}

تحطيم الصورة

سامر إسماعيل 10 أبريل 2017
فوتوغراف تحطيم الصورة
إزالة تمثال لفلاديمير لينين، 1991 (Getty)
لم يكن الإبداع سوى شكل من أشكال النشاط البشري الراقي وإيجاز إبداعي يتعدى وجوده الفيزيائي، وهو أيضاً الضوء الجمالي في حياة الناس والمتعة السامية لوجوده. ومن أولى درجات التطور البشري كان الرسم على جدران الكهوف ليس كوسيلة تعبير فقط، وإنما هو انتقال إلى عتبة الوعي بالمحيط الخارجي. ومنذ ذلك الحين أبدعت الحضارات في العالم فنوناً عبرت عن عصرها ورؤيتها للكون والحياة. وتظل حضارة الفراعنة ومنحوتات ما بين النهرين شاهدة على عصرها ومن خلالها عرفنا تاريخ تلك الأماكن وطرق تفكير ساكنيها وثقافتهم.

 

أمام هذه الإبداعات المذهلة في التاريخ شهدنا تدميراً لها ليس في الفن وحسب، وإنما حرقت كتب ودمرت مدن، ومعارف كثيرة أقصيت، ويطول ذلك إلى قتل مبدعين كاشفوا بالحقيقة. ويبقى السؤال هنا: ماذا يضير أي ثقافة جديدة أن تحافظ على ما سبقها؟ هل المشكلة في الإيديولوجية أم في الثقافة؟ أم أن المشكلة في السابق الذي يمكنه دحض اللاحق. لذلك نحطم الصورة السابقة. ويبدو الأمر جلياً في فن النحت. ربما لأنه مجسم ثلاثي الأبعاد، مجسم يحاكي الواقع، دامغاً في وجوده.

 

الصورة والكلمة

الصورة في البدء ومنها الكلمة والمعرفة التي أضحى الإنسان أسيرًا لها، وحملت في أدلجتها سكيناً خلف ظهرها. إن المعرفة منتج إبداعي إنساني تمت أدلجته عبر الدين الذي أقصى الإنسان عن الجمال، على عكس الديانات القديمة (غير التوحيدية) حيث كان الفن جزءاً من الدين، وإنما ثمة تناغم وتوليف بينهما، مما جعل الآلهة تتجسد في الفن. إذاً ليست ثمة مشكلة ما بين المعرفة والصورة، بل وقد قام فن النحت بتمجيد المقدس على عكس الثقافة الدينية التي جاءت مع التوحيد التي عملت على تحريم تصوير المقدس عبر منظومة إيديولوجية صارمة أحكمت القبض على الصورة وأخرجتها إلى مسارات مختلفة بعيدة عن التشخيص.

 

تحطيم الصورة/الأيقونة

إذا كان ثمة تلاقح للثقافات وتراكم تطوري لتاريخ الصورة في بلاد الشام حتى مع دخول الإسلام إلى هذه المنطقة. ومع ازدهار فن المنمنمات لا يعود ثمة قول في أن تطور الفن متصل ببعضه البعض من حيث استمرار الخصائص الفنية، وكأن تاريخ الفن عبارة عن أجزاء. لو رأينا هذه الأجزاء مركبة تكتمل اللوحة التراكمية لتاريخ الفن. ونعتقد جميعًا وأكدت بعض الدراسات بأن فن المنمنمات الإسلامية مستمد من جذره أي من فنون الشرق الأدنى قبل وبعد المسيحية علماً أن هذا الفن – أي المنمنمات – كان قد انتشر في العديد من بلدان العالم الإسلامي آنذاك رغم التحريم الواضح للتصوير، الأمر الذي يؤكد على تلاقح الثقافات وذلك ما يمنح للأمر أهمية.

 

إن ازدهار فن المنمنمات لا يعود إلى بنية النص الإسلامي بقدر ما يعود إلى طبيعة المنطقة حيث التربة الإبداعية لا بد أن تظهر كما النهر يشق طريقه. وهنا يبدو الفرق بين الإيديولوجيا والثقافة الأصلية، حيث الثقافة جزء من التربة، بينما الإيديولوجيا تحمل بين جوانحها حالة إقصائية وهذا ما عكسه الإسلام عندما حطم الرسول الأصنام، وهو كان حاسماً في مسألة قطع الحالة التراكمية للصورة، إن كان هناك تاريخ لها في الجزيرة العربية، وذلك بغية تعتيم ثقافة ما قبله. ألم يدفع محمد نبوءته بتحريم التصوير، فيما لو تساءلنا؟ ولا يمكن للتاريخ الافتراضي أن يحدث. ولو لم يأتِ الإسلام إلى بلاد الشام ألم يكن تاريخ الصورة مختلفا؟ ولم يمر الدين الإسلامي وحده في هذه الواقعة، بل تعتبر عملية (تحطيم الأيقونات) واحدة من أشرس العمليات التي جرت في المسيحية خلال عصور الظلام وخاصة في القرن السادس عشر في أوروبا عندما تبنت مجموعة تحطيم التماثيل وكل ما هو محفور لأنه باعتبارهم يخالف الوصايا العشر.

 

وقد أضحى تحطيم الصورة تعبيراً عن تحول أو إقحام إيديولوجيا وطريقة ونمط تفكير. وهذا ما يحدث دوماً حتى في التاريخ الحديث. وليس بعيداً عن ذلك تحطيم تماثيل بوذا من قبل الأصوليين في أفغانستان. وهناك ما هو أبعد من ذلك في سياق تشكل أي إيديولوجيا فهي تعمل على توظيف الصورة لخدمة أغراضها، وهذا ما رأيناه في الحركات السياسية بنفَسها الإيديولوجي. ولم يكن صدام حسين بعيداً عن ذلك ومن معه في نفس السياق. وقبل ذلك مع اختلاف التجربة كانت تجربة الاتحاد السوفييتي ذات سمة إقصائية وفي انهياره تعبيراً عن نزوع إقصائي رغم ما تحمله الشيوعية من مشروع إنساني. وقد كان الإقصاء يعكس التربية الإيديولوجية للشعب التي بدورها ألغت حق الاختلاف. وما إن سقطت هذه الدولة حتى جاءت هذه التربية للتعامل بنفس المنطق لكن هذه المرة معكوساً. إن تحطيم تماثيل لينين كصور تعكس مرحلة معينة هو نتاج التربية الاشتراكية، ولولا ذلك لكانت تماثيل لينين وغيره من رموز الثورة باقية حتى الآن لأن لينين جزء من الذاكرة الروسية. إن مشهد لتمثال لينين طريح الأرض يلهو عليه الأطفال هو تعبير عن إقصائه من الذاكرة، وهو دلالة اللحظة الفاصلة بين مرحلة وأخرى.

 

وهذه التجربة تتكرر بصيغة أخرى عند سقوط بغداد وبدء المرحلة الأميركية في عولمة إيديولوجيتها، أو أمركة المرحلة المقبلة. فما إن بدأت معركة القوة الأميركية المبنية على التكنولوجيا المتطورة حتى انتصرت على نظام كرتوني يبدو في شكله الخارجي قوياً. كان الأميركيون من الذكاء في أنهم أول ما فعلوه عند دخولهم المغولي على بغداد هو تحطيم تماثيل صدام حسين لما في ذلك من الأثر النفسي على مقاتليه، وللدقة أكثر عندما حطموا تمثال صدم في بغداد لم تكن بغداد قد سقطت، بل على إثر ذلك سقطت بغداد. لقد ارتبطت صورة التمثال بنظام ودولة ذات طابع استبدادي، ومن هنا تكمن أهمية الصورة وخطورتها. فقد وظفت في دولة مثل العراق بشكل لا مثيل له حيث صوره وتماثيله في كل مكان وبالتالي حيث الخوف في كل مكان. وكذلك حول التونسيون قطيعتهم مع حكم زين العابدين بن علي إلى فعل غاضب بتدمير تماثيله، وخلع المصريون جداريات مبارك، ودمر الليبيون تمثال القذافي عند اقتحامهم مجمع باب العزيزية.

 

وكانت أحد التعبيرات الأساسية في سورية أيضاً أن أول ما تم فعله في بداية الاحتجاجات هو إسقاط التماثيل كدلالة ورمز على إسقاط الخوف. ولم يكن مقدراً تحطيم صور التعبير الإنساني بخلق إيديولوجية جديدة لم تحطم الحدث الحقيقي وحسب وإنما حطمت الآثار السورية القديمة. ولذلك فنحن هنا لسنا أمام مشكلة الإيديولوجيا وحسب وإنما في صناعتها.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.