Skip to main content
يوم ودّعتُ ماري جارتنا
عبيدة حنا
أتخيّل البواخر والزوجات اللواتي يودّعنَ أزواجهنّ (Getty)
عندما غادرت ماري جارتنا في المبنى شقّتها، بكيت كثيراً. جلستُ في حضنها وبكيتُ. لم أكن حزينة كما كان يبدو، غير أنّني لم أستطع لجم نفسي عن البكاء. قالت ماري لأمي إنّ البنت، أيّ أنا، ينقصها الحنان. حزنتُ جداً ثم خجلتُ من نفسي كيف سمحتُ لجارتنا بأن تعطي أمّي درساً في الأمومة.

لم أستطع أن أفسّر لأمي بأنّني لم أحزن على ماري جارتنا وبأنّني لم أحزن على خالي الذي أتى لزيارتنا مع ابنه وزوجته مرة وحيدة، فبكيت في الغرفة حين سافروا إلى مصر. كذلك لم أحزن على إلياس صديقي الذي سافر إلى إيطاليا، والذي كانت قد مرّت سنة كاملة على آخر لقاء لنا قبل سفره. ولا أعرف لماذا اشتريت له قبعة كحلية من الصوف حينما علمت بسفره من صديق مشترك. في الأساس، لم أتمكن من إعطائه إياها، فلبستها أنا بعد فترة.

في كل مرّة أودّع فيها أحدهم، أبكي وإن لم أحزن على فراقه. لا أعرف السبب. وفي كل مرّة كان يطلب مني فيها كتابة رسالة في صفوف التعبير الكتابي، كنت أكتب لأبي المسافر ثم أبكي، على الرغم من أنّ أبي لم يسافر يوماً. لا بدّ من أنّه في "حياة سابقة" كان لي حبيب كثير السفر. أتخيّل القطار والبواخر والزوجات اللواتي يودّعنَ أزواجهنّ قبل الحرب وفي الخلفية السيّدة فيروز تغني "مرق السفر.. أخد الناس". في زمني، لا قطارات بخارية ولا سفن.

***

ترعبني فكرة الفراق. الوحدة. الضجر. القلب الثقيل في آخر الليل. الليل الطويل. التجاعيد. الطريق الموحشة إلى البيت. كلمة "موحش" تخيفني جداً. كلها مرادفات للفراق عندي، ومرادفات للسفر كذلك.

***

يخال إليّ أحياناً أنّهم سوف يغادرون جميعاً وأنّني سوف أبقى وحيدة وخائفة في طريق موحش يوصلني إلى البيت. أنسى أنّني قد أكون يوماً أحد هؤلاء المغادرين. أحد المسافرين ربّما. أحد الأموات حتماً. لكأنّي أراقب من بعيد هؤلاء الذين أحبهم. ومن بعيد أودّعهم وأبكي على فراقهم. ومن بعيد أُسعَد لمجيئهم إليّ. لكأنّي ثابتة في مكاني وفي الزمان. لا أكبر. لا أتغيّر. ولا يد لي في القصة كلها. أتفرّج فقط. لكن، هل سوف أموت حقاً؟ غريب.

***

عندما ماتت إحدى قريباتنا، كانوا يحكون في دار بيت جدي أنّ ابنتها بكت كثيراً في قدّاس الدفن. لا أعرف لماذا قلت إنّنا سوف نموت جميعاً وإنّه ما من داع للبكاء طالما أنّه لا مفر من ذلك. كنت طفلة متذاكية أحياناً. أذكر أنّ أمي قالت لي: "الفراق صعب". لم أكن قد تنبّهت إلى فكرة الفراق قبل ذلك. صار قلبي ثقيلاً جداً وحزنت. هل من أمر أشدّ حزناً من هذا؟