الإنصات إلى طلاب أميركا

الإنصات إلى طلاب أميركا

27 ابريل 2024

طلاب في جامعة نورث ويسترن بإيفانستون الأميركية في اعتصام يناصر غزّة (25/4/2024/الأناضول)

+ الخط -

هل يُنصت من هم مثلنا في الشرق الأوسط إلى هدير الطلاب في الجامعات الأميركية، دعماً لفلسطين وتنديداً بالعدوان الإسرائيلي عليها؟ أن تشاهد وتقرأ وتسمع شيء، وأن تُنصِت شيءٌ آخر. هناك، يصنع الطلّاب المتحدّرون من خلفيات عرقية ودينية عدّة سياقاً جديداً للسياسة الأميركية، كما فعل أسلافهم رفضاً لحرب فيتنام، ثمّ لمنع الأسلحة النووية، وصولاً إلى الاعتراضات الهائلة ضدّ حربي العراق وأفغانستان. في كلّ الاحتجاجات السابقة، لم يسقط النظام الأميركي، بل استوعب المتغيّرات، مثلما فعل مع حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي. والأكيد أنّه سيستوعب الاحتجاجات الحالية المُمتدّة من جامعات الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي، في بلاد الـ9.1 ملايين كيلومتر مربع.

يرفع الطلاب منذ أيام أعلاماً فلسطينية في تظاهراتهم واعتصاماتهم، وفي ذلك إيمانٌ، أرادوا ذلك أم لا، بأنّ أيّ نوع من التقدّم البشري في الكوكب، لا يستقيم من دون تحقيق العدالة لفئات بشرية فيه. تاريخ البشر يزخر بالظلم، الذي لن يتوقّف مستقبلاً طالما أنّ الوعي مُغيّب والغرائز المتفلّتة حاكمة، غير أنّ الومضات التاريخية لحراك شباب، من المفترض أن يقودوا لاحقاً مجتمعاتهم الصغيرة والكبيرة في الولايات المتّحدة (ولمَ لا يصل أحدهم إلى رئاسة الجمهورية في حقبة ما؟)، تُظهر أنّ بلاداً مثل الولايات المتّحدة قادرة على استيعاب مختلف الأفكار والعقائد، ما دام حكم القانون، الذي ارتضاه كلّ الأميركيين، هو السائد.

لم يخرُج بعد في واشنطن من يقول إنّ "السفارات تحرّك الطلاب"، وإنّ "أجهزة مخابراتية تابعة لدول عدوّة تريد ضرب الاستقرار الوطني"، وإنّ "القومية والشعب والدين في خطر بفعل الاحتجاجات المشبوهة"، وصولاً إلى آخر المعزوفة عن "اكتشاف خلايا لعملاء"، أو في أفضل الأحوال "كان المتظاهرون مغشوشين". نسمع دائماً أنّ هناك تقليلاً من شأن الوعي والتفكير عند الطلاب، والشباب عموماً، على قاعدة أنّ كبار السن وحدهم "الحكماء". لو كان الأمر كذلك، لما أُرسل شبّانٌ لم يتجاوزوا سن الـ25 إلى القتال في حروب يجلس قادتها خلف المكاتب، ويرفعون شعاراتهم الطنّانة. تسمع على ألسنة متطرّفين أميركيين اتهامات للطلاب بالانتماء لحركة حماس أو معسكر يساري، لكنّه ليس موقفاً رسميّاً، كما حصل ويحصل في عديدٍ من دولنا العربية.

في المقابل، لم تخرج جامعات في روسيا والصين وإيران وفنزويلا، على سبيل المثال لا الحصر، للتنديد بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، في غزّة والضفّة الغربية المحتلّة. هؤلاء لا يطلبون أكثر من كرسيّ إلى جانب النظام الأميركي، لا محاولة القضاء عليه. موسكو مشغولة بإيجاد أيديولوجية عرقية باسم "القومية الروسية"، فيما طلّاب أميركا تجاوزوا كلّ ما يمكن وصفه بالاختلافات العرقية والدينية والثقافية من أجل عدالة فلسطين. بكين منهمكة في إحكام قبضتها على سكّانها ومراقبة كلّ حركة لهم، لأنّ "للحرية حدوداً". طهران مندفعةٌ إلى الحفاظ على مكتسباتها الإقليمية باسم فلسطين، لا من أجل فلسطين، بل من أجل أحلام عتيقة. كراكاس تسعى للحلول مكان هافانا في سلّم أولويات موسكو، لا أكثر. كلّه باسم فلسطين.

من المهم العودة إلى شعار "الموت لأميركا" في هذه الحمأة، ومعرفة أنّ التنميط والتعميم في عالم يقدر فيه شخص ياباني على مشاهدة آخر إكوادوري مثلاً، وهو ينشر يوميّاته في تسلق جبال الأنديز، يُعدّان تجميداً لأيّ فكر تطوّري. ليس في الجامعات الأميركية من يهدّد الطلاب، في المستوى الرسمي، أنّهم سينالون عقاباً لأنهم تكلّموا سعياً للعدالة فقط. في المقابل، يحتّم الصدق في الدفاع عن القضية الفلسطينية على المتصالحين مع أنفسهم، والواقفين على الجانب الصحيح من التاريخ، معرفة أنّ العدالة لا تتحقّق إذا ادّعى طرفٌ واحدٌ دفاعه عن فلسطين والفلسطينيين، لقمع كلّ مدافع آخر، سواء باسم أيديولوجية دينية أو سياسية. ما يفعله طلاب أميركا هو تأكيد أنّ العدالة تبقى أسمى من أيّ محاولة للاستئثار بأهم قضية على وجه الأرض.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".