}

التهامي الناضر المصور الذي يحوّل النور قضية وجودية

فريد الزاهي 11 أكتوبر 2016
فوتوغراف التهامي الناضر المصور الذي يحوّل النور قضية وجودية
التهامي الناضر، 11 سبتمبر نيويورك الطابق الأرضي
إذا كان بعض الفنانين التشكيليين يرسمون مثل المصور الفوتوغرافي، فإن آخرين يصوّرون كما لو كانوا يمارسون التشكيل أو الرسم. بيد أن الأثر لا يكون متماثلًا تمامًا في الحالين معًا. فالواقعية الفوتوغرافية، قد خضعت للخلخلة والمجاوزة من العديد من التيارات والتوجهات، منها التجريدية والتعبيرية. وعودتها في الفن المعاصر تدخل في باب التركيب البصري، لا للغاية التشكيلية ذاتها.

هو فنان مصور غير معروف في العالم العربي، وإن كانت شهرته طبقت الآفاق في العالم الغربي. خلق أسلوبًا خاصًا به يجعل الواحد منا يعيش الدهشة تلْو الأخرى. حين يقف المرء أمام لوحات التهامي الناضر، خاصة حين يقوم بسحب نسخ من الحجم الهائل، يجد نفسه أمام عدسة تلتقط تفاصيل الجسد والوجه والكائنات وكأنها تعيد خلقها من غير أن تمارس عليها أي تشويه. تدخُّل الفنان يتم في مسرحة اللقطة، بالتكبير أو التصغير، بالتقريب أو الإبعاد، باحثًا فيها عن النور وانبثاقاته الفجائية هنا أو هناك حول الوجه أو الجسد أو الفضاء.


حين يلتقط الناضر الجسد، أو اليد أو الوجه، يحوله إلى لغْز يكاد ينفلت من واقعيته. أو هو يغدو في تلك الواقعية المحرجة أشبه بالرمز، ليضفي عليها واقعية جديدة هي واقعية المرئي المحتمل. "النور هو الواقع الأكثر واقعية، إنه الشيء الوحيد الذي يسكنني بهوس"، هكذا يحوِّل الناضر النور إلى قضية وجودية تتجاوز التقنية والآلة واللقطة وزاوية النظر. لهذا تراه لا يعتبر نفسه مصورًا فوتوغرافيًا "لأن الآلة المصورة كما التقنية ليست سوى وسيط". إن نفيًا من قبيل هذا، يلزمنا فهمه باعتباره استبطانًا للعين الفوتوغرافية، وتملّكًا شبه صوفي للعدسة اللاقطة. كأن الناضر يهمس لنا بأنه يرى العالم بعين بصيرته وببصيرة بصره.

هذا التوحّد هو ما يمكّنه من استجماع قواه الداخلية، هو الآتي إلى الفوتوغرافيا من رغبة ذاتية، محمولًا على هوى الاستكشاف. فهذا الشاب الذي ولد في الدار البيضاء (1953) وحمله أبوه بعد سنوات قليلة إلى فرنسا، سوف يكتشف هذا الفن ويمارسه في صمت. لم يدرسه في مدرسة أو أكاديمية، ولم يتعرَّف إلى خفاياه التقنية. ظل يحمله في جسده كما لو كان ذلك الجسد أشبه بالغرفة المظلمة (الكاميرا أوبسكورا). كل شيء يتم في عينه. كانت أول لقطة خارجية أخذها في لندن لمتسوّل يمسك بقنينة خمر ويلاحق ظله. بيد أن الأسلوب الذي ابتكره لنفسه سوف يأتيه بمصادفة غريبة أشبه بالرؤيا أو الكشف. ففي الوقت الذي كان لا يزال فيه يتعلم الطبع في غرفة خصصها لذلك، وبطريقة عصامية تعلن عن شغفه الساذج، فإذا بشخص يفتح باب الغرفة، وإذ بالنور يدخل من الباب، وإذ بالنسخ المسحوبة تسودّ. فكانت النتيجة الباهرة التي حصل عليها مصادفة هي المنطلق الذي سيبني عليه اشتغاله. ألم يستوح الفنان هنا أيضًا أمرًا طَبع ذاكرته الطفولية؟ إذ إن أباه الذي جاء للاشتغال في ضواحي باريس ما لبث أن فقد البصر، ولعل لهذا الأمر أثر على منظوره، بحيث إنه يعبّر عن استبطان بصيرة أبيه، واستعادة رغبة اقتحام السواد.


ثم إنه حين عاد إلى البلاد لدفن أمه، نسّاجة الزرابي، التي ورث عنها دقة الخطوط، سيجد نفسه عاجزًا عن التقاط الوجوه الدامعة التي انطبع عليها الحزن والحداد. التقط فقط يديْ عمته. كانت تلك اليد تحمل تخاطيط الزمن، وتعلن عن عنف الموت وحرقة الغياب. لن يترك التهامي الناضر مكانًا في خارطة العالم إلا زاره باحثًا عن عتمات الوجود المفضلة، ملتقطًا هنا وهناك، عناصر قد تكون وجهًا أو حالة أو جسدًا أو كيانًا صغيرًا ليشكله كما يشكل الفنان التشكيلي لوحته، بالحرية نفسها وبالمغامرة ذاتها. نخال أحيانًا أن الفنان يتعامل مع اللقطة والسحب كما يتعامل التشكيلي مع القماشة، يغيّرها وينحت سطحها. لهذا نعتبر أن الناضر فنان ينحت النور في عزّ السواد.

الأبيض والأسود هنا ليسا اختيارًا. فالناضر حين أقام في نيويورك لمدة معينة، سعى إلى الاطلاع على تاريخ الفوتوغرافيا، وسعد باكتشاف التجارب الكبرى لهذا الفن، خاصة بالأبيض والأسود. غير أنه لم يعثر على ذاته ولا على عينه في تلك الصور. يبتكر الناضر بياضه وسواده، يصنع النور كما يصنع الظلمة. وهذا الإحساس ليس اصطناعًا بقدر ما هو انبثاق. من ثم فـ"الكونتراست" (Contrast) أو المباينة، هي ما يبني لعبة الفنان التي تبدو وكأنها خارجة من بين جوارحه، أو كأنها تنبجس من مقلتيه.


التهامي الناضر، أياد من نور 


لكن ما الذي يمنح لأعمال الناضر هذه الخاصية وتلك الجاذبية التي يدخل فيها نظرنا في حالة كشف أو وجْد، وكأنه يرى العالم لأول مرة؟ بما أن لكل فنان تقنياته السرية، فالناضر أيضًا له أسرار "مهنته". إنه لا يمنحنا المرئي كما هو بشكل مضاعف. أولًا من خلال تأطيره ثم من خلال الاشتغال التقني على الموضوع. كي يمنحنا كائنات ووجوهًا غارقة في الظلمة وكأنها تنبثق من العدم في حركة ارتدادية.  بيد أن العمل وهو يتلقى تلك "الرتوش" التي لا تظهر في "النسخ" الصغيرة الحجم، تصبح بادية للعيان في "النسخ" الهائلة التي تتجاوز المتر بكثير.  غير أن اشتغالًا ثانيًا يصبح محتومًا. وهو الأمر الذي يجعل من كل "نسخة" عملًا قائمًا بذاته. ليس ثمة أصل ونسخ. هناك فقط أعمال لا يمكن النظر إليها إلا في تعاليها "الميتافيزيقي". هذه النظرة الميتافيزيقية هي التي تحكم أعمال الفنان، المهووس بالموت والعدم والكينونة، الساعي إلى مساءلة تفاصيل الواقع في انفتاحها على ثراء الوجود.

حين اطلعتُ على أعماله الكبيرة في بيته بالمدينة القديمة في الدار البيضاء، البيت الذي قضى فيه طفولته مع أمه وأبيه، وجعل منه مغارة لوحْيه الشخصي، أدركت أن هذا الفنان قد حوّل الفوتوغرافيا إلى كيان مستقل وسامِق، يضاهي به عمل التشكيلي، ويجاوزه أيضًا. فالتهامي الناضر ينسج - مثل أمه - هندسة الأعماق الساحرة للحياة، يتتبّع فوهات براكينها، ويمنحها لنا مثل حكايات أسطورية، في كل صورة - لوحة، وفي كل لقطة تمسك بالمعاني الهاربة من العالم، تلك التي تستقر في تجاعيد وجه أو في ضباب ظليم يقود إلى سؤال الهوية والمصير.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.