}

العرض المسرحي السوري "الاعتراف": العدالة كهدف أعلى

مسرح العرض المسرحي السوري "الاعتراف": العدالة كهدف أعلى
مشهد من "الاعتراف"

صار بإمكان السوريين اليوم النظر بعيدًا في سنوات النار الأولى، وربما مع مرور الوقت والسنين، سيصبح تأمل الانفجار أوضح وأصفى، وسيغدو النظر في الماضي القريب أمرًا واجبًا للإجابة على أسئلة من قبيل: ما الذي حصل؟ وكيف ولماذا حصل؟

هذه النظرة إلى الوراء هي أحد أساسات العرض المسرحي "الاعتراف" المقدَّم في مسرح دوار الشمس في بيروت مؤخرًا، وهو حصيلة تجربة سورية إخراجًا وتأليفًا، حيث ألف فيها النص وائل قدور ومن إخراج عبد الله الكفري.

يستلهم نص قدور فكرة الاعتراف من نص "الموت والعذراء" للكاتب التشيلي آرييل دورفمان، دون ذلك ينطلق النص ليبني حكايته السورية الخالصة التي تدور حول علاقة قديمة تعود للحياة بين ضابط طردته المنظومة الحاكمة أيام السلم وأعادته في الحرب، "جلال، جمال سلوم"، الذي كان معذبًا في أحد المعتقلات الأمنية السورية، وبين معتقل سابق، "أكرم، شادي مقرش"، عُذب تحت يدي الأول. يلتقي الاثنان حينما تتشابك أقدارهما عن طريق "عمر، أسامة حلال"، ابن أخت جلال، المخرج المسرحي المهموم بإخراج مسرحية "الموت والعذراء" التي يلعب دور المعذب فيها "أكرم"، بينما تلعب شخصية الفتاة المعذبة "هيا، سهى نادر" حبيبة عمر. وفي فلك هذه العلاقات يتيه "رضوان، حمزة حمادة" حارس الضابط دون أن يعلم ما سيواجهه من أهوال بعد خروجه من خدمة الضابط للمشاركة في مذبحة القرن الواحد والعشرين.

يبدأ زمن حبكة النص مع طلائع أحداث الثورة السورية، حيث البدايات، صرخات الحرية الأولى، والقمع الأول، وما أتى بعده من توتر السنين الأولى للبركان السوري. وتمكن العرض من تصوير انعكاس تلك اللحظة على الخشبة، والمساهمة في البحث عما كان يجري حينها متخفيًا تحت هدير المظاهرات السلمية والمدافع الرشاشة. وقدر على الغور في التفاصيل التي كانت تنبئ بالخراب القادم، بيد أن ما سُهي عنه في هذا الطرح هو التقاط المزاج التفاؤلي الذي ساد البلاد السورية آنذاك، والمقصود بهذا المزاج هو تفاؤل الشعب السوري، بكامل أطيافه السياسية، بأن الحل قريب وسيتم، سواء بالحسم العسكري من جهة مؤيدي النظام القائم، أو عن طريق سقوط النظام ونجاح الثورة بالنسبة للمعارضين. في الحالتين لم يكن هناك من يتنبأ فعلًا بحجم الكارثة، وإن كان هناك استثناءات كما شخصية الضابط "جلال" ابن السلك المطلع على الوضع السياسي عن كثب، لكن هذا لا يمكن أن يندرج على باقي الشخصيات المتفائلة بالحل الثوري، ولا يمكن لمزاجها أن يكون موتورًا طوال جريان الحكاية، مثلما كان الحال في العرض.

لم يؤثر هذا المزاج المتشائم للشخصيات على أداء الممثلين، ولم يطبع أداءهم بأي مبالغة أو مباشرة، فمن شخصية "جلال" أكبر الشخصيات قدرا وعمرا، وصولا إلى "رضوان" أصغرهم سنًا، كان خط الأداء مضبوطًا، إذ قدم سلوم شخصية الضابط بكامل حضورها "وجلالتها"، بينما لعب حمادة دور المجند المستخدم حامل الحيوية في حياة النص. كذلك كان الحال مع الشخصيات الثلاث البقية (أسامة، شادي، سهى) حيث عملوا على المساحة الفاصلة بين الشخصيات التي يلعبونها في المسرحية، وتلك التي يؤدونها في مسرحية "الموت والعذراء"، مع بعض الاستثناءات التي شابت أداء سهى، فبقيت موتورة ومتشنجة في أدوارها المختلفة، وعلة ذلك الدرامية هي اعتقال أخيها ومحاولاتها الفاشلة لإخراجه، فهو كان قد مات في السجن منذ مدة دون أن تعلم. إن هذا الأداء المتين ساهم ــ بالإضافة لعناصر العرض الأخرى ــ بشكل كبير في ضبط إيقاع العرض، وإبقاء تركيز المتلقي وتتبعه للحكاية منذ بداية العرض حتى نهايته. 

المسرح داخل المسرح

يحضر المسرح داخل المسرح ثلاث مرات في عرض "الاعتراف"، الأولى كمشهد أول صامت تضع فيه فتاة رجلا مغمى عليه على كرسي أمام طاولة، ويبقى هذا التقديم مبهمًا حتى يماط اللثام عنه في الثانية، وذلك حينما يظهر أن هذا المشهد هو جزء من بروفات لمسرحية "الموت والعذراء" يتدرب عليها "عمر" و"أكرم" و"هيا"، وينتهي تدريبهم هذا باختلاف كبير في الرأي حول عدالة الاقتصاص من الدكتور أم لا. أما الحضور الثالث للمسرح داخل المسرح فيحصل في المشهد الختامي للعرض حيث يقرر "أكرم"، في مشهد مكاشفة بينه وبين معذبه، أن يقدم المشهد الأخير من المسرحية بعد تناول العشاء، وهو المشهد الذي تنتهي عنده المسرحية في انحلال للحدود بين المسرح والمسرح الذي بداخله، ومع فتح السؤال حول إمكانية تحقيق عدالة ما.

يقترن مفهوم العدالة في العرض بالاعتراف، الاعتراف بالخطيئة، والاعتراف بالذنب المقترف منا تجاه الآخر. من حادثة بسيطة ينطلق العرض ليحوم حول هذين المفهومين، فـ"رضوان" الذي سرق من "عمر" عليه أن يعترف حتى تتحقق العدالة، لكن سيخفت معنى وأثر مثل هذا الاعتراف أمام هول اعتراف الجلاد لضحيته، اعتراف بالتعذيب والحكم بالسجن لسنوات. في مشهد مُستلهَم من رواية "القوقعة" لمصطفى خليفة، والتي تدور أحداثها حول رحلة اعتقال وتعذيب هائلة للراوي في المعتقلات السورية، يراها ويعايشها، ينفجر "أكرم" بمونولوج يستذكر فيه حوادث تعذيب وقتل قصوى، جرت أمامه وأمام معذبه وهما الآن يجلسان على طاولة عشاء واحدة، لا يعترف الضابط بأنه كان شاهدًا عليها، لا وبل مارسها أيضا، إنما يبقى صامتًا يتأمل بوجل انفجار "أكرم" دون أن ينبس بكلمة واحدة. فيبقى الاعتراف معلقًا، وتبقى معه العدالة أيضًا، في عرض يقدم الاعتراف كأساس لتحقيق العدالة.

الخيار الإخراجي

تأرجح الخيار الإخراجي للعرض بين الواقعية القريبة من الطبيعية، حد تقديم طعام حقيقي يتم تحضير قسم منه على الخشبة، وبين كشف اللعبة المسرحية دائمًا عبر تحريك الممثلين لأدواتهم، كما في مشهد تحضير فضاء المشهد الأخير، إذ تلتصق الشخصيات في الجدار الخلفي الكبير أثناء دورانها، بينما يمر "الخادم" جارًا عربة الطعام. لم تؤثر هذه الأسلوبية الإخراجية على سريان العرض أو إيقاعه، بل كانت متسقة رغم تنوعها، كذلك الحال مع الفضاءات المختلفة التي مرت فيها مشاهد العرض، إذ اتسعت من فضاء يتألف من قطع متحركة يضعها الممثلون حسب المشهد، حتى فضاء الصالة كاملًا مثل مشهد بروفات مسرحية "الموت والعذراء". بيد أن ما أثر على تركيز المتلقي، تلك الشاشة التي كانت تتوسط أحيانا فضاءات العرض سالفة الذكر، ففي حين تظهر متسقة مع عناصر الفرجة في المشهد الأول وقت الحديث عن مسرحية "الموت والعذراء"، تبدو في مكان آخر لزوم ما لا يلزم، وذلك حينما تتوسط فضاءين، من اليمين فعل تقطيع الخضار يقوم به "جلال" و"أكرم" ومن اليسار حوار بين "هيا" و"رضوان"، وقتئذ يقدم على الخشبة ثلاثة فضاءات مختلفة الأسلوب، الأول ميكانيكي في الظل لكن قد يحمل حدثًا فجائيًا في أي لحظة ولذلك هو على الخشبة، والثاني مشهد واقعي يحصل بين شخصيتين، وبينهما تتوسط لقطات فيديو لماكيت مصنوعة شخصياته من الحديد لعرض "الموت والعذراء"، مع الإشارة إلى أن الماكيت موجود في الجهة اليسرى من الخشبة ويتم التعامل معه لاحقا من قبل الشخصيات.

اعترفت اليابان في مطلع القرن الجديد بخطئها في المشاركة في الحرب العالمية الثانية، وطلبت الدولة الصفح من شعبها عما لحق به من أضرار جراء الحرب. لعل ذلك النوع من التحضر الإنساني والسمو البشري هو ما يلزمنا اليوم، اعتراف أعدائنا بجرائمهم علينا، واعتراف أنظمتنا بجرائمها بحق شعوبها، هذا الاعتراف الذي قد يبدو طوباويا، لكنه ضروري لتحقيق عدالة لطالما نشتهيها كشعوب مضطهدة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.