين أفريقي الوطن الأم وأفريقي التيه، والتي ليست إلا وجها آخر لتصالح الذات مع نفسها. هذا التصالح مع الذات يأخذ طابعا استشرافيا في ذهاب تتشالا لأوكلاند لاقتراح فضاء آخر يلغي فضاء الصراع ويعوضه بحيز تتحقق فيه المشاريع الإنسانية وتتنفذ فيه الخطط التربوية التي تساعد الأسود الأميركي على الانعتاق من واقعه السلبي. جدلية الصراع بين البطل والبطل المضاد تقود نحو التحول عوض الإلغاء. الفضاء الذي يشكّل نقطة انطلاق الأول هو نفسه الذي يشكّل نقطة نهاية الثاني والعكس بالعكس. يموت إريك كيلمونغر باسمه الأفريقي نجاداكا وعلى أرض أفريقيا، في الوقت الذي ينتهي فيه تتشالا كأفريقي أميركي في مدينة أوكلاند.

إشكال الهوية في فيلم أفرو أميركي يستدعي بالضرورة حضور هذا الفاعل المهم الذي ساهم مباشرة في تشكيلها وهو الرجل الأبيض. في فيلم "الفهد الأسود" يحضر الرجل الأبيض من داخل الهوية الرمزية التي يحملها في الذاكرة الكولونيالية المرتبطة بتاريخ القارة الأفريقية. الأبيض هو مجرد "المعمّر" كما تناديه أميرة واكندا شوري (لتيتيا رايت). في شخصية كلاو تختزل كل التمثلات السلبية للرجل الأبيض في الذاكرة الجماعية الأفريقية والأفريقاوية، فهو نموذج الاغتصاب الكولونيالي السادي الذي يجند كل الوسائل للوصول إلى هدفه. في الوقت نفسه، يقترح المخرج عبر شخصية إفريت روس (مارتن فريمان)، رجل مكتب الاستخبارات الأميركية، إمكانية للتصالح بين الماضي الكولونيالي للقارة وحاضر إشراقي تنبني فيه العلاقات على الشراكة عوض الاستغلال.

شخصية إفريت روس في الفيلم ليست هي نفسها التي تعرّفنا عليها في "كابتن أميركا: الحرب الأهلية". تتمثل في إفريت روس هوية الرجل الأبيض ببعدها الرمزي المرتبط تاريخيا بالعنف الكولونيالي وحاضرا بالبعد النيوكولونيالي بحكم وظيفته كرجل الاستخبارات المركزية الأميركية. في المختبر العيادي داخل المدينة السرية، يتمُّ إنقاذ إفريت روس بعد تعرضه لرصاصة أصابته في مقتل. عبر هذه العملية تحصل ولادة جديدة لرجل الاستخبارات الأبيض، يصحّح فيها نظرته التنميطية لما هو أفريقي، ويفهم أن علاجه تحقق بفضل التقدم التكنولوجي وليس بالسحر. في عملية إعادة بناء الذات هذه، يصبح الأبيض الذي درَّب إريك وحوّله إلى داعية الموت، هو الفاعل نفسه الذي سيساعد واكندا في التخلص منه.

يقحم المخرج الرجل الأبيض بدافع مسؤوليته عن الوضع التعسفي الراهن الذي يعيشه الأفرو أميركي، مطالبا إياه بدور أكثر إيجابية في تصحيح هذا الوضع يتجاوز الإدانة والتعاطف. لكن فيلما يرتقي بعنصر الزنوجية إلى مستوى الطوباوية في أبهى صورها، ويقترح على السود، ليس فقط في أميركا، بل في كلِّ أنحاء العالم شخصانية جديدة ووعيًا ذاتيًا مصفَّى من رواسب التاريخ السلبية، سيحمّل دور رجل السي آي إيه الأبيض، رغم نواياه ونوايا المخرج التصالحية الحسنة، شحنة من السلبية لا تنقصها مصداقية من الواقع التجريبي. هنا يلح السؤال على نفسه: هل كان وجود هذه الشخصية ضروريا في أحداث القصة الفيلمية، وهل يشفع وجودها في حلقة سابقة من السلسلة حضورها في حلقة الفهد الأسود، أم هو مجرد إوالية لحماية الفيلم من تهمة العنصرية؟

عبر تاريخ هوليوود الماضي والآني أنيطت أدوار كثيرة بممثلين سود انطلاقا من دافع التخلص من تهمة التمييز العنصري والإقصاء التي تلحق بالمخرج الأبيض (وما زالت تسم وودي آلين أكثر من أي مخرج آخر). مثل دور إفريت روس في "الفهد الأسود"، ظهر الأسود في عدة أفلام كرئيس للمكتب الفدرالي إف بي آي، وخبير تقني، بذكاء لافت للنظر، لا يمكن الاستغناء عنه في المجال التكنولوجي المرتبط بالأمن القومي. وهي أدوار لا تشفع أهميتها، أو حقيقة تواجدها في المرجع الواقعي للفيلم، لطبيعتها الثانوية جدا داخل حبكة فيلمية محورها الرجل الأبيض.

المرأة كفاعل إيجابي

في "الفهد الأسود"

أمام الحضور الإشكالي للرجل الأبيض في سياق موضوعة الهوية، تحضر المرأة في فيلم "الفهد الأسود" كفاعل إيجابي وعضوي يرسم الملامح الصّحيحة لشخصية الرجل. حين تحضر المرأة في شكل تسخير وظيفي منمط في دائرة إريك كيلمونغر، الذي لا نعرف أمه، في شكل عشيقة مسخرة في الإجرام والخدمة الجنسية، تحيط المرأة بالملك تتشالا كأم وكأخت وكقائدة عسكرية، وفي لحمة أسرية تمدّه بالدفء والحكمة والخبرة التي تساعده في القيام بوظيفته.

في معالجته للشخصيات النسوية حضرت المرأة الأفريقية في الفيلم من داخل مميزاتها الجمالية الخاصة الخارجة عن المعيارية الأورومركزية. تبدو الشخصيات النسوية في الفيلم عبارة عن تجسيد أيقونوغرافي لهذه المرأة التي يحتفي بها الشاعر السنغالي ليوبول سيدار سنغور في قصيدته الشهيرة "المرأة السوداء" وتعبير سينماتوغرافي لمفهوم "الزنوجية". بجانب جمالها تتمتع المرأة الأفريقية في الفيلم بإرادة قوية وباستقلالية مطلقة كما نلمس في شخصية نيكيا (لوبيتا نيوغو). في علاقتها بالرجل التي تتسم بالاحترام والتقدير بعيدا عن كل سلطة ذكورية، تقدّم هذه المرأة وظيفتها الرئيسية وتلتزم بقضيتها دون أن تجد في الارتباط العاطفي معيقا لذلك. وهو ما ينسحب على شخصية نيكيا، التي لم يغرها صعود عشيقها الملك تتشالا في سلم السلطة للتنازل عن التزامها بحماية المقهورين في القارة، وكذلك على قائدة الحرس الملكي، دورا ميلاجي أوكويي (دناي غوريرا)، التي كانت مستعدة للتضحية بعشيقها لو استمر في محاربة الملك تتشالا.

في تصويره للمرأة تجنب المخرج هذه الاستعارات الجنسية، التي ظلت لصيقة بشخصيتها وكانت تؤخذ كثيرا على سينما السود الأميركية. لم تحضر المرأة على مستوى الجسد أو كعنصر رهن إشارة النظرة الذكورية، بل كانت تنوط بأدوار تجد مرجعيتها في تاريخ القارة المعروفة بالمجتمعات الأميسية التي تجسدت في المرأة الحاكمة من قبيلة التجار، أو في المحاربات اللائي عرفن عبر التاريخ بأمزونيات داهومي وبنى عليهن الفيلم شخصيات حرس دورا ميلاجي.         

* ناقد من المغرب يقيم في أميركا  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.