}

عبد الحي مسلم ذاكرة القرية الفلسطينية

سامر إسماعيل 29 يناير 2017
كانت ملعقة الشاي الصغيرة مع نشارة الخشب والغراء كافية أن تقود عبد الحي مسلم إلى تجربة بصرية نادرة عربياً، يعود بها إلى فلسطين وقريته "الدوايمة" في الخليل، حيث ولد فيها عام 1933 وخرج منها عام 1948. وقد ظلت تلك الطفولة تعيش معه. كان لديه ثمة حنين غريب لها وأنت تمشي معه، وكلما شاهد دربا أو شجرة فإنه يتذكر قريته التي تعيش معه، في تقاسيمه وروحه. تلك هي سمة تعنون حياة الفنان اليومية، حيث يتفاعل مع حاضره لأجل ماضيه، لذلك جاءت أعماله مثقله بالهم الفلسطيني، ومستنطقاً فيها الذاكرة الشفوية والبصرية التي عاش فيها طفولته، التي يقول عنها: "تعج بالتفاصيل في قريتي الدوايمة، فالعرس الفلسطيني، وطقوس الختان والزراعة والحصاد والأعراس اختزنت في مخيلتي لتكون خزاناً بصرياً وسمعياً لكل ما عشته وقد حافظت عليه".

 

اللغة التشكيلية   

مثل العديد من الفنانين الفطريين، قادته المصادفة إلى الفن، وأغلبهم جاؤوا من مهن بعيدة عن هذا المجال. وهذا ما ينطبق على الفنان "مسلّم" حيث كان يعمل في سلاح الطيران، وقد غادره في عمر الأربعين من دون دراسة أكاديمية، الأمر الذي أمسكه بالجانب الفطري والطفولي. وإن هذا الاتجاه إن صحت التسمية يمسك أيضاً بالصدق الإنساني ويغوص فيه، حيث تتبدّى القرابة أو الصلة مع الفنون القديمة. من هذا المدخل يمكن القول إن "مسلّم" فنان فطري شعبي هدم البنى الواقعية للأشكال والعناصر ليشتغلها بتلقائية بسيطة لا يبذل المتلقي جهداً للتواصل البصري معها.

 

تتّسم أعمال عبد الحي مسلّم عموماً وخاصة المتعلقة بالموروث الشعبي بخصائص تشكيلية واضحة المعالم حيث يعتمد النحت البارز بواسطة نشارة الخشب ويتم تلوينها فيما بعد. لذلك فعمله هنا مزيج مابين النحت والتصوير من حيث الشكل الفني الذي يقترب فيه كثيراً من الفن التقليدي الشعبي كتعبير عن روح الحياة وقاعها الاجتماعي وهويتها البصرية. ولذلك تأتي الشخوص ساكنة ذات تعبيرات واحدة. عيون جاحظة في الأبدية لا تموت كعيون تماثيل ماري المكحلة. ثمة هدوء وصفاء في تلوينه للعناصر فهو يعمل وكأنه يبني وطنه من جديد. تخرج الشخصيات بألوان صريحة وناصعة ومثقلة بالصمت والسكون وكأنه يثبّت لحظة لحدثٍ ما.

 

إن "مسلّم" كما قيل عنه هو "فنان شعبي يقدم لك لوحاته المجسمة بتلقائية مكشوفة. عبد الحي لا يقتطع الموروث الشعبي ويحوله إلى ديكور استشراقي بل يغوص في نفسه وفي الحياة ليستعيد ملامح شعبية فطرية من الحياة الزراعية في جنوب فلسطين التي عاش طفولته فيها ويعيد نمذجتها واختصارها في رموز شعبية سهلة القراءة".

 


من أهم ما قام به الفنان هو التوثيق البصري للعرس الفلسطيني بدءاً من "خشة الدار" إلى "الحناء" إلى "زفة العروس على الجمل والرقصات والدبكات"، مرفقاً في ذلك النصوص الشفوية المغنّاة والتي كانت متداولة، حيث يكتبها بخطه العفوي أعلى اللوحة ونذكر من هذه النصوص:

زارع الحنّا ولا تهنّا        مازرعته إلا عذاب النا

 

وأيضاً في رقصة الصبايا:

طاح المدلل يرقص شوفو ياناس    أبيض بياض الجبنة وعيونه انعاس

 

ومن الموضوعات التي تناولها "شم النسيم" و"السامر" و"صيام رمضان" و"العودة من كروم العنب والتين". ومن الأعمال اللافتة عمل "دار أم عبد الحي" حيث يرسم منزله في القرية الذي عاش فيه حتى عام 1948، وكانت الصبايا تتجمع فيه كل يوم، لأنه يخلو من الرجال إلا من عبد الحي، الذي يتسلق شجرة الرّمان ويستمع إلى أحاديث النساء اللاتي يرددن:

ياحلو خليني رق البصل والثوم        لا أوكل ولا أشرب ولا يجي ع بالي النوم

 

وفي هذا العمل تبدو الحيوية اللونية والأجواء المختلفة للنساء في أزيائهن الفلسطينية المزخرفة، وهذا جانب كان الفنان مهتما به، حيث أفرد لكل مدينة لوحة عرض فيها زيّ المرأة سواء في زخرفة اللباس أو الحليّ وغطاء الرأس، مثل أعمال "زي بنت جالة" و"زي المجل" و"بئر السبع" مرفقاً بذلك النصوص الشفوية المغنّاة سواء لشخصيات تلك المدن او الكثير من الشفويات التي حولها إلى نصوص بصرية ساحرة. تبقى هذه الأعمال وثيقة بصرية مهمة. وقد قامت دار الأندى في الأردن بجمع هذه اللوحات في كتاب تحت عنوان "التراث الشعبي الفلسطيني في أعمال الفنان عبد الحي مسلم" قدّم له محمد أبو زريق مع شهادات من كتّاب وفنانين عن تجربة الفنان.

الجانب المهم الآخر في تجربته هو الأعمال التي تناولت الثورة الفلسطينية عبر مسيرتها لعقود من الزمن. فقد كان أيضاً منشغلاً بالحركات التحررية العربية والعالمية. ومنذ أوائل الثمانينيات كان يعمل ويعرض على الرّصيف. وفي يوم شديد القصف، نزل إلى الشّارع برفقة صحفي ياباني فوجد لعبة في الشارع ممتلئة بالشظايا فعرضها كعمل فني، وكان أول معرض له في منطقة الفاكهاني في لبنان 1982 وبعدها توالت المعارض الجماعية والفردية، في بيروت ودمشق ودول العالم، بأكثر من ثلاثين معرضاً. وكان أكثر ما تناول في تلك المرحلة موضوعات المقاومة والثورة، حيث أخذت أعماله صدىً عالمياً فأُنْجِز عنه العديد من الأفلام أهمها "منشارة الذّهب" للفلسطيني محمد مواسي وفيلم آخر فرنسي.



تمحورت أعماله عموماً حول الثورة والتراث، والمرأة التي أخذت حيزاً مدهشاً في عوالم سحرية غريبة تذكرك بهنري روسو تارةً وأخرى بالنحت السوريّ القديم حيث جاءت المرأة مكتنزة في دلالة للخصوبة. إن الحديث عن عبد الحي مسلّم يحيلك بالضرورة إلى الفنان الرّاحل مصطفى الحلاج، حيث جمعت الاثنين صداقة ولقاء يومي في صالة ناجي العلي بدمشق. وأذكر دوماً أنني عندما أنزل الدّرج المؤدي إلى الصالة، الذي تعلوه فسحة سماوية تغطيها دالية وتتوزع فيها بعض الورود والنباتات المختلفة، كنت أرى الاثنين يهتمان بالحديقة الصغيرة وبتشكيلها، ودوماً في صباحات الصّيف يجلسان لاحتساء القهوة قبل أن تصل يد الشمس إليها. وأصبح هذا المكان ملتقى للكثيرين فيما بعد غير أن المكان بات حلماً وذاكرة بعد رحيل عبد الحي مسلم إلى الأردن الذي طالما حلم بالعودة إليه وبرحيل الحلاج من شباك الحرائق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.