سلوفاكيا ليست بولندا ولا البوسنة

18 مايو 2024

نقل رئيس الوزراء الأسترالي فيكو بعد تعرضه لإطلاق نار في هاندوفا (15/5/2024فرانس برس)

+ الخط -

بين الحربيْن العالميتيْن 21 عاماً بين انتهاء الأولى (1914 ـ 1918) واندلاع الثانية (1939 ـ 1945)، وبُعدٌ جغرافي يبلغ نحو 1100 كيلومتر بين ساراييفو البوسنية، التي شكّلت شرارة الحرب الأولى، وغليفيتشي البولندية، التي أشعلت الحرب الثانية. تغيّر زمن اندلاع الحروب العالمية من أوروبا الشرقية أو البلقان، رغم أنّه يمكن إدراج محاولة اغتيال رئيس الوزراء السلوفاكي، روبرت فيكو، الأربعاء الماضي، في خانة الأحداث التي تُلهب نيران المدافع. ذلك أنّ موقع محاولة الاغتيال كان في هاندلوفا السلوفاكية، التي تبعد نحو 250 كيلومتراً عن غليفيتشي، ونحو 700 كيلومتر عن سراييفو. لكنّ الثقل الأوروبي، الذي كان محور الحربيْن العالميتيْن لم يعد في شرق أوروبا، حسب ما أظهره الغزو الروسي أوكرانيا، ولا في الوسط الأوروبي بشكل عام. إذا قُيّض لأيّ حربٍ عالميةٍ أن تندلع من القارّة الأوروبية، فستكون حصراً عبر بوابة البلطيق، لا غير.

لا أحد من غرب القارّة، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ولا من شرقها، تحديداً روسيا، يكترث إذا توفّي فيكو متأثّراً بجراحه أو ظلّ حياً، سلوفاكيا تبقى تفصيلاً. في البلطيق، العمق الروسي الذي يبدأ من شواطئ سان بطرسبرغ وإقليم كالينينغراد، يوازي بأهميته ولاية ألاسكا للولايات المتّحدة، وغويانا الفرنسية بالنسبة لفرنسا. الطابع الجيوبوليتيكي المتّصل بالموارد الطبيعية والحيّز الجغرافي الواسع، يجعل من الصعب تصوّر أن تتحوّل سلوفاكيا إلى بركان مُتفجّرٍ في القلب الأوروبي. حتّى حين كانت متّحدة مع جمهورية التشيك تحت سيادة تشيكوسلوفاكيا، لم يأبه العالم الغربي لضمّ الزعيم النازي أدولف هتلر إقليم السوديت التشيكوسلوفاكي إلى ألمانيا في 1938، بل عومل الفوهرر بوقار زائد لدى القادة الغربيين، قبل حرب 1939.

في المقابل، لا يمكن تجاهل ما جرى في سلوفاكيا، بل سيُفضي في مكانٍ ما إلى تشعّب بؤر انعدام الأمان في أوروبا، في سياق التضارب السياسي الحادّ، الذي عمّ دولها، خصوصاً مع صعود اليمين المُتطرّف في أنحاء متفرقةٍ من القارّة القديمة. ويدلّ ذلك على أنّ الشعبوية التي كانت شبه منعزلة عالمياً عقوداً، باشرت بالتحوّل أسلوبَ حياة للساعين إلى السلطة، ومعياراً للفوز بصناديق الاقتراع. من يدري؟ لاحقاً قد يُنزع الصندوق من مكانه. إنّه جيلٌ جديدٌ من الزعماء في العالم، هؤلاء المولودين سياسياً في مرحلة ما بعد حقبة الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، وما بعد تمدّد مبدأ "الإفلات من العقاب" وتوسّعه، وذلك تحت مسمّى "الخصوصية القومية" أو "الثقافة الاجتماعية". وإذا كان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، يُعدّ رمزاً لمن جاهر بهذه الشعبوية، إلا أنّه ليس الوحيد ولا الأول، بل لأنّه كان فقط على رأس الولايات المتّحدة بين 2017 و2021، وهو ما منح بعداً "عالمياً" لسيادة الشعبوية.

هل يعني ذلك أنّ الكوكب أصبح أقرب إلى الصدام المُسلّح العالمي؟ ... في الواقع، أضحى أقرب ممّا كان عليه في التسعينيات، لكنّه لا يزال بعيداً عن ظروف عشيّة الحربيْن العالميتيْن السابقتيْن. يعود ذلك إلى ثلاثة أطراف لا رابع لها: الولايات المتّحدة والصين وروسيا. وما دام الثلاثي المعني مستمرّاً بالمحافظة على منع نشوب حربٍ عالمية، فإنّ تنفيس هذه الحرب يتمّ في مناطق إقليمية متعدّدة بحروب صغيرة ومواجهات محدودة، وقد يكون منها سلوفاكيا. في الحربيْن الماضيتيْن، كانت القوى العظمى عديدة، وموزّعة، قبل حسم السيطرة على يد ثنائية أميركا ـ الاتحاد السوفييتي.

سنسمع كثيراً عن أحداثٍ مماثلةٍ شبيهة بمحاولة اغتيال فيكو، لكنّها لن تؤثر في ما تريده واشنطن وموسكو وبكين، بل حصراً في ما يتحوّل ساحة لصراعها. لذلك، في وسع أيّ إقليم في العالم محاولة النجاة من أيّ انزلاق لحمّامات دم، عبر الإقرار بأنّ أيّ خلاف داخلي أو على مستوى الجوار يُمكن حلّه بالدبلوماسية، وعدا ذلك، فإنّ نماذج أنغولا ولبنان والكوريتين، وغيرها الكثير ستتكرّر.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".