}

معرض "أدغال مواقع الولادة": الفن الأفريقي الاستوائي - الأطلسي

أسعد عرابي 27 يناير 2018
تشكيل معرض "أدغال مواقع الولادة": الفن الأفريقي الاستوائي - الأطلسي
من معرض "أدغال مواقع الولادة"

لم يكن بالإمكان إقامة مثل هذه البانورامية الصادمة كحدث فني مفصلي خلال الموسم البرزخي المتوسط بين العامين 2017 و2018م (من أوائل أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى أواخر يناير/ كانون الثاني الراهن)، إلا بفضل متحف "برونلي - شيراك"، الذي أصبح مع عروضه المحدودة المتفوقة (يقتصر غالبًا على اثنين في العام) من أبرز متاحف باريس، وخاصة أن الرئيس جاك شيراك راهن بمبادرته المعمارية الأيكولوجية هذه على اجتثاث بقايا أدران العنصرية الحضارية والعبودية.

لذا دعاه في البداية "الفنون الأولى" بدلًا من الفنون البدائية التي منع مصطلحها منذ ذلك التاريخ - 2006م - من الاستخدام في الدراسات (خاصة في جامعة السوربون)، وأوقف "متحف الفن الأفريقي والهادي" الذي يقع على مدخل "غابات فانسين" وكان رمزًا للاستعمار الثقافي، خاصة بلوحته النحتية الخارجية.




يتجاوز هذا الانقلاب تسمية المتحف مؤخرًا باسم الرئيس شيراك، إلى تكليف كوميسير المعرض إيف لوفير، وهو المدير السابق للمتحف الاستعماري وكوميسير (مفوض) حاليًا أيضًا معرض "بيكاسو البدائي" في متحف بيكاسو.

أما المعرض البانورامي الراهن فيمثّل معجمًا حضاريًا يمسح خارطة شاسعة، رحبة، ولذا سمي بـ"الاستوائي – الأطلسي"، مشتملًا على عدد من الجمهوريات الأفريقية الراهنة، ابتداءً من جنوب الكاميرون وانتهاء بالكونغو عبورًا من غينيا المدارية وغابوئيا، هو ما يعرف علميًا بثقافة "البانتو".

أكبر معارض الفن

الثقافي النخبوي الأفريقي

يعانق المعرض ثلاثمئة وخمسا وعشرين منحوتة خشبية ومواد مختلطة، تعتبر كميًا من أكبر معارض الفن الثقافي النخبوي الأفريقي، وتتجاوز نوعيًا هذا الحجم، لأن اختياراتها من أشهر النماذج عالميًا، ابتداء من مجموعة شيراك الخاصة نفسها الأشد خصوبة ثقافية، واستكمالها من المتاحف الفرنسية والأميركية والألمانية والإيطالية، ناهيك عن أشهر المجموعات الخاصة بالفن الأفريقي.

أُنجزت فنون المعرض ما بين القرنين الرابع عشر والعشرين، ورُتبت وفق التسلسل الزمني لأنها حسب دعوة المعرض تمثل سهم ارتحال إنسان هذه الفترات من شمال أفريقيا إلى جنوبها ثم شرقها. وهو ما يفسر المجازية الشعرية للعنوان الرئيسي "أدغال مواقع الولادة" المستعار من قصيدة "النافذة" للشاعر الفرنسي غويوم أبوللينير، إشارة إلى نحت التماثيل غالبًا من جذوع الأشجار المتباعدة بين هذه الأقاليم، والتي توثق أحضان الولادات المختلفة لهؤلاء المبدعين الكهنة (الشامان) الرحالة، وصنع بعضها من رفات المتوفين.


من المثير للدهشة أنه رغم تنوع الأقاليم والقبائل والمعتقدات واللغات والأجناس والذاكرات الثقافية، فإن وحدة فنية تقليدية غامضة تسيطر على مبدعات هذه القرون وضمن سياق نسبي لا يعرف التطور الكمي وإنما الكيفي. فتطور مفاهيم الاختزال والتبسيط مثلًا أو الأسلبة التي تضمن استمرارية وتراكمية وتواصلية التقاليد الصناعية أو التقنية، لا يندرج ضمن نسق أحادي، ويشبه الحرب بين هذه القبائل: ما بين الكر والفر. تتأرجح التجربة بين سلام مستديم ودعة وسكينة تأملية أو طقوسية تطيّرية هوجاء صاخبة مثل الإيقاع والرقص وقرع الطبول وحشرجة الأصوات الماجنة. ثم ودون سابق إنذار عصف الحرب والاجتياح والاستباحة للأقلية، والقتل الجماعي للقرى والحرائق للأخضر واليابس، تمامًا مثل الشهيق والزفير، مثل تواتر الليل والنهار، وكذلك حساسية هذه الطواطم الخشبية القزمة المنحوتة من جذوع متباعدة تحمل وثائق محكومة بشدة الأسفار والارتحال بين الموت والحياة. لا يجب الاستهانة بما تشيعه هذه الأقزام من عبادة الأجداد والأرواح، فهي العقيدة الكونفوشيوسية الموغلة في الزمان والبعيدة الغور في تاريخ الصين. ثم هناك الأقنعة المتنوعة التأثير والهذيان والحلم والجنون الطقوسي الذي مس بيكاسو وسواه. هو الجنون الذي استعبد مختبرات الحداثة والمعاصرة بعد قرون من العبودية الغربية لحضارة أفريقيا.

يبدو عمق تأثير هذه الكينونات الإبداعية في التيار التكعيبي أولًا، ثم السوريالية، فمن بيكاسو إلى برانكوسي نكتشف في المعرض مصادر إلهام نحتية كانت مضمرة التصريح. كذلك الهامات النحيلة لجياكوميتي ثم أسلبة بورتريهات موديلياني، خاصة الأنثوية المتطاولة، وصولًا إلى بعض جنوحات التعبيرية المحدثة في ألمانيا ما بعد منحوتات جورج بازلتز.

إنه معرض يدوم في الذاكرة والمعرفة التشكيلية، وزيارته فرصة لا تعوض، وكذلك اقتناء كتابه. ويبدو أن الجانب الذي لا يستنفد من الفن هو البعد الروحي الذي لا يعرف حدودًا بين النحت والرسم أو بين الموسيقى والرقص، وغيبيات غريزة الدفاع عن البقاء، أو التوحد، مع عناصر الغابة العذراء ومع صخور وأمواج الشواطئ الاستوائية الموحشة. ويعلن المعرض نهاية الفصل العنصري في الحضارات وسلمها الطبقي المفتعل.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.