}

ياسر الصافي... يدخل في أحزان لوحته

أسعد عرابي 18 فبراير 2018
تشكيل ياسر الصافي...
يدخل في أحزان لوحته
لوحة للفنان ياسر الصافي
 

1- العبور إلى الذات:

من مرويات الفن الياباني أن أحد رساميها "صوّر باباً مشرعاً في لوحته، ودخل فيه، ثم لم يخرج منه أبداً".

هذا هو شأن فنان تُشرف بوابة أناه الفراغية على فسحة ذاتيّة لمرح طفولته وصبيانه الأشقياء. فسحة أشبه بمسرح عرائس شعبي دون كواليس، لأنه منظور إليه من عين "طائر العنقاء"، من أعلى مركز القبّة السماوية، دون مناظير، ومتحرّر من الجاذبية الأرضيّة. تعوم "مقصوصات" شخوصه في فراغ حدسي ذاكراتي سحري يقتصر على بعدين، مثل "مقصوصات" المنمنمات ذات "السلويت" الأسود على أرضيّة بيضاء، (كما وصفها عمر الخيام)، هي أقرب إلى المطبوعات الشعبيّة التي تتسلّق الجدران العامة والخاصّة، والتي تحفظ سير البطولات الشعبية على غرار عنترة العبسي والزير سالم، وبني هلال وسواهم.

ظهرت هذه الاستهلالات الرؤيوية التجريبية والمخبرية منذ بدايات تشكيلاته الغرافيكية "المحفورات المعدنية والطباعية عامة"، أي قبل أن ترسي لوحته الملونة على ضفاف "التعبيرية المحدثة"، فليس محض مصادفة اختياره برلين وطناً ثانياً لمهجره المؤقت، فهي تعانق محترف نبراسه النموذجي المعلّم جورج بازلتز. استحوذ ياسر بقوّة شخصيته على موروث بازلتز وذاكرة الرسوم الشعبية السابقة الذكر، مع انخراطه في "التعبيرية المحدثة"، دون إغفال العبور من زنزانات فرانسيس بيكون الثلاثي الأبعاد، وعرائس بول كلي ورسوم الأطفال بمن فيهم المتوحدون، والمعاقون والمعتوهون والأشقياء الأشد ذكاءً من جهالات عقلنة الرسامين البالغين. طبع المرجع الطفولي محفوراته السابقة على تصويره، وحافظ دوماً على هذا المنهج الحدسي البريء والمباشر في التأليف فإذا كانت مرحلة تفوقه في لغة الطباعة والحفر على المعدن لا تخلو من رومانسية مراهقة، فإن تصويره الملوّن عكس تجربته القدريّة العمودية الغور مع "القيامة الشامية" وقصف منزله ومحترفه في بلدة جرمانا في ظاهر العاصمة، ثم استضافته في محترف الشعراني في حي المهاجرين في دمشق، ودعم يوسف عبدلكي له قبل هجرته النهائية إلى برلين عبوراً من نشاطه الفني في بيروت، هكذا تحوّل منهج حفره الهادئ الطبع إلى تفجر لوني بركاني مأزوم يعتمد على الهدم والإلغاء أكثر من رسوخ الدلالة، فإعدامها المتواتر يكشف احتدام انفعاله، وصراخ ضميره، لما خلفه من صور فظائعية في سورية. أمعنت هذه الحرقة في حصار رؤيوية منهجه التكويني، وتشظي طبوغرافية الأشكال الإنسانية ضمن مقصلة كونية تبتر الأعضاء والرؤوس بالجملة، كما هدد الحجاج في خطبة الجمعة: "أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها". بعد ثلاثة قرون يعمّر هولاكو من رؤوس الضحايا أهرامات بغداد وسواها، ثم استمرّت المذابح في بلاد الشام مع تيمورلنك ثم ختاماً مع مغول القرن الواحد والعشرين.

2- عالم الأطفال شقاوتُهم وشقاؤهم:

يمثّل "الطفل - الضحيّة" مركزاً درامياً للمأساة السوريّة، منذ قلع أظفارهم وحتى حصدهم بالمئات وبالألوف بالبراميل المتفجّرة والكيميائي، وقصفهم بالصواريخ الوافدة من شتى مصانع الموت في العالم. يُخرج ياسر هذا الطفل من لفافة تابوته ليصبح لاعباً رمزياً في مجتمعه  الكافكاوي إلى درجة التشظيّ وتبعثر الأشلاء والأعضاء في التكوين المسلخي. يصوّر هؤلاء الأطفال بلغتهم، وبطريقة رسومهم البليغة في الاختزال والتحرر من ماديّة الجاذبية الأرضيّة، بعض هؤلاء الملائكة غير المجنّحين نبتَ لهم قرون من الشيطنة العبثية الماجنة. تذكّرني هذه القرون بمسرحية يونسكو "وحيدو القرن": تملك هذه القرون في الحالتين نقداً مريراً لوحدة اللباس السلطوية الحزبيّة على غرار لوحات ياسر، والتحيّة الصباحية لنشيد حماة الديار، والسَّوق القسري إلى  الخدمة الإجبارية ومعسكرات الفتوّة، مثلها مثل التبرع الإجباري بالدم. في مسرحية يونسكو يخطف بصر بطلها هيئة حيوان وحيد القرن يمر مسرعاً كالسهم منسّلا ضمن حشود المدينة ثم تسيطر عليه دهشة أكبر عندما يتضاعف العدد ويزداد فزعاً عندما يتطوّر الأمر إلى تدافع قطعان منه. ثم يلاحظ أن مواطينه ينقلبون بالتدريج إلى هيئة وحيد القرن، فيتمسّك برأسه حتى لا ينبت له بدوره قرناً، تسدل الستارة بعد ذلك على مجاهداته العبثية هذه. تحضرني من باب التداعي مسرحية توفيق الحكيم "نهر الجنون" المختزلة إلى حوار بين الملك والوزير بعد أن شرب كامل شعبه من هذا النهر، يقتنع الملك بعد جدل عقيم أن لا خيار له حتى يظل ملكاً عليه أن يشرب من نفس ماء النهر ليصبح مجنوناً مثل شعبه وهكذا كان.


أخبرني ياسر بأن المرحوم المعلّم نذير نبعة عرّفه قبل وفاته على زكريا تامر، كاتب قصص أطفال، وتعرّف زكريا لأول مرة على لوحات ومحفورات ياسر، فأصيب بدهشة مصرّحاً له بأن: "أطفالك المشاكسين يراودونني هم أنفسهم في الحلم".

نعثر هنا على الوحدة التخيلية لدى الاثنين: يرفعان الحدود بين الواقع المعاش والحلم الكابوسي. ينبشون قبور الأطفال ويثيلون الركام والأنقاض عن مدفنهم المقصوف، ويبثونهم الحياة الإبداعية من جديد ليمارسوا ما كان ممنوعاً على براءتهم في الحياة اليومية. يتفوّق الحس الدرامي على هذه الصور الترميزيّة من خلال سادية قزحية اللون وأزيزه الدموي وسلوك فرشاته الانتحاري.


3- الخصائص الأسلوبية:

يبدو حاضره اللوني الذي اشتعل مع سعير فورة الحرب الأهلية أشد احتداماً واستفزازاً وخدشاً لحياء أصول الرسم، مقارنة بماضيه الغرافيكي ذي الطبع والطباعة الموشحة برومانسية المراهقة الحميمة.

ابتدأ هذا التحوّل من سادية مناخاته الفضائية وترميزها العبثي. ترفع موضوعاته الحدود بين عالم المقابر وعالم المدينة وبعث القتلى واستدعائهم إلى واقع الفحش والتجبّر والعبودية، حيث سادية التمثيل بالجثث الحية يصبح تقليداً يومياً، حتى الرؤوس والأعضاء المبتورة تبدو حية كابوسية تبلبل ضمير المشاهد. كثيراً ما يستخدم صورة هياكل "مانيكانات" الألبسة في تماثلها الانصياعي. يتميز رجال السلطة بقبعاتهم "الكاكية" أحدهم يتحرّك بموتور ومفتاح "زنبرك" مزروع في ظهره مثل الروبوتات والدمى الميكانيكية تثير الرعب بطريقة آلية. كثيراً ما يلهو الأطفال بمكائد ألعابهم الخطرة مثل مسدس الانتحار وكمامة الغاز أو أسطوانة الكيميائي أو البراميل المتفجرة المتصلة بأحشائهم أنابيب مشبوهة. ثم أنواع السقوط إلى الأعلى والأسفل وتفجّر الأشلاء البشرية إلى نتف من اللحم البريء في فراغ موحش.



تقود خصوصية نسق الامتلاء المعزول عن الفراغ إلى تواصل العناصر ضمن حياكة كرافيكية معاكسة للضوء، بحيث تبدو في ذروة التضاد اللوني، ودرجات الغامق والفاتح، حتى تقترب بدرجة ما من موروث المقصوصات الورقية السوداء على الأرضية البيضاء، باعتبار الوجود العام، ورقة أو مرآة أو جدار مشحون بالنور ثم يحافظ على هذا النسق التجريدي العام من خلال تحوله إلى التصوير الملوّن، فالعناصر التشخيصية الطفولية التهكمية من الأحياء من أناس وحيوان وجن تخضع جميعها على تباعدها وتقطيع أوصالها لهذا الناظم التجريدي، أي طبوغرافية ثنائية تقوم على التضاد بين سلويت التكوين العام وأرضيّته الفارغة إلا من النور سواء المعدني أو المشبع باللون المتوهّج ضمن حدة درامية قصوى. لعلّه الحفّار العربي الوحيد الذي عند تحوله من أدوات الحفر وخاماته الطباعية إلى لغة الصباغة اللونية حافظ على استقلال تباعد اللغتين: الحفر والتصوير. وعدم تجانس التأثيرات النوعية البصرية الرهيفة خاصة على مستوى تنوع الأنسجة وتباعد الملامس ونحت السطح، وحافظ بالتالي في وحدة أسلوبه في الحالتين على تحرر رسم الخط من المساحة بحيث تربطهما علاقة تحالف وتوليف بصري متعاضد، ولكنه غير متطابق.

يبدو الفراغ في الحالتين موشوماً بالبصيرة التراثية التشكيلية التي تعتمد على التنزيه وتعاف ذائقتها التشبيه، بمعنى أن الفراغ حتى يكون بصيرياً مفاهيمياً (بالمعنى الحديث) يختزل إلى بعدين ودون أي اعتبار للجاذبية الأرضية. هي التي تصنع (وهماً) ثلاثية الأبعاد والمناظير الكاذبة (وفق تفريق الغزالي بين البصر والبصيرة)، فالعناصر العائمة في فراغ فلكي معراجي تسقط (مثل لدى بازلتز) في الإتجاهين: إلى الأعلى وإلى الأسفل مقلوبة كما هي رسوم مخطوط  "فنون الحرب" العربي في القرن الثالث عشر. قد يكون بازلتز أو ياسر اطلعا على أحصنته وفرسانه التي تتحرك في الاتجاهين.

تبدو دلالات عناصره الدرامية في تحوّل دائم وتخلّق ذاتي عضوي، لا تستقر هيئات خطوطه على قرار. محاولاً اقتناص الشكل القلق الذي يقع بين الشك واليقين أو القابل للتعديل، أي للهدم والبناء وإعادة الهدم من جديد، حتى تنفضح أشباح المحاولات الاستهلالية تحت اللون النهائي.



يتوقف عند لحظة غير متوقعة، عند ذروة الانفعال، لذلك لا يعرف الشكل معنى الاكتمال، وإلا وقع في الأسلبة والتنميط أو أُرهق بالمحسنات البديعية. تبدو طزاجة اللوحة وختامها الحدسي أشبه بالرسم التحضيري أو السريع العاصف المنجز بتسارع حدسي صدفوي فطقوس البحث عن الفحوى الموهومة في الشكل تمثّل هدفاً بحد ذاتها.

تغذي لوحة ياسر فاجعة "الالتباس الثنوي" معبّراً بنفس الوقت عن فن شعبي طفولي تراثي ونخبوي، تعبيري ما بعد حداثي، في آن واحد. في شتى هذه الأحوال لا يرسم إلا إذا دخل في أحزان لوحته.

يبتدئ معرضه الباريسي في "غاليري أوروبيا" من 22 شباط/ فبراير وحتى 23 آذار/ مارس 2018. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.