}

الفنان جمعة نزهان: زمن تهريب الألوان واللوحات

مناهل السهوي 24 فبراير 2017

 

أول ما يتبادر إلى ذهننا ونحن نستحضر صورة مدينةِ دير الزور السورية المنكوبة، ليس جسرها المعلّق الذي طالما كان رمزاً للمدينة الفراتية، إنما تلك الصور المفزعة للجحيم الذي عانته تحت وطأة تنظيم الدولة داعش، بعد حوالي ثلاث سنوات من الاحتلال، يصف سكانها ما حدث كما لو أن فضائيين احتلوا المدينة وفرضوا قوانينهم المرعبة، رغم ذلك وفي أماكن لم تقع عليها عيون القتلة تمكن بعض الفنانين من متابعة حياتهم في مراسمهم السريّة، وهم يدركون أن ما يفعلونه قد يودي برقابهم إلى سكاكين داعش، من دون أن ينسوا حادثة إعدام الشاعر بشير العاني بتهمة الإلحاد، وقد نكون محظوظين بالتعرف على واحدة من تلك التجارب التي نجت من المحرقة، الفنان التشكيلي جمعة نزهان ابن دير الزور يقيم اليوم معرضه في غاليري "ألف نون في دمشق" تحت عنوان لافت" بيوت تسكننا ولا نسكنها".  وها هو يروي لنا تفاصيل رحلة هروبه من دير الزور إلى أن وصل إلى دمشق.

 

تفاصيل الرحلة

"كان ما يحدث في دير الزور أشبه بتقطيع المدينة إلى قطع صغيرة جداً حتى بات كل منزل قطعة معزولة عن الأخرى"، يقول نزهان وهو ينظر إلى اللوحة الأخيرة التي رسمها تحت وطأة تنظيم الدولة داعش، يتابع "فككت لوحاتي عن الخشب ولففتها وهربتها مع سائقي سيارات قادمين إلى دمشق، فقد حان وقت مغادرة المدينة السوداء وحماية عائلتي ونفسي"، كان لا بد له من إخفاء كتبه وبعض اللوحات التي يعتبرها التنظيم فاحشة، يُعقّب: "على كل حال كل هذا الفن كان أمراً مرفوضاً من قبلهم ويشكل خطراً على حياتي فيما لو عرفوا"، ليتابع عمله ليلاً بطمأنينة أكبر "كانوا وحوشاً تختبئ عند حلول الظلام لأقضي الليل في الرسم".

وكما الحصار يمنع وصول الأغذية والأدوية كذلك فُقدت المواد الأولية للرسم، عمل نزهان بما بقي لديه من ألوان، وهذا يعني أن يتحكم اللون بمزاج الفنان وليس العكس، يبتسم وهو يقول " حتى الأسود كان اللون الأكثر سهولة في الحصول عليه بمجرد مزج لونين كالبني والأخضر"، ليتصل في النهاية بأحد أصدقائه الفنانين في حمص طالباً أن يرسل إليه ما تبقى لديه من ألوان وعلب تكاد تفرغ، ليرسل الأخير عدّة تلوين كاملة، وصلت إلى نزهان تهريباً بالانتقال من يد إلى أخرى، ومن حيّ إلى آخر، إنه زمن تهريب الألوان واللوحات تحت الحصار والحرب، إلى أن وصل إلى دمشق حيث قدم له الفنان بديع جحجاح صاحب غاليري "ألف ونون" العون لمتابعة وإقامة معرضه.

 

الأسود لون الألفة والموت

يتدرج الأسود في اللوحات مانحاً انطباعات مختلفة قادرة على سحبك نحو غرفة بإنارة خافتة وسط مدينة معزولة، تدور حولها سيارات التنظيم، تنتظر رؤية أي لون مختلف حتى تنقض عليه، وهنا تظهر فرادة نزهان في تحويل مخاوف الأسود إلى ألفة وانطباعات مُعاشة وفي النهاية لم يكن استخدام الأسود بسبب العوز للألوان وحسب، الأسود في لوحات نزهان، هو مزيج للحزن والعزلة، بعيداً عن الخوف الذي يحضر عند تخيّل تنظيم الدولة، كأن هذا التشكيلي الفراتي ألِفَ هذا اللون فحوّله من مخلوق متوحش إلى كائن يشاركه أحزانه ويرتديه مواسياً ألمه.

هذا الأسود الذي يتحول إلى منازل بشبابيك كثيرة وبضوء خافت، في المدن المنكوبة والمشوهة، حيث لا مكان للسطوع كما لو أن لعنة الظلام حلّت عليها، يعمل نزهان على تحويله في بعض اللوحات لبعد جديد حيث اشتغل من جهة ثانية على أماكن يسيل الأسود من ملامحها لتظهر حقيقتها الأخرى، تحت الأسود هناك أبنية ملونة حقيقة، تلك الأبنية التي نسكنها وتسكننا، الأسود لون يسيل إذا ما هطل المطر.

 

إدراك ألوان أخرى في دمشق

لا يسعنا إلا ملاحظة هذا الفرق الشاسع بين لوحة رسمت تحت قبضة داعش، وأخرى بعد الخروج من المدينة المنكوبة، على الرغم من مهارة الأسود في اللوحات فهو ينتقل إلى شكل أخر مع دخوله دمشق، "بعد وصولي دمشق، شعرت كما لو أني فتحت عينيّ للمرة الأولى" يقول نزهان. مجموعة من الألوان الطازجة يقدم بها حارات وبيوت بمشهدية مستطيلة، متخيلاً نفسه في بداية الحي مراقباً مكاناً مكتملاً بشبابيكه وشجره وأناسه، إنها الاكتمالية التي فُقدت في تقطيع مدينته دير الزور إلى وحدات متناثرة عاطفياً ومكانياً.

ثم ننتقل إلى مجموعة من الألوان الحارة والباردة حيث يقدم أبنية دمشق والحياة تضج بها، "كان دوماً الرسم هو منقذي وطريقتي في الدفاع عن نفسي، وهنا في دمشق أتابع الدفاع عن مكاني بالفن، فكلّ له طريقة يحب ويدافع بها عن وطنه" يتابع: "منازل تسكننا ولا نسكنها هذا ما أردت أن أقوله، كيف خسرنا أماكننا التي قد لا نراها مجدداً لكنها استقرت داخلنا كعلامة دائمة".

الفنان جمعة نزهان يجد اليوم أننا نحمل المنازل معنا في ذاكرة قديمة حيث باتت مستحيلة وبعيدة، منازل يستعصي الوصول إليها، تحولت لطبقات من الألوان، نصل إليها بالكشط والحفر والكتابة، الوصول إلى منازلنا يبدو كما قدمه هو كطوق نجاة، وكمنقذ لأرواحنا وأماكننا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.