}

وفاة المخرج باولو تافياني: أحد فرسان مواجهة المافيا الإيطالية

سمير رمان سمير رمان 10 مارس 2024
أجندة وفاة المخرج باولو تافياني: أحد فرسان مواجهة المافيا الإيطالية
بذل تافياني جهودًا مضنية لفضح المافيا الإيطالية (Getty)

عن عمرٍ ناهز 93 عامًا، توفي المخرج الإيطالي الشهير باولو تافياني، الذي عاش ست سنوات بعد وفاة شقيقه المخرج فيتوريو تافياني (توفي عام 2018 عن 88 عامًا)، الذي عمل معه في إخراج كثير من الأفلام التي شكّلت مجد السينما الإيطالية.
على الرغم من فارق السنّ بين الأخوين، كان الجميع يظنّهما توأمين. درسا معًا في جامعة بيزا، وأنشآ هناك ناديًا للسينما، وأخرجا أولى مسرحياتهما، وكتبا مقالاتٍ في النقد السينمائي، أي أنّهما ترعرعا سويًّا في الساحة الأدبية. نشرت مجلة "الصدى"، التي كانت تصدر في ميلانو، مقالًا تحدثت فيه عن الأخوين بعد أن أصبحا مشهورين: "أبناء محامٍ من بلدة سانت مينياتو، يبدوان كفتية من الريف وصلا للتوّ إلى العاصمة روما مع أنّهم يعيشان فيها منذ ثلاثين عامًا في شقةٍ متواضعة. حتى أنّ الآلة الكاتبة التي يستخدمانها كانت قديمة الطراز من إنتاج شركة "أوليفيتي" الشهيرة اشتراها الوالد بسعرٍ زهيد بداية الحرب العالمية الثانية. كانت أصابعها المزيّتة بعناية تطبع بدون توقف سيناريوهات الأفلام، التي ستغدو مثالًا للمهارة، تلهم المخرجين في أرجاء العالم كلّه".
جاء أول فيلمٍ سينمائي للأخوين تافياني "سانت مينياتو" عام 1954 بتأثيرٍ من فيلم الدراما الحربية "بايزا/ Paisa" للمخرج روبرتو روسوليني، ليشكّل صياغة وثائقية لمراهقة الأخوين تافياني في مسقط رأسهما، بلدة "سانت ـ مينياتو".ِ
لفترةٍ طويلة من الزمن، بقي الأخوان تافياني على هامش السينما الإيطالية، ولم يكونا الوحيدين، بل كان في الظلّ أيضًا عميد السينما الإيطالية فيسكونتي، وكذلك زميلهما بازوليني، وحتى المخرج الأصغر منهما سنًّا بكثير برتولوتشي.
بذل الأخوان تافياني جهودًا مضنية لفضح المافيا الإيطالية، كما في فيلمهما الأول "الرجل الذي يجب القضاء عليه/ Un uomo da bruciare" (عام 1962)، الذي يروي قصّة شابٍّ عاد إلى قريته في الجنوب الإيطالي ويتحدّى المافيا التي استولت على أراضي الفلاحين وتحاول إسكات هذا الصوت بكلّ الوسائل. كما تفاعلا مع مواضيع طرقتها التجربة الصينية والكوبية، كما في فيلم "المخربون"/ The subversives (1967)، وخلقا مشاريع لافتة عن الطوباوية "تحت شعار العقرب"/ Sotto il segno dello scorpione (1969)، عملا على إحياء السينما الكلاسيكية من جديد (كان لدى القديس ميخائيل ديك عام 1971، بناءً على قصة ليف تولستوي "الإلهي والبشري").
أحد أبكر مشاريعهما القيّمة والثمينة كان "ألونزانفان/Allonsanfàn بالاشتراك مع مارتشيلو ماستروياني (1974) وضع خطًا واضحا لسينما التمرد والاحتجاج. كان الأخوان تافياني بعيدين كل البعد عن التمرد المتطرف، وسلكا طريق الاهتمامات اليسارية الراديكالية بشرف وصدقٍ حتى النهاية. وقد اعترفا بأنّ الثورة التي تقوم كعملٍ جماعي بقيادة زعماء يتمتعون بالكاريزما لا تفضي إلى نتيجة.
في عام 1977، حصل فيلم "الأب ـ السيّد/ Padre padrone" على جائزة مهرجان كان السينمائية الرئيسية. استغل الأخوان تافياني حالة حياتية حقيقية وقاما بتحويلها إلى موعظة. كان بطل الفيلم، جافينو ليدّا، يرعى الغنم حتى عمر 18 عامًا في عمق سردينيا، ولم يكن يعرف الإيطالية، ولم يقرأ الكتب قط، كما لم يسبق أن وطأت قدماه شاطئ البرّ الرئيسي. بعد انتهاء خدمته في الجيش قطع علاقته ببيته تمامًا، والتحق من ثمّ بالجامعة، وأصبح خلال فترةٍ زمنية قياسية كاتبًا وعالمًا باللغات. إنّه فيلم عن انهيار النظام الأبوي، وبناء الإنسان شخصيته المستقلة.




في فيلم "الأب ـ السيد"، طرح الأخوان تافياني مفهومهما الجديد حول الإنسان، الطبيعة والتاريخ، وطورا هذا المفهوم في أفلامهما اللاحقة "ليلة القديس لافرينتيا" (1981)، وفيلم "الفوضى"/The Chaos  (1984). كانت "ثلاثية الفلاحين" للأخوين ترافياني آخر إبداعات السينما الملحمية.
فيلم "ليلة القديس لافرينتيا" يشبه ثمرة الذاكرة الجماعية الفولكلورية، التي نسجت حكايتها بنفسها. وكما في الحكاية وفي الحياة، يتوجب على أبطال الفيلم اتخاذ قرارات مصيرية. عند تراجعهم أمام قوات الحلفاء، يهدد الألمان بنسف بلدة من بلدات مقاطعة توسكانيا، ويأمرون السكان بالتجمع صباحًا في كنيسة البلدة. يؤمن قسمٌ من السكان بقوة المعبد الإلهية، ويجتمعون تحت جناح القسّ. في حين، كان بعضهم على قناعةٍ بأنّ الألمان ينصبون فخًّا، ويغادرون البلدة تحت جناح الليل. يقف تافياني في هذا الجدل إلى جانب المتشائمين: القدر أعمى، ولكنّ الغريزة قد تساعد. لدينا جزءٌ شخصيٌّ أيضًا: النموذج الأصلي للبطل، الذي قاد الناس في مغامرةٍ ليلية، كان والد باولو وفيتوريو. وهما يقفان من أعماق قلبيهما مع الناس الذين أقدموا على المجازفة: كانا يرثيان لحال أولئك الذين يخشون النظر في وجه الموت. اتحاد الناس هنا لا يمتّ إلى الأيديولوجيا بصلة، بل حدث بمحض الصدفة التي تجمع الناس بصورة طبيعية في لحظات التاريخ الفارقة. أمّا الفرقة بين أبناء المجتمع فتبدو كذلك غير منطقية البتّة في مثل تلك اللحظات. يلتقي الفاشيون والمناهضون لهم في حقل قمح، ولا يعرف ما إذا كانوا يتقاتلون، أو يلعبون لعبة الغميضة، فهم يعرفون بعضهم بعضًا منذ الطفولة، وينادون جيرانهم بأسمائهم البسيطة، أمّا رغبتهم في العناق فهي أقلّ بعض الشيء من ردة الفعل الانعكاسي للقتل. إنهم يطلقون النار بشكلٍ أخرق، وكذلك يسقطون قتلى، فيضحك المشاهد من خلال الدموع، وهذا ما يميّز حقًّا الفنّ العظيم.
فيلم "الفوضى"، تحفة تافياني الثالثة، مرتبط أيضًا بـ"عبقرية المكان". إنّه فيلم قام على السلسلة الصقلية للكاتب الإيطالي الحائز على جائزة نوبل لعام 1934 لويجي بيراندللو، الذي يرقب عالم قرية "الفوضى" التافه، تلك القرية النائمة على حافة عالم نهاية القرن العشرين. يتغذّى بناء الفيلم الملحميّ بدرجةٍ واحدة على المسيحية والوثنية، الخرافة والمعتقدات القوطية، وبالطبع على الثنائية (Dualismus)، القريبة من فكر تافياني، التي تقول بثنائية الروح والمادة.
في فيلم "صباح الخير بابل" (1987)، يتحدث الأخوان تافياني عن أخوين من أبناء أوروبا الضالّين، تركاها بداية القرن العشرين طمعًا في كنوز العالم الجديد (أميركا)، حتى يتمكنا من العودة لاحقًا إلى بوتقة الحرب العالمية الأولى القاتلة. هناك سيموتان، متشبثين بالكاميرا السينمائية يصوران التاريخ. قبل ذلك بوقتٍ طويل، يقوم الأخوان الفنانان المتخصصان في ترميم المعابد القديمة، بتشكيل تمثال فيلٍ في هوليوود، في تقليدٍ لواحدٍ من النقوش الرومانية الأثرية. هذا الكائن الهشّ (وإن كان فيلًا)، يبدو وكأنّه كائن حيّ صنع من خشب الصفصاف، وغطّي من أعلى بملصقات السينما، سينكمش في لهب النيران التي اشعلت بأمرٍ من المدير المتحمّس. ولكن الفيل يعود إلى الحياة، وحتى أنّه يتكاثر.
في عام 2012، عندما كان الأخوان تافياني في الثمانينات من العمر، فازا بجائزة مهرجان برلين عن فيلمهم "يجب أن يموت القيصر". من الناحية الرسمية، إنّه فيلم عن معتقلين في سجنٍ يدعى "ريبيبيا"، السجن الأكثر حراسةً بين سجون روما، وحيث يستعدّ فيه السجناء لعرض مسرحيةٍ عن يوليوس قيصر على بعد عدة كيلومترات من مسرح الأحداث التاريخية. في واقع الأمر، نشهد تجربة مذهلة تلقي الضوء على العلاقة بين الحياة والفنّ، اللذين يندمجان في النهاية. في هذا الفيلم، ينصبّ الاهتمام كلّه على قدرة تراجيديا شكسبير على إطلاق عاصفة من مشاعر الإنسان المدفونة في أعماقه، ويجبرك على إعادة التفكير بحياتك وتجربتك فيها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.