}

أحمد المعنوني في لقاء "سينمائيون ونقاد" ملتقطًا روح المغرب

محمد بنعزيز محمد بنعزيز 4 ديسمبر 2017

احتضنت مدينة طنجة التي اكتمل تجديدها تمامًا اللقاء السنوي الثاني عشر "سينمائيون ونقاد" الذي تنظمه الجمعية المغربية لنقاد السينما. وقد ركزت أشغال هذه الدورة التي امتدت بين يومي 24 و25 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 على أفلام أحمد المعنوني 1944. وتم عرض فيلمين شهيرين للمخرج.


ناس الغيوان صوت الشعب

بدأ اللقاء بعرض فيلم "الحال" 1981 عن المجموعة الغنائية المغربية "ناس الغيوان" التي عكست نبض المجتمع وقامت بتحديث إيقاعاته والتعبير عن همومه. صوّر الفيلم في 1980 خلال سهرات المجموعة في المغرب وتونس وباريس. وهو مزيج من التوثيق والتخييل عن آلاف المتفرجين يتفاعلون بحماسة شديدة مع أغاني المجموعة، يعيشون الحال transes أي الوجد بالمعنى الصوفي. الحال رقص وجذب لإخراج الجن من الأجساد كما كان يفعل عضو المجموعة عبد الرحمن باكو القادم من مدينة الصويرة. وهي مدينة معروفة بالحال كفنّ والجذبة كطقس. إذ تجمع جذور الثقافية المغربية العربية الإسلامية اليهودية الإفريفية في شجرة واحدة.
 
في الحال رقص جماعي يجعل بطولة الفيلم جماعية لا فردية. يرقص الشعب على أغنية ذات كلمات غاضبة:

"أهل الحَالْ يَا اهْلْ الحـَــــالْ
امتـــــى يصفـــــا الحـــــال؟
تزُولْ لْغْيُومْ عْلَ العـُـرْبـَـانْ
وتــتــفــاجــــى الأهـــــوال"

لم يصْف حال العرب بعد ولم تنته الأهوال. والجديد أن ذلك الرقص يجري بالاستماع لأغان متمردة تدين الوضع القائم مثل:

"ما هموني غير الرجال إذا ضاعوا
ما هموني غير الصبيان إذا جاعوا
وأيضا:
عايشين عيشة الذبانة في البطانة".

تعكس موسيقى المجموعة تمازج تقاليد التصوف والموسيقى الأفريقية، كما تعكس تفتح المجتمع وانفتاح المجال العام للغة الجسد خلال الحفلات. ويمثل نجاح الفيلم نموذجًا للفنون التي تتحرر من اللغة لتعبر بالصورة والجسد والموسيقى. ومن فرط تأثير مجموعة ناس الغيوان ظهرت مجموعة "بنات الغيوان" النسائية الغنائية.
 
تأسست فرقة ناس الغيوان الموسيقية من طرف فنانين بدؤوا نشاطهم الفني في المسرح. وهم فنانون ذوو ذوق وحساسية وموهبة لم تتكرر. وقد ساعد ذلك المخرج أحمد المعنوني لأنه كان يدير ممثلين مدربين في فيلم وثائقي. كانوا يؤدون أدوارهم الحقيقية في الحياة. فرقة فنانين ملتزمين في مغرب السبعينات في "الحي المحمدي"، حي ذي تاريخ متمرد في قلب الدار البيضاء، حيث كانت فيه الثقافة هاجسًا لدى الشبيبة.

صوّر المخرج الحي العشوائي من خلال صور بؤس تصاحبها موسيقى ثورية، وناوب بين اللقطات العامة لإعطاء صورة شاملة عن المكان، وبين لقطات كبيرة لتقريب المتفرج من التفاصيل. في المونتاج وازى المخرج بين لقطات هيجان الجمهور وهيجان البحر؛ هيجانان لم تتمخض عنهما ثورة. المتوازيان خطان لا يلتقيان أبدًا.




سكورسيزي ينقذ الفيلم من الاندثار

عُرض الفيلم في مهرجانات كثيرة وهو يؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ المغرب. وكاد الفيلم أن يندثر، لكن المخرج الشهير مارتن سكورسيزي رمّمه وعرض في مهرجان كان 2007. شاهد سكورسيزي فيلم "الحال" في 1981 حين كان في لحظة أزمة إبداعية كما صرّح. وبعد ست وعشرين سنة عندما أسّس مؤسسة لترميم الأفلام، بدأ به لأنه ألهمه وصوّر مثيلاً له في SHINE A LIGHT عن فرقة الرولينغ ستون 2008.

كان سكورسيزي يصوّر بعدة كاميرات ثابتة ومتحركة دفعة واحدة، أما المعنوني فقد صور بكاميرا واحدة، ولم تكن الفرقة الغنائية تعيد المشاهد فكيف يكون هناك مونتاج؟ كان المعنوني يجري بروفات للمشاهد قبل تصويرها. وهكذا يتخلص من الوقت الميت في البروفة لا في المونتاج.


فيلم مغروس في روح المغرب

الفيلم الثاني الذي عرض في لقاء النقاد مع المخرج هو "أليام أليام" 1979. وهو عنوان أغنية لناس الغيوان أيضًا. هذا الفيلم يحكي عن بادية مغرب السبعينات. كانت السلطة تقمع أحلام المدنيين بالتحرر، وكانت البوادي تغلي وتفرغ من سكانها بسبب البؤس. يظهر هذا موجعًا من دون خطابة أو ضجيج. في السوق يلتقط المعنوني روح المغرب، في الحلقة، أي مكان التسلية الشعبية حيث يقدم الحكواتي سرده الشفهي. بين حين وآخر يغني أشهر أغنية في تاريخ المغرب وهي "العلوة"، أغنية تسرد طقوس زيارة الأضرحة وما يرافقها من تباهٍ وفرجة وبوح. أغنية تسخر من التفكير "والله ما نخمم"، أي والله لن أفكر في وضعي ومستقبلي وسأترك مصيري للمكتوب، أي للقدر.


تلتقط كاميرا المعنوني اللحم وهو أهم سلعة في السوق، كما في الأغنية "البهيمة مقيدة" التي تصف تقديم القربان لضريح الولي الصالح. في هذا السياق قفزت بقرة على نظيرتها ففهم الثور المطلوب منه. في الفيلم فلاحون يتكلمون عن الخير الفائض، بينما يشي بؤس الأجساد عن حقائق أخرى. في مقهى هو عبارة عن خيمة في سوق أسبوعي، بدويون يتغذون ويظهر من خلال مضغهم أن أسنانهم تساقطت مبكرًا.

الغريب هو الخطاب المرافق لهذا البؤس. يفسّر الفلاحون بؤسهم بالقَدر، يتحدثون وضريح الولي الصالح جاثم على الحقل الأجرد. يرفض الشاب تحمّل شقاء الحقل، يريد الفرار بعد أن كفر بالأرض.

"أليام أليام"، فيلم وثائقي تخييلي بأسلوب عفوي يزيد من صدقية المَشاهد وبالتالي تأثيرها. بالنسبة لي كمتفرج هذا الفيلم كأنه يحكي عن طفولتي كما عشتها في البادية. إذ لدى المعنوني وعي حاد بالأسلوب، لذلك يقدم إبداعًا متكيفًا مع بيئته. بيئة يفهمها ويتفاعل معها رغم صعوبة ظروف الإنتاج. ولديه فهم عميق بالمجتمع الذي يصوّره، فهو يتعاطف مع شخصياته من دون شعور بعار التخلف والقدرية. الفنان الذي يخجل من بلده لن يلتقط روحه.




في مهرجان دمشق الأول

شارك المعنوني بفيلمه "أليام أليام" في مهرجان دمشق الأول 1979 وكتبت جريدة السفير في حينه "أليام أليام يرفع المستوى ومعظم االأفلام قديمة لا تستحق مهرجانًا" بل وتوقعت الجريدة ان يتوّج الفيلم الجديد. إلا أن الأصدقاء نصحوا المعنوني مسبقًا ألا ينتظر جوائز نظرًا إلى العلاقات السيئة بين المغرب وسورية. حينها لم تكن علاقة حافظ الأسد والحسن الثاني جيدة.
وبالفعل تحقق توقّع السفير والأصدقاء وحصلت الأفلام المتوسطة القديمة على الجوائز. الآن نُسيت تلك الأفلام. للإشارة يعبّر السيف الطويل الذي خرج من الكادر في أفيش مهرجان دمشق عن المزاج القتالي للمرحلة القومية.

بالتزامن مع عرض الأفلام في لقاء "سينمائيون ونقاد"، انعقدت ندوتان: في الأولى تناول الناقد مبارك حسني "السينما المغربية وأفق الشهادة، سينما المعنوني نموذجًا"، وبحث الناقد سليمان الحقيوي عن "حدود الأصلية والإبداعية في سينما أحمد المعنوني" وتطرّق الناقد عبد العزيز العمراوي "لأحمد المعنوني المؤرخ".

في الندوة الثانية تناول الناقد نور الدين محقق "بنية الشخصيات وسيميولوجية الأهواء في سينما المعنوني"، وتطرق الناقد بوشتى فرقزايد "للمخيال المغربي في سينما المعنوني". وستنشر الجمعية المغربية لنقاد السينما المداخلات في كتاب كما حصل عن مخرجين مثل الجيلالي فرحاتي، فوزي بنسعيدي، حكيم بلعباس، نبيل عيوش وداود أولاد السيد.


البحث عن الجمهور ليس عارًا

تم خلال الندوتين تحليل أفلام المعنوني، وقد تكرر التنويه بالأفلام الثلاثة الأولى للمخرج وهي: "الحال"، "أليام وأليام" و"القلوب المخترقة" 2007. بينما تعرّض فيلمه الكوميدي الأخير "يد فاضمة" 2016 لنقد شديد لأنه خرج عن أسلوب المخرج المؤلف. في جوابه قال المعنوني إنه قرر التوجه للجمهور، وهو ما صدم النقّاد الذين يعتقدون أن السينما تفلسف المؤلف ويعتبرون البحث عن الجمهور عارًا.

يبدو أن المعنوني قرر التوقف عن منافسة المخرجين المؤلفين، لكي يقلد المخرج الكوميدي عبد الله فركوس الذي صار مرجعية إستيطيقية لأن افلامه مربحة جماهيريًا. للإشارة في مداخلته نصح المعنوني المخرج بأن يكون خبيرًا في موضوعه قبل سرده للغير بالكاميرا.

في نظري فإن المعنوني شخص جاد أكثر مما ينبغي، والكوميديا بعيدة عن مزاجه وهو ليس خبيرًا بها.


كان ذلك جدلاً مغربيًا متكررًا حول اضطرار المخرجين للانتقال من سينما المؤلف إلى سينما الجمهور هروبًا من عار "الأقل مشاهدة". لسنوات طويلة احتقر المخرجون المغاربة الفيلم التجاري وكأن صنعه سهل، لكنهم وهم يشاهدون نجاحات أفلام المخرجين نور الدين الخماري وعبد الله فركوس، قرروا تجريب تقديم كوميديات شعبية تمول جزءًا من ميزانية الفيلم.


صورة النقاد لدى المخرجين

في مداخلة المعنوني عن مساره ونظرته الجمالية، اعترف عرضًا أنه توقع لقاءً كئيبًا مع النقاد. لقاء تملأه لغة خشبية لكنه فوجئ بحيوية القراءات. يبدو أن صورة النقاد غير مقنعة لدى المخرجين.

ما الذي يجعل النقد فخًا في الحقل السينمائي؟

أولاً الصداقات الطويلة بين النقّاد والمخرجين التي تنتج التملق. ثانيًا تراجع تام للحس النقدي في سوق التسلية. في أجواء المرح والتسلية، يُنظر للفكر النقدي بأنه خطير يفسد بهجتنا. ثالثًا حين يكتب ناقد منتقدًا فيلمًا أو مهرجانًا، يخرج له مساند يهلل لما كتبه ويرحب به لأن في السينما اختلاط وانحلال ويطالب بمنعها وهكذا ينتهي الانحلال. في النهاية يفضّل الناقد الصمت لكي لا يصب الماء في طاحونة أعداء الحداثة.


الصورة المثالية للمخرج تصير عائقًا

ودائمًا في إطار تأثير صورة الفنان على عمله، استطرد المعنوني بصدد تعديل صورة المخرج لدى طلبته في معهد سينما بمراكش. فقد سألهم: "بعد الحصول على الشهادة، ما هي المؤهلات المطلوب توفرها فيكم لتصيروا مخرجين جيدين؟". وشرع يسجّل أجوبة الطلبة على السبورة:
"على المخرج الجيد أن يكون نزيهًا مثقفًا فنانًا عارفًا، له حس إنساني وكاريزما وشخصية مغناطيسية ويعرف كيف...".

امتلأت السبورة بالشروط لأن الطلبة رفعوا السقف عاليًا. بعد لحظة صمت، شرعوا يدركون أن هذه صفات مثالية يصعب أن تتحقق فيهم وستجعلهم أشقياء إن لم يدركوها أو سيكذبون ويزعمون امتلاكها وفي الحالتين يستحسن لهم تغيير المهنة.

ولتحرير طلبته من وهم التضخم الذي يعرقل عملهم، اقترح عليهم خمس صفات واقعية وهي أن يكون المخرج أولاً كذابًا وثانيًا لصًا وثالثًا انتهازيًا ورابعًا بائعًا ماهرًا.

كيف؟

من قاع لحظة الإحباط شرع المعنوني يشرح المقصود:

"المخرج الكذاب هو الذي يحكي ويقنع من دون أن يشعر به أحد. يحكي ويصدّقه المتلقي. لذلك ممنوع على المخرج الجيد أن يكون كذابًا ضعيفًا يكشفه المتلقون. أيها المخرج: عندما يصدقونك تصير أفضل كذاب".

ثانيًا "على المخرج الجيد أن يكون لصًا، لأن ما يرويه لم يخترعه بل سرقه من مكان، ويجب أن يسرقه من دون أن يكتشف أحد ذلك. (ملحوظة: لهذا صدى في رد العكبري عن اتهام المتنبي بالسرقة، يقول العكبري "إذا أخذ الشاعر المعنى من غيره فزاد عليه استحق المعنى بالزيادة" التبيان في شرح الديوان الجزء الرابع ص 180). يجب على الراوي اللص أن يبدع لتغيير ملكية المسروق".

ثالثًا "على المخرج أن يكون انتهازيًا ليُشغل يد وعقل فريقه. ليتناول بسرعة في طريقه كل ما قد يساعده في لإنجاز فيلمه".

رابعًا "يجب أن يكون بائعًا جيدًا لمشروعه. فالسينما فن مكلف، وعلى المخرج أن يرافع أمام لجان كثيرة ويجب أن يعرف كيف يبيع لها مشروعه. لا فيلم من دون إقناع زبنائه. أيها المخرج بع السيناريو لتمول فيلمك".

بهذه التوضيحات التي تلت صدمة الطلبة شرح المعنوني دلالات الصفات، واستعاد الطلبة حماستهم بفضل بيداغوجيا استدراج لفهم تعقيدات صناعة الأفلام.

فجأة صعد السؤال: وما الصفة الخامسة؟

جواب المخرج: "حب السينما. حب الإبداع، حب العالم بأكمله، الثقة في فريق الفيلم بل وحبه. الاستعداد بحماسة لوضع اليد في النار لصنع فيلم رائع... ومن دون القدرة على نقل هذه الحماسة لفريق الفيلم، لن يمكن نقله للقطات وبالتالي للمتفرجين. من دون الفضيلة الخامسة لا قيمة للصفات الأربع".


انتهى لقاء "سينمائيون ونقاد" وغادرت طنجة البهية وقد قضيتُ أيامًا مفيدة وممتعة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.