6 أشهر من حرب غزة: عجز أممي عن الحسم

6 أشهر من حرب غزة: عجز أممي عن الحسم

07 ابريل 2024
أساءت الدول العظمى استخدام مجلس الأمن بحسب أهوائها (فاتح أكطاش/الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- بعد ستة أشهر من الحرب على غزة، تبرز تساؤلات حول فعالية الأمم المتحدة والقانون الدولي في حماية الفلسطينيين وضمان الأمن الدولي، مع تسليط الضوء على انتهاكات إسرائيل للقوانين الدولية.
- مجلس الأمن الدولي يواجه انتقادات لاستخدام الفيتو من قبل الدول العظمى، خصوصًا الولايات المتحدة لحماية إسرائيل، مما يعيق تنفيذ قرارات مهمة ويسمح بإفلات إسرائيل من العقاب.
- الجمعية العامة للأمم المتحدة ومنظماتها تقدم دعمًا أكثر حسمًا للفلسطينيين، لكن الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل وشلل مجلس الأمن يشكلان عقبات أمام تحقيق العدالة والسلام.

بعد ستة أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة والإبادة الجماعية بحق الغزّيين، يبدو أن السؤال حول ما إذا كان التعويل على الأمم المتحدة والقانون الدولي للمساهمة بشكل إيجابي في فرض الأمن والسلم الدوليين وحماية الفلسطينيين، فارغاً أو مجازياً، إذ لم تُبقِ إسرائيل انتهاكاً لتلك القوانين والأعراف من دون أن ترتكبه بحق الفلسطينيين، والغزيين خصوصاً.

أي أمم متحدة؟

الأمم المتحدة هي مؤسسات عديدة تحت مظلة واسم الأمم المتحدة. وصحيح أنها مرتبطة ببعضها، إلا أن مسؤولياتها وتعاملها مع الحرب اختلفا بشكل جذري باختلاف أدوارها، إذ لعب جزء لا بأس به منها دوراً إيجابياً ومهماً، في حين كان لآخر دور أساسي في زيادة الظلم ضد الفلسطينيين. فهناك الأمين العام للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة، ووكالة الأمم المتحدة لتشغيل وإغاثة الفلسطينيين (أونروا)، ومنظمة الصحة العالمية، ومكتب المساعدات الإنسانية (أوتشا)، ومجلس حقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية، واليونيسف وغيرها. وجميعها جزء لا يتجزأ من منظومة الأمم المتحدة، لكن أدوارها تباينت.

تقع المسؤولية الرئيسية والأساسية لحفظ الأمن والسلم الدوليين على عاتق مجلس الأمن الدولي. لكن الديناميات في المجلس وتركيبته تعكس السياق التاريخي الذي تأسست فيه الأمم المتحدة عام 1945 ومعها مجلس الأمن (أي الحرب العالمية الثانية ونتائجها) وحق النقض (فيتو) الذي فُرض من الدول المنتصرة ويعكس معايير النفوذ والقوى آنذاك، وتمتلكه كل من الصين والمملكة المتحدة وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة.

فلسطين تبقى المثال الأكثر فجاجة على سوء استخدام الفيتو، وتحديداً من قبل الولايات المتحدة

وأساءت الدول العظمى استخدام مجلس الأمن بحسب أهوائها، ليس في سياق فلسطين فقط، بل خارجها كذلك (سورية وأوكرانيا والفيتوهات الروسية مثالاً). لكن فلسطين تبقى المثال الأكثر فجاجة على سوء استخدام الفيتو، وتحديداً من قبل الولايات المتحدة التي استخدمته أكثر من ثمانين مرة في تاريخ الأمم المتحدة (1970 لأول مرة) وأكثر من نصفها ضد قرارات تتعلق بممارسات إسرائيل ولحمايتها.

إلا أن مجلس الأمن تمكن من إصدار عشرات القرارات المهمة، حتى لو لم يتم تنفيذها حتى الآن، ولعل أبرزها على سبيل المثال القرار 242 للعام 1967 الذي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب إلى حدود ما قبل حرب 1967، وقرار مجلس الأمن رقم 478 للعام 1980 ويتضمن عدم الاعتراف بالقانون الإسرائيلي حول ضمّ القدس، ويدعو الدول إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة، والقرار 2334 للعام 2016 والذي دعا إسرائيل مجددا إلى وقف الاستيطان. وعلى الرغم من هذا، فإن مصير هذه القرارات كان عدم التنفيذ، واستمرار الدعم الأميركي والغربي الأعمى لإسرائيل، ما أدى إلى السماح لإسرائيل بالإفلات من العقاب ومساعدتها في تثبيت قبضتها في استعمارها واحتلالها لفلسطين.

6 أشهر من حرب غزة: قرار يتيم ضعيف

ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تاريخ بدء الحرب على غزة، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أربع مرات ضد قرارات تتعلق بوقف إطلاق النار أو هدن إنسانية. وحتى عندما تمكن مجلس الأمن من إصدار ثلاثة قرارات في الأشهر الستة الأخيرة، اثنان حول إدخال المساعدات وثالثهما حول وقف إطلاق النار خلال شهر رمضان، فإن الولايات المتحدة عمدت في الجلسة نفسها إلى تقويض هذا القرار، عندما ادعت المندوبة الأميركية ليندا توماس غرينفيلد في مداخلتها بعد الامتناع عن التصويت والسماح بتمرير القرار 2728، أنه غير ملزم. وهذا ادعاء يزيد من إضعاف مجلس الأمن والانقسامات داخله التي لن تقف تبعاتها عند فلسطين، كما يرسخ ممارسات الولايات المتحدة والدول الغربية ومعاييرها المزدوجة.

لكن يبقى عيب القرار 2728، كونه لا يتمتع بتدابير تنفيذية على الرغم من إلزامه، لأنه لم يتم تبنيه تحت ما يُعرف بالبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما كان سيجبر مجلس الأمن على استخدام القوة أو سبل أخرى من أجل تنفيذه. ومع ذلك، فإنه يزيد الضغط على إسرائيل ويجعلها أكثر عرضة وحساسية للمقاضاة.

هذا الشلل في مجلس الأمن، يتمثل في "بلطجة" أميركية أكثر منه انقساما في مواقف أغلب الدول، على الأقل في ما يخص وقف إطلاق النار. إذ يدل اضطرار الولايات المتحدة إلى استخدام الفيتو على أن أغلبية الدول في المجلس متحدة على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة وإدخال المساعدات وغيرها. وعبّر دبلوماسيون في أكثر من مناسبة عن إحباطهم الشديد من التعنت الأميركي، وشلل مجلس الأمن وعدم قدرته على القيام بمهمته الرئيسية "حفظ الأمن والسلم الدوليين".

غوتيريس استمر في حذره في ما يخص انتقاد إسرائيل

منذ مدة تكثفت الجهود للعمل على إصلاح نظام مجلس الأمن، لكن هذه التحركات الجارية منذ عقود تسير ببطء قاتل، ما يزيد من تهديد مصداقية المنظومة الدولية. وأظهرت حرب غزة الأخيرة، أكثر من أي حرب أخرى، مدى تأثير الانقسام الداخلي في مجلس الأمن، ودعم الولايات المتحدة الأعمى لإسرائيل عسكرياً ودبلوماسياً، والتأثير القاتل لهذا الشلل في المجلس، وغياب الإرادة الأميركية على نوعية ومستوى عمليات المساعدات الإنسانية. وأصبح شبح المجاعة يحوم بسبب استمرار الحصار الإسرائيلي ومنع دخول أغلبية المساعدات. صحيح أن الحروب عموما تشهد خلافات واستغلال قضايا المساعدات، بما فيها في السودان أو سورية مثلا، إلا أنه حتى في سورية تمكنت الأمم المتحدة ولسنوات في وسط الحرب من إدخال المساعدات للمناطق الواقعة خارج سيطرة النظام، عن طريق الآلية العابرة للحدود، واضطرت روسيا ولسنوات بقبولها بشكل أو بآخر على الرغم من العراقيل والعقبات الكثيرة.

الجمعية العامة للأمم المتحدة

عجز مجلس الأمن خلال 6 أشهر من حرب غزة، قابلته جمعية عامة أكثر حسماً في وجه انتهاكات الاحتلال، إذ تبنت قرارات مشابهة في صياغتها لتلك التي استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضدها في مجلس الأمن. وشملت القرارات المطالبة بإدخال المساعدات الإنسانية وعدم استهداف البنية التحتية وهدن إنسانية. وعلى الرغم من أنها تعتبر توصيات وهي غير ملزمة، إلا أن تبنيها بأغلبية ساحقة شكل إحراجا شديدا للولايات المتحدة وأظهرها شبه منعزلة في موقفها من الجرائم الإسرائيلية ودعمها لها. وصوتت الكثير من الدول بما فيها دول غربية دعما لتلك القرارات، ما أظهر شرخاً في الموقف الغربي وأحرج الولايات المتحدة. آخرها القرار الذي تبنته الجمعية العامة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والذي حصل على تأييد 153 دولة (من أصل 193 دولة عضوا في الجمعية العامة) ومعارضة عشر دول على رأسها إسرائيل والولايات المتحدة وامتناع 23 دولة.

الأمين العام وأذرع الأمم المتحدة الأخرى

على الرغم من الضغوط والهجوم الشرس الذي شنته إسرائيل ضد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بداية الحرب، والذي استعر كلما اشتعلت الحرب، ووصل إلى حدّ مطالبته بالاستقالة، واتهام الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة بمعاداة السامية وغيرها من الاتهامات الباطلة، إلا أن الدور الذي لعبه الأمين العام كان أكثر تعقيدا مما يحلو لإسرائيل أن تدّعيه. فغوتيريس استمر في حذره في ما يخص انتقاد إسرائيل، لكن حال الواقع والانتهاكات غير المسبوقة، بما فيها مقتل أكبر عدد من موظفي الأمم المتحدة (من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين أونروا وأغلبهم فلسطينيون) في تاريخ المنظمة وفي فترة زمنية قصيرة، أجبرته على اتخاذ مواقف أكثر حسما. كما أنه، حتى الآن وإن كان أقل من قبل، لا يستخدم نفس اللغة في إدانة العنف والانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، في حين لا يتورع عن وصف ممارسات المقاتلين الفلسطينيين بالإرهابية وإدانتها، في الوقت الذي لا يدين صراحة دائما عنف المستوطنين والجيش وإرهاب الدولة والمجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين المدنيين، بل يستخدم في الغالب لغة "التعاطف" و"الحزن"، وإن استخدم كلمة إدانة في سياق الجرائم التي ترتكب ضد الفلسطينيين فإنه غالبا لا يسمّي الفاعل.

لا شك أن وضع غوتيريس حسّاس، خصوصاً أنه يحتاج للاستمرار والتفاوض مع إسرائيل حول إدخال المساعدات وغيرها، إلا أن حجم المجزرة في غزة وطول تاريخ وأمد الظلم للفلسطينيين يحتّم عليه أن يتخذ مواقف أكثر وضوحاً، وهو ما لم يقم به دائماً. مثلاً عدم إدراجه إسرائيل على "قائمة العار" في أي من السنوات الماضية، على الرغم من ارتكابها واحدة من أعلى معدلات قتل وجرح الأطفال في الصراعات. وسيصدر تقرير هذا العام في شهر يونيو/حزيران المقبل ويغطي العام الماضي، وسنرى إذا كان سيستمر في التستر على إسرائيل.

شكلت تقارير وتصريحات قيادات في منظمات الأمم المتحدة الإنسانية ركيزة مهمة في أدلة فريق دفاع جنوب أفريقيا في محكمة العدل

ودان غوتيريس بشكل مباشر ولا لبس فيه عملية الفصائل الفلسطينية في 7 أكتوبر (هجوم حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة)  لكن هذا لم يكن كافيا للإسرائيليين. وبعد يومين (في 9 أكتوبر) قال إن "الهجمات لم تأت من فراغ"، مؤكداً في الوقت ذاته أن تصريحه لا يعني "أنه يبررها"، وأن التاريخ لم يبدأ في أكتوبر كما حاولت إسرائيل والكثير من وسائل الإعلام الغربية والحكومات تصويره. جاءت تصريحاته ضمن تصريحات صحافية رسمية أدلى بها في مقر الأمم المتحدة الرئيسي، إلا أن الحملة الإسرائيلية ضده تكثفت بعدها في أسبوعين عندما كرّر هذه الجملة خلال إحاطة له في مجلس الأمن الدولي حول الموضوع.

ومن اللافت كذلك أن غوتيريس لم يطالب في أول أسبوعين من الحرب، علناً، بوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، واكتفى بالحديث عن ضرورة التزام الأطراف بالقانون الدولي وقوانين الحرب وبالإضافة إلى السماح بإدخال المساعدات الإنسانية. لكنه بعد قرابة الأسبوعين، بدأ بذلك؛ حيث وصل عدد القتلى والجرحى الفلسطينيين إلى الآلاف، ونزح فيه مئات الآلاف داخلياً ودمرت إسرائيل مناطق واسعة من القطاع. ومع زيادة العنف الإسرائيلي ازدادت التقارير الصادرة من منظمات الأمم المتحدة الأخرى وقيادتها؛ أونروا ومنظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان وغيرها، الذين أبدوا مواقف أكثر شجاعة ووضوحاً في إدانة العنف ضد المدنيين والحديث بصراحة عن الجرائم المرتكبة.

وشكلت تقارير وتصريحات الكثير من قيادات منظمات الأمم المتحدة الإنسانية ركيزة مهمة في الأدلة التي قدمها فريق دفاع جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية المرفوعة ضد إسرائيل بتهم ارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. ولا بد من الإشارة إلى التقارير الصادرة عن المقررين الخاصين، بما فيها التقرير الأخير للمقررة الخاصة للأراضي الفلسطينية المحتلة فرنشيسكا ألبانيز، والتي طالبت الدول بفرض عقوبات على إسرائيل وحظر تصدير السلاح لوجود أدلة تفيد بارتكابها جرائم إبادة جماعية في غرة. لكن المقررين الخاصين الذين يتم تعيينهم من قبل الأمم المتحدة مستقلون ولا يتحدثون باسم الأمم المتحدة، على الرغم من أنهم يرفعون تقريرهم لها. وفي خطوة غير مسبوقة تمكن مجلس حقوق الإنسان، أول من أمس الجمعة، من تبني قرار يدعو إلى وقف تسليح إسرائيل بسبب ما يجري في غزة.

بعد 6 أشهر من حرب غزة، ما يحدث في القطاع لم يبق ضمن حدوده ولا يقتصر انعكاسه على المنطقة فقط، بل إن الشرخ داخل المنظمات الأممية أصبح أكثر وضوحاً ويهدد مصالح الولايات المتحدة نفسها ومحاولاتها التقرب من دول الجنوب العالمي، خصوصاً جهودها التي رمت، بعد اجتياح أوكرانيا بشكل خاص، إلى عزل روسيا. لكن الحماية غير المشروطة لإسرائيل ودعمها في حرب الإبادة يهددان بنسف أي جهود للتقارب بين دول الجنوب العالمي والدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة التي لم يعد ينظر إليها كحليف لإسرائيل فقط، بل كشريك وممكّن من الإبادة. كما يفرض هذا العجز والدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل ضغطاً شديداً على الأمين العام والعمل الإنساني عموماً وإدارة الصراعات؛ بحيث أصبح الهجوم على القوافل الإنسانية والتجويع واستهداف المستشفيات، ليس الاستثناء كما هو في أغلب الحروب، بل القاعدة وتحت غطاء ومساعدة الولايات المتحدة. وهذا يضع المجتمع الدولي في أزمة مفصلية بعد مرور أكثر من سبعة عقود على تأسيس المنظمة.