}

أنيميشين "فايشا العمياء": عيش الحاضر كغياب

عبد اللطيف عدنان 26 فبراير 2017
سينما أنيميشين "فايشا العمياء": عيش الحاضر كغياب
من إنميشين "فايشا العمياء"

 

عرف فيلم "فايشا العمياء" (Blind Vaysha أو Vaysha L’Aveugle، كندا، 2016، 8 دقائق)، للمخرج البلغاري/ الكندي ثيودور أوشيف، Theodore Ushev، من التتويج والاحتفاء في المهرجانات الدولية، ما لم يتحقق لفيلم غيره من الصنف نفسه.  فهذا الكرتون يحمل كل العناصر التي تجعله فعلا إضافة نوعية جديدة يستحق بها توصيف الكلاسيك السينمائي.

ينتمي هذا الفيلم إلى صنف الأنيميشن القصير، والذي يصطلح عليه عامة بالكرتون Cartoon، مع التحفظ على الاصطلاح الأول لهذه النوعية من الأفلام في شكلها المطول، حسب تعريف معجم الدراسات السينمائية الذي أشرفت عليه مؤسسة روتليدج.

فيلم ثيودور أوشيف يقدم نموذجا متفردا في سينما الأنيميشن. فهو يستعمل بمرونة كل المقومات اللازمة في تحريك الصورة المرسومة، بداية في التوظيف الديناميكي للفضاء، ونهاية في خلق هذا التناغم على مستوى التركيب والتَّلوين داخل التصاميم، مفعّلا كل أبعاد الصورة المتحركة سواء في الخلفية أو في الوسط أو في الواجهة.

كما أي أنيميشن مكتمل، في "فايشا العمياء" يتطور الحدث السردي حول مبدأ الصراع الذي ينعكس بصريا على ثلاثة مستويات، في أحجام الرسوم المتحركة، وفي التقابل بين ما هو عمودي وأفقي داخل الإطار، ثم في هذا التناغم بين الألوان، التي تتقابل في مسحتها وتدرِّجها الكروماتيكي حسب الشحنة الدلالية والرمزية المعهودة لها، لا سيَّما في هذا الفيلم الذي يستمد شحنته الدرامية من كون بطلته تملك عينا خضراء وأخرى بنيّة.

خطة ثيودور أوشيف الإنتاجية تنتمي لمؤسسة مجلس الفيلم الوطني في كندا (NFB) العريقة، والتي كانت وراء العديد من المكاسب النوعية في الفيلم التسجيلي والأنيميشن، ودعَّمت قامات ضخمة في هذه السينما، مثل توريل كوف Torill Kove وأرتور ليبزيت Arthur Lipsett. و"كرتونات" ثيودور أوشيف لا تخفي البصمة الأسلوبية لهذا الأخير، والذي ظل موضع حفاوة وإجلال بالنسبة للمخرج البلغاري لكي يكرِّس له عملا بكامله هو يوميات ليبزيت Lipsett Les journeaux de. أنيميشن أوشيف يمتح في الرؤية والإجراء من مدارس أوروبا الشرقية، خصوصا المدرستين التشيكية والبولندية اللتين تنحازان إلى توظيف الفنون التشكيلية الحديثة، وإلى اختيارات أسلوبية لقماشات رسومية تميل للقتامة، مع الرهان على طروحات مضامينية تتميز بالسؤال الفلسفي الوجودي، وتطغى فيها شحنة ثقيلة من التشاؤم.

في رسم العمى من وجهة نظر فايشا

فايشا ليست كباقي الفتيات. فهي ولدت بعين خضراء وأخرى بنيّة. هذا التناقض اللوني الذي يميز فايشا في نظرتها سيزيدها جمالا وفتنة كشابة يافعة. لكن مصدر هذه الجاذبية كما يجدها أهالي البلدة في فايشا، هو مصدر شقاء بالنسبة لها، إذ بعينها اليسرى لا ترى إلا الماضي، وبعينها اليمنى لا ترى إلا المستقبل. فايشا تعاني عمى من نوع خاص. فهذه النظرة المنشطرة زمنيا تحول بينها وبين رؤية الأشياء كما هي في الحاضر.

"الحاضر غير موجود في نظرة فايشا"، تؤكد الراوية في الفيلم. وبعد كل المحاولات يفشل الأهالي في معالجة فايشا من هذه اللعنة، لتصبح معروفة لدى الجميع بفايشا العمياء. هكذا تستسلم الشابة الجميلة لقدرها، وتعيش في عزلة زمنية هائمة في طرقات البلدة كأي فاقد لبصره فعليا. فالبلدة التي تعيش فيها فايشا غير موجودة. من زاوية نظر فايشا اليسرى نرى قرية صغيرة ببعض الدور، ومن زاوية عينها اليمنى نرى مدينة عامرة.

عمى فايشا يكمن كذلك في عدم عيش زمنيتها العمرية والتواجد المستمر في آن معا بين العوالم المريحة والمسلية في فضاء الماضي، والعوالم القادمة والقاتمة في المستقبل. عوالم تحمل من الهلع والخوف ما يكفي لكي تعيشها الشابة الجميلة ككابوس يقظة. تبقى فايشا سجينة بين فترتين زمنيتين متنافرتين من الصعب الجمع بينهما دون عنصر الحاضر الذي يجعل الماضي أكثر تقبلا عبر غربال النسيان، ويجعل المستقبل أقل قيامية عبر خدعة الديمومة.

مأساة فايشا هي هذا الحرمان من رؤية الواقع كما هو، أي كوقائع تتفعَّل في الحاضر داخل فضاء ثابت المعالم والأشكال. فهي تعيش حاضرها كسؤال وغياب. حتى في المنام، لا ترى فايشا من ذاتها إلا جثة هامدة في سكون الموت أو طفلة صغيرة تلعب في بيت الطفولة. عذاب فايشا يكمن كذلك في صعوبة اختيار العيش في فترة زمنية محددة، إما الماضي أو المستقبل، تستمد من ديمومتها الحاضر الذي تفتقده. هذا الاختيار التراجيدي يعني فقء إحدى عينيها لكي تتخلص من فترة زمنية وتحافظ على أخرى.

لكن أن تلجأ لهذا الحل الأوديبي يعني أن تراهن على الماضي، وبالتالي العيش في مجال الذاكرة الذي رغم ما يمنح من أريحية واطمئنان يظل مرعبا، لأن مصدر هذا الاطمئنان والأريحية، الذي هو الأسرة، يخضع هو الآخر لهذا التشوه البصري المنبعث من نظرة فايشا. فالأم والأب يبدوان مجرد طفلين يصغرانها بكثير، وبالتالي تسقط عنهما صفة الأبوة التي تغذي ذاكرة البيت الأول بشحنتها الإيجابية. أما الرهان على العيش في مجال المستقبل فلا يقل رعبا عنه في الذاكرة، بل يزيدها خوفا وهلعا، لأن المستقبل يتجلى لها كمشاهد من الحرب والدمار وطوابير من الفاشيين، تجعل منه تمثلا للقيامة الدانتية.

لحظات الشرود الذهني الذي تستسلم له الشابة الجميلة هي الأخرى، تفتقد هذا العنصر المسكِّن والكيميائي المرتبط بالمتخيل، لأنها أشكال مبهمة جدا في عتبة بداياتها، وخواطر من التأمل المتعالي غامضة حول النهايات.

تنفتح قصة "فايشا العمياء" على أكثر من أفق رمزي. فشخصيتها الرئيسية تدخل في حقل الترميز التجسيدي للإله الروماني يانوس الذي يملك وجهين متقابلين، الأول ينظر أمامه والثاني خلفه. كان الرومان يعتقدون في يانوس كإله البداية والنهاية، وهو ما يخوِّل له القدرة على التحكم في الزمن، كمن يرى ماضي الأشياء ومستقبلها في آن معا. بناء على هذه النظرة المزدوجة أسندت ليانوس وظائف أسطورية أخرى، كالتحكم في الانتقال من حالة إلى أخرى؛ من الشيء في شكل بدايته إليه في شكل نهايته. فايشا هي الأخرى كما الإله الروماني تلعب دور العتبة بين ما فات وما هو آت. هي الأخرى مثل هذا الإله لا تنتمي لأي زمن بالتحديد، فهي خارج الزمن. ومن هذا الموقع تكسب قدرتها اللاهوتية الأسطورية.

يمكن أن نجزم بأن "فايشا العمياء" هو العمل السينمائي الوحيد الذي قدَّم حلا في شخصنة يانوس وتحقيقه ككيان سينمائي من داخل خاصية قدرته في الرؤية والرؤيا. فمضمون نظرة فايشا، أي المواضيع التي تسكن الإطارين في الشاشة المنشطرة، تلتقي في الكينونة وتختلف في الزمنية. كل شطر من الشاشة عبارة عن نتيجة للضوء المسلَّط من تحديق يتفعَّل في الماضي والمستقبل في آن معا. نظرة فايشا، الموقعة من زاوية نظر كاميرا ذاتية، تعرض موضوعاتها كتجسيد لهذا التحول المرتبط بالقدرة اليانوسية. رؤية فايشا إذن تسطيح لهذا التحديب المزدوج الذي يميز نظرة يانوس، أو تحريف أيقونوغرافي لنظرة يانوس بمواضيعها حين تخضع لقاعدة 180 درجة The 180 degree rule المشترطة في اللقطة السينمائية، لكي تتم  المحافظة على التوازن في العلاقة بين الموضوع عن يمين الشاشة والموضوع عن يسارها.

كرتون تأملي 

ثيمة الزمنية التي يتمحور حولها فيلم الأنيميشن القصير "فايشا العمياء" تتسابق مع الاختيار الشكلي، أو الشكلاني بأدق تعبير، الذي راهن عليه ونجح في استعماله ثيودور أوشيف. فقماشة الفيلم الرسومية والسينماتوغرافية تمنح المشاهد، هي الأخرى، إمكانية الرحلة الزمنية في أبعاد الفنون التشكيلية التي بدأت تدخل ذاكرة الألفية المنصرمة. رسومات المخرج تحيل على انطباعية فان غوخ، وتصاميم دي تشيريكو، لتحمل هذا التكهن المقلق الذي يميز الفنون التشكيلية في أوروبا ما قبل وما بعد الحربين. حين نشاهد دودة القز في مرحلة التحول إلى فراشة تحمل في جناحيها شكل عيني فايشا، نشاهد العالم بعين هذه الفترة التي بدأت تدخل في الدرس التاريخي كذاكرة حضارية تحمل من المخاضات والرجّات الفكرية والإبداعية ما أصبحت تُهدِّد الثورة التكنولوجية بالتسريع في نسيانه.

عوالم التنبؤ المحيطة بشخصية البطلة نستشفها كذلك من ملامحها التي تذكِّر بالأيقونات الروسية، والتي طالما شكلت لوازم رمزية في سينما المخرج الروسي أندري تاركوفسكي، تنصب هي الأخرى في المحور الثيماتي نفسه الذي تدور حوله حكاية الأنيميشن القصير "فايشا العمياء".

أسلوب الأنيميشن في "فايشا العمياء" لا يشذ عن هذه الأسلوبية التي توَّجت ثيودور أوشيف كأحد أقطاب هذا الفن السينماتوغرافي، في كونها تأسلبا بين مدرسة البنائية الروسية Russian Constructivism، والتعبيرية الألمانية، إضافة إلى تقنيات الفن التلصيقي Collage.

"فايشا العمياء" فعلا سفر زمني كذلك في مختلف المحطات التي وقفت عندها الميول الفنية للقرن العشرين. حتى على مستوى الشكل السينمائي، نجد هذا الفيلم القصير يشدنا أكثر نحو أجواء السينما الكلاسيكية، في الوقت الذي انحاز فيه الأنيميشن مع البيكسار الذي طوَّر طريقة texture mapping إلى خلق كينونات سينمائية جديدة تتلبس الشكل الواقعي، الخاص بالإنسان والحيوان، في سينما الحركة الحية والمباشرة، دون أن تتخلى عن مرجعيتها كرسوم رقمية. 


*ناقد سينمائي من المغرب يقيم في أميركا

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.