}

"بونبونة" من حلم إلى فيلم يحصد الجوائز

فاتنة الغرة 7 نوفمبر 2018
سينما "بونبونة" من حلم إلى فيلم يحصد الجوائز
من فيلم بنبونة
 حينما يُحول الشغف قصة كان يمكن أن تجرّ صاحبها إلى خندق التكرار والسطحية أو التكسّب على حساب القضية الفلسطينية، نكون أمام عمل لا يقدم ولا يؤخر في خصوص "القضية" ولا السينما، لكن ليس هذا ما فعله المخرج الفلسطيني راكان مياسي الذي انحاز إلى الخيار الأصعب ألا وهو صناعة سينما بعيدًا عن الشعاراتية وقريبًا جدًا من الشعرية، شعرية الصورة واللغة السينمائية التي تضيف قيمة شابة لمشهد الفيلم الفلسطيني.

ولادة حلم أم حلم بولادة؟

الأوتار مشدودة بعناية واللغة البصرية بالغة الذكاء والمرونة، رؤية واضحة ومعرفة مميزة بالأدوات السينمائية والموسيقى التصويرية تم اختيارها بعناية لتحمل هذه التوليفة هذا الفيلم القصير على جناحي المتعة والجمال شبه المكتمل أو ربما الساعي للاكتمال، فالقصة هي فعل مقاومة من قبل الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم ضد جدران السجون وأسلاكه الشائكة، وبطش المحتل وانتزاعه من الأسرى أبسط مسلمات الحياة في أن تكون لهم سلالة تحمل تاريخهم إلى المستقبل القادم، قصة زوجين شابين حال السجن والسجان دون أن يعيشا حياة طبيعية يكوّنان من خلالها عائلة تتوج حبهما، إلا أنهما لم يقفا عاجزين أمام هذا الحلم بل عملا على تحقيقه بدافع الحب، الحب الذي طبع ملامحه على مشاهد "بونبونة" من الألف إلى الياء.

 

يفتتح المخرج الفلسطيني راكان مياسي فيلمه القصير "بونبونة" والذي لا يتجاوز الدقائق الست عشرة بمشهد لمجموعة من السجناء الذين يغتسلون في الحمام مزيلين عن أجسادهم غبار أعمال يبدو أنها شاقة، ويظهر بينهم بطل الفيلم الممثل صالح بكري. المشهد الذي يقدم من خلاله مياسي منهجه الجريء في طرح مواضيعه حتى العري وإن لم يكن المكشوف تماما، حيث تتوقف الكاميرا في الوقت المناسب لموضوع الفيلم، ومن ثم يطالعك مشهد مألوف جدا يرصد زيارة أهالي الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي لذويهم. أمهات وزوجات يجتزن الأسلاك الشائكة والتفتيش الجسدي الذي يكشف عن مدى الذل الذي تتعرض له الفلسطينيات بمشهد الزوجة التي تقوم بالتعري أمام الشرطية الإسرائيلية لتفتيشها تفتيشا يظهر أثره على ملامح الزوجة التي تؤدي دورها الممثلة رنا علم الدين.

 

شعرية اللغة والصورة

اللغة الأكثر وضوحا في هذا الفيلم هي لغة المشاعر، حيث يقتصد كاتب الفيلم ومخرجه مياسي في الحوار المنطوق كي يعطي كافة المشاعر الإنسانية التي استطاع توجيه الممثلين ببراعة لإظهارها وخلق مساحة من التفاعل الإنساني مع أبطال هذا العمل، فكانت لغة موازية. اقتصاد كان في محله تماما ومشاعر مضبوطة على حد الشعرة دون زيادة أو نقصان وكوادر مرسومة بعناية، كان أبرزها وأكثرها تأثيرا هو كادر المحادثة التلفونية بين السجين وزوجته من وراء حاجز زجاجي فيما يلقي كل منهما ظله على وجه الآخر في لوحة سينمائية ممتعة للعين. وجبة مكتملة الأركان والعناصر تشعرك بالامتلاء والنشوة على امتداد وقت الفيلم وتترك ابتسامتها عالقة على وجهك لفترة طويلة بعد انتهائه.

 

يدور الفيلم في ثلاث وحدات مكانية مختلفة، الوحدة الأولى التي عبرت عنها مشاهد السجن وراء الجدران والقضبان واللحظات التي يعيشها السجين في انتظار لقائه بزوحته، مشهد يشرح حالة الوحدة والعجز في آن معا، ثم انتقل مياسي إلى السجن خارج القضبان في مشاهد قدوم عائلات السجناء لمقابلة أحبتهم، مع التركيز على المعاملة المهينة التي يضطرون للتعامل معها، والوحدة الثانية التي على الرغم من كون مكانها السجن نفسه إلا أن حركة الكاميرا وأداء الممثلين المحترف: صالح بكري الذي كان قلبه في عينيه ترى من خلالهما كل المشاعر التي استطاع تقديمها دون ضوضاء أو مجانية أو تصنّع مثلما استطاعت رنا علم الدين أن تقدم صورة الزوجة والحبيبة التي لا تسمح لشعور العجز بالتسلل إلى حبيبها في حوار مغلف بمشاعر إنسانية وحسية عالية ظهر فيها الشوق واللهفة، الأمل والخيبة، ولحظة النشوة في تحقيق الهدف المراد مما وضع هذا المشهد في وحدة مكانية مستقلة، وكانت رحلة العودة في الباص هي الوحدة المكانية الثالثة التي كان لها حوارها الخاص ولغتها البصرية البعيدة عن لغة السجن والتي توزعت ما بين الحوار المكتوب بأداء مقتدر وطبيعي من الممثلة نادرة عمران مع رفيقة الباص حول قصة حبها مع زوجها فيما كانت بطلة الفيلم تجري ببراعة وتلقائية حورا بملامحها مع الوقت ومع الحلم الذي كان على وشك التحطم فوق صخرة الاحتلال.

 

تحديات على المحك

لم تكن التحديات التي واجهت إنتاج هذا الفيلم إلا دافعا قويا لخروجه إلى النور، فقد بدأت هذه التحديات منذ وجد مياسي نفسه بلا إنتاج بعد أن تخلت عنه الشركة التي كان يفترض أن تنتج العمل في آخر لحظة؛ لكنه لم يستسلم لهذا الواقع المفروض والتحدي الأكبر، فبدون إنتاج لن يولد الفيلم وستموت الفكرة، لكنه شحذ كل همته ليتمكن من جمع المال اللازم لإنتاج "بونبونة" والذي كلفه الكثير من الديون، أما التحدي الثاني فكان حينما تركه ممثل له اسم كبير على الرغم من اتفاقه معه على أداء دور ثانوي وليس الدور الرئيسي، إلا أنه جاء وقت التصوير وغادر معتذرا بأن هذا الدور أقل من قيمته، إضافة إلى تحديات هامشية كلها شكلت عوامل دفع قوية كي يخرج إلينا "بونبونة" بهذا الشغف الذي تراه أمامك على الشاشة والذي تستشعر فورا أن هناك قوة حب كبرى هي التي خلقت منه كيانا ملموسا من لحم ودم ومشاعر ولغة وصوت بعد أن كان مجرد فكرة في حبر على ورق.

"بونبونة"، الفيلم الفلسطيني بامتياز، وهو الفيلم الثالث لصاحبه الفلسطيني بامتياز راكان مياسي ومن بطولة صالح بكري، رنا علم الدين، نادرة عمران وزياد بكري. الفيلم من إنتاج شركة  Groundglass235 بالاشتراك مع The Postoffice، Mad4Films، بالتعاون مع db Studios، وتتولى توزيع الفيلم بالعالم العربي شركة MAD Solutions. 

مشاركات وجوائز

 هو فيلم قدم صورة مشرفة في الكثير من مهرجانات السينما حول العالم، حيث شارك في عدة مهرجانات دولية، أحدثها كان مهرجان نظرة للفيلم الفلسطيني القصير في إيطاليا، والذي عرض في عدد من المدن الإيطالية والفلسطينية، كما شارك في مهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة، مهرجان دبي السينمائي الدولي، مهرجان نيويورك السينمائي بأميركا، مهرجان كورك السينمائي بأيرلندا، مهرجان استوكهولم السينمائي الدولي بالسويد، ومهرجان تورونتو السينمائي الدولي الذي شهد عرضه العالمي الأول.

وفاز بجائزة أفضل فيلم قصير بمهرجان ألمرية السينمائي الدولي بإسبانيا، مهرجان موسكو السينمائي الدولي، مهرجان قابس للسينما بتونس، وجائزة غولدن إيغ لأفضل فيلم بـمهرجان كوستيندورف الدولي للسينما والموسيقى بصربيا، وجائزتي الجمهور ولجنة التحكيم من مهرجان سينما فلسطين في باريس، وجائزة مهرجان نظرة للفيلم القصير في إيطاليا.

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.