الاعتداءات على القُصّر في لبنان

الاعتداءات على القُصّر في لبنان

11 مايو 2024
+ الخط -

ينشغل اللبنانيون، منذ عشرة أيام، بعصابة جعلت من منصّة تيك توك مركزاً لعمليات الاعتداء على القصّر والأولاد. تُتَدَاوَلُ أسماء وأرقام للمعتدين والضحايا بشكل يفوق العقل، خصوصاً أنّ عمل العصابة متشعّب داخل "Dark web" (الإنترنت المظلم)، حيث يستوجب الولوج إليه برمجيات مُعيّنة غير متاحة على الإنترنت الذي نعرفه. لم تكن المرّة الأولى في لبنان التي جرى الحديث فيها عن معتدين على الأولاد، بل دائماً كان هناك مُجرم وضحية، ومُتدخّل لمصلحة المُجرم، بما يسمح بتجاهل المحاسبة من جهة، ويؤسس لحالات مماثلة أكثر اتساعاً في المستقبل.

يعود ذلك كلّه، عملياً، إلى 26 أغسطس/ آب 1991، حين صدر قانونٌ حَمَلَ الرقم 84، الذي بموجبه جرى العفو عن كلّ من ارتكب جريمة قبل 28 مارس/ آذار 1991، أي ّالمقصود أنّ كلّ من اقترف إثماً خلال سني الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990) عُفي عنه، مع بعض الاستثناءات. ووفقاً لتقرير في "المجلّة القضائية" اللبنانية بتاريخ 30 سبتمبر/ أيلول 2020، فإنّ القانون المذكور مُكوّن من عشر مواد جعلت من احتمالات المُحاسبة شبه معدومة في البلاد. وبذلك نجا أمراء الحرب وأنصارهم، ممّن دخلوا النظام الدولتي بعد الحرب، ومّمن ظلّوا خارجه، من أيّ عقاب على إعدامات وسرقات ومصادرة عقارات واعتداءات على الناس. وبحسب المجلّة نفسها، لم يكن قانون العفو في حينه الأول من نوعه، بل صدر 44 قانون عفو في تاريخ لبنان، ستّ منها أصدرتها السلطات الفرنسية في حقبة انتدابها البلاد بين عامي 1920 و1943، و38 منها في مرحلة ما بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1943. ومعظم هذه القوانين متعلّقة بجنح عادية مرتبطة بقوانين السير عموماً، والباقي مُتعلّق بجرائم، غير أن القانون رقم 84 يَبقى الأخطر في تاريخ الجمهورية اللبنانية.

لماذا ذلك كلّه؟ لأن من نجح من أمراء الحرب في الانضواء داخل منظومة الدولة عمد إلى زرع أنصاره من مقاتلي المليشيات فيها، مساهماً مع أقرانه في زرع الفساد، الذي استشرى إلى درجة أنّ الإنسان أصبح مجرّد شيء جامد يُمكن التحكّم به. تطوّر مبدأ عدم المُحاسبة لاحقاً إلى طفرات انتشرت على امتداد البلاد، وتغلغلت في صلب المجتمع، ما سمح لمجرمي جيل ما بعد الحرب اللبنانية من النفاد بجريمتهم، لا لأنهم نجحوا في كتمانها، بل لأنّهم قادرون على النظر في عيون الضحايا وعيون ذويهم باستهزاء، ووعيد بالانتقام، لأنّ هؤلاء فكّروا في اللجوء إلى القضاء للحصول على حقوقهم.

ما يحصل حالياً من فوضى إعلامية، خصوصاً في موضوع الاعتداء على الأطفال والقصّر، دليلٌ على فوضى نشأت من رأس النظام، لا من الشعب. المُحاسبة المهدورة لقَتَلَة ومجرمين، بعد حرب لبنان، أفضت إلى تحوّل المُحاسبة استثناءً. يكفي أنّ الأزمة المالية التي عصفت بلبنان في عام 2019 لم تنتهِ والمُودعين في المصارف لم يستردّوا أموالهم. من الطبيعي أن يقف أيّ فردٍ منّا وهلة، وينظر بشكل دائري في كلّ ما يجري، ويدرك أنّ من يقود سفينة الدولة المُهترئة يتصرّف في لا وعيه باعتبار أنّ لا أحد بوسعه محاسبته. وبالتالي، فإنّ عديد من المعتدين على الأطفال سينجون بفعلتهم من دون مُحاسبة، لأنّه "طبيعي" في لبنان أنّ تحظى بعلاقات مع أمير حرب.

لا يحتاج لبنان إلى الاعتماد على نظام مليء بالموبقات، بقدر ما يحتاج إلى صدمة معنوية فعلية غير متاحة في صناديق الاقتراع. ومثل هذه الصدمة يُمكن أن تضع حداً لتسلسل الجرائم والاعتداءات من دون ردع، أقلّه لرمي المُرتكبين في السجون. لأنّ أيّ سيناريو خارج سياقات المُحاسبة سيدفع كلّ إنسان، ممن لا يزال محافظاً على عقله في لبنان، لتطبيق القانون بيده. غياب المُحاسبة سيعزّز فوضى الأمن الذاتي. ومثل هذه الفوضى ستستولد أزمة لن تنتهي في جيلين أو أكثر. على أحدهم أن يقوم بهذه الصدمة.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".