عسكرة الاقتصاد الروسي... نموّ في زمن الحرب رغم التشوه الهيكلي

تحقيق روسيا 1
01 ابريل 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- الاقتصاد الروسي يشهد نموًا بسبب قطاع التصنيع العسكري على الرغم من الحرب في أوكرانيا، لكن هذا النمو يأتي بتكلفة اجتماعية كبيرة، مع تحذيرات من تفاوتات إقليمية وتقليص النفقات الاجتماعية.
- روسيا تخصص 38.6% من ميزانيتها للدفاع في 2024، مما يعزز الإنتاج العسكري ويوفر فرص عمل، لكن يؤدي إلى تكلفة اجتماعية عالية ويعمق الفجوة بين الأقاليم.
- تراجع روسيا إلى المركز الثالث عالميًا في الصادرات العسكرية بانخفاض 53% بين 2019 و2023، مع تحذيرات من تأثير التركيز على الإنتاج العسكري على قدرة البلاد على تطوير وتصدير الأسلحة الاستراتيجية.

على الرغم من الحرب الدائرة في أوكرانيا، ينمو الاقتصاد الروسي بدعم من قطاع التصنيع العسكري، غير أنّ تشوهات تضرب بنيته، إذ يتزايد الإنتاج الاستثماري في أقاليم ويتراجع في أخرى، بينما تتقلص النفقات الاجتماعية.

- يحذر الخبير الروسي رسلان بوخوف، مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيا في موسكو (مؤسسة بحثية مستقلة)، من عدم التوازن التنموي بين الأقاليم المصنعة للأسلحة المستخدمة في حرب أوكرانيا، إذ تنمو عجلة الإنتاج الاستثماري فيها بوتيرة أعلى من ذي قبل، لكنها تأتي على حساب الأقاليم الأخرى وتقليص النفقات الاجتماعية التي لن تنال الدولة دعم السكان من دونها، بصرف النظر عن نجاحاتها العسكرية، وهو رأي يؤيده الناشط اليساري، إيغور ياسين، جازماً بأنّ قطاعاً عريضاً من السكان يعانون انخفاضاً في مداخيلهم بسبب تراجع سعر صرف الروبل وارتفاع معدلات التضخم.

وعلى الرغم من ذلك، تكشف بيانات وزارة المالية أن السلطات خصصت 14.2 تريليون روبل (حوالى 154 مليار دولار) للأمن والدفاع ضمن ميزانية عام 2024، بما يعادل 38.6 في المائة من إجمالي الميزانية، لتصبح هي البند الرئيسي للإنفاق، متفوقة على النفقات الاجتماعية البالغة 11.2 تريليون روبل (121 مليار دولار تقريباً) أو 30.5 من إجمالي الإنفاق.

 

كيف ينمو اقتصاد الحرب الروسي؟

يوضح الخبير الروسي فلاديسلاف إنوزيمتسيف، مدير مركز بحوث مجتمع ما بعد الصناعية (منظمة غير ربحية مستقلة)، والذي تدرجه وزارة العدل الروسية على قائمة "العملاء للخارج" (تعني أنه متهم بتلقى تمويل أو يخدم المصالح الخارجية، وهو أمر يغلق أمامه أبواباً كثيرة داخل البلاد)، كيف انتعش المجمع الصناعي العسكري، إذ إنّ "عدداً من المصانع الحربية أصبحت تعمل وفق نظام الدوامين، وهو ما يتطلب تعيين عمال إضافيين وصرف مكافآت مقابل العمل فوق الساعات المقررة أو في أثناء الدوام الليلي أو في عطلة نهاية الأسبوع. وعلى سبيل المثال، ازداد الإنتاج في مصنع "أورال فاغون زافود"، بمقدار ما بين ستة وسبعة أضعاف".

ويُعَدّ "أورال فاغون زافود" أكبر مصنع لإنتاج العربات وصيانتها في روسيا، ولكنه ينتج أيضاً أحدث أطرزة الدبابات الروسية مثل "تي-90إم" التي تستخدم في القتال بأوكرانيا، بحسب بيانات موقع مؤسسة "روس تيخ" الحكومية التي يتبع لها المصنع.

%3.6 نسبة نموّ الاقتصاد الروسي في عام 2023

ويلفت إنوزيمتسيف إلى مفارقة مفادها أن تدمير المعدات العسكرية في ساحة المعركة في أوكرانيا يصبّ في مصلحة مجمع التصنيع العسكري الروسي، مضيفاً: "الأكثر جدوى على الاقتصاد، أن يُتلَف المنتج في أسرع وقت". ويتابع: "كلما ساهمت القوات المسلحة الأوكرانية في إتلاف الدبابات، عنى هذا مزيداً من العمل للمصنع والقطاعات المشاركة في توفير قطع الغيار ويساعدها في الحصول على عقود واستثمارات جديدة".

ويقلل من أهمية الصورة النمطية العامة للحروب المرتبطة بالمجاعات والفقر، قائلاً: "الدولة التي تقود أعمالاً عسكرية محدودة وتزيد نفقاتها العسكرية، تمرّ بفترة تقدم اقتصادي. إبان الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، كان خط الجبهة على بعد 100 كيلومتر فقط من باريس، لكن فرنسا لم تعانِ مجاعة، بل كانت صناعاتها تعمل بكامل طاقتها. أما الاقتصاد الأميركي، فلم يتجاوز تداعيات الكساد الكبير إلا بفضل الطلبيات العسكرية في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي".

ويقر إنوزيمتسيف بأن الأموال التي تُضَخّ في مجمع التصنيع العسكري الروسي تنعكس إيجاباً على مستوى المعيشة في الأقاليم الكائنة فيها مصانع حربية، وبالتالي فئة اجتماعية كبيرة من مصلحتها استمرار "العملية العسكرية الخاصة".

ويعني ما سبق استمرار زيادة الإنفاق العسكري الروسي في ظروف عودة أجواء "الحرب الباردة" لتخيم على العلاقات الروسية الغربية، كما يقول الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، لـ"العربي الجديد"، إذ "كشفت العملية العسكرية الخاصة أن الحروب الحديثة تقوم على المسيرات، ولذلك تنمّي روسيا اليوم إنتاجها منها، كما تشتريها من دول أخرى، ومن البديهي أن الميزانيات العسكرية ستزداد مع الرهان على إنتاج الأسلحة الاستراتيجية وليس التكتيكية فقط، ما يعني أن نمو مجمع التصنيع العسكري الروسي سيستمر".

 

تراجع الصادرات العسكرية

يضم مجمع التصنيع العسكري الروسي 1350 منشأة، بإجمالي مليوني عامل، وفق تقديرات الجامعة الحكومية للإدارة في موسكو، الصادرة في عام 2019، وعلى الرغم من هذا الحجم الهائل، إلا أن موسكو تراجعت إلى المركز الثالث في قائمة أكبر الدول المصدرة للسلاح في العالم خلال الفترة من 2019 إلى 2023، بحسب بيانات معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، الصادرة في مارس/ آذار 2024، وبينما استقرت الولايات المتحدة في المركز الأول بالقائمة، جاءت فرنسا في المركز الثاني، و"أصبحت روسيا ثالث أكبر مصدر للأسلحة للمرة الأولى، بعدما خسرت المركز الثاني لصالح فرنسا"، إذ تراجعت صادرات الأسلحة الروسية بنسبة 53% في فترة الخمس سنوات من 2019 إلى 2023 مقارنة بالفترة من 2014 إلى 2018. وبعدما صدّرت روسيا أسلحة إلى 31 دولة في عام 2019، بلغ العدد 14 دولة عام 2022 وانخفض إلى 12 دولة، في عام 2023، وشهدت الصادرات العسكرية الروسية تراجعاً حاداً من 14.6 مليار دولار في عام 2021 إلى نحو 8 مليارات فقط في عام 2022.

وفي ضوء البيانات السابقة، يحذر مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيا في موسكو، رسلان بوخوف، من أن يأتي التركيز الحالي على توسيع إنتاج الأسلحة التكتيكية لاستخدامها في أرض المعركة على حساب الأسلحة الاستراتيجية التي تحتاجها روسيا على المدى الطويل، مقللاً في الوقت نفسه من احتمال حدوث زيادة في صادرات الأسلحة الروسية على إثر توسع الإنتاج.

ويقول بوخوف لـ"العربي الجديد": "خصصت الدولة على خلفية العملية العسكرية الخاصة أموالاً إضافية لمجمع التصنيع العسكري من أجل زيادة عدد قطع المعدات العسكرية المنتجة والارتقاء بجودة تلك الأنواع، خصوصاً المستخدمة في ساحة المعركة. لكن من جانب آخر، نتوقع انتهاء للعملية العسكرية بحلول نهاية العام المقبل أو بداية عام 2025، وحينها سنواجه نقصاً في الأسلحة الضرورية لضمان أمن البلاد على المدى الطويل".

ويضرب أمثلة على ذلك، مضيفاً: "يجري التركيز حالياً على قطاعات التصنيع العسكري التي قد تساهم في النصر على أوكرانيا مثل إنتاج الدبابات والمسيّرات. على حساب القطاعات الأخرى اللازمة لأمن البلاد مثل السفن وتطوير العربات والدبابات ذاتية الحركة حتى تتصدر، إذا اقتضى الأمر، العمليات على الخطوط الأمامية دون تعريض الأفراد لنيران كثيفة".

ويقلل من أهمية فرص روسيا في جني عوائد إضافية من تصدير الأسلحة بعد زيادة إنتاجها، قائلاً: "الأسلحة ليست سلعة تجارية بحتة مثل النفط، بل يتم شراؤها ضمن حزمة تشمل ضمانات سياسية، ومثال على ذلك أرمينيا التي توجهت نحو شراء الأسلحة من الهند وفرنسا بعد شعورها بخيبة أمل من منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة موسكو، وأضف إلى ذلك أن الدول تفضل شراء الأسلحة من أخرى منتصرة، بينما تعرضت صورة روسيا لهزة على إثر عجزها عن النصر على أوكرانيا".

 

تراجع النفقات الاجتماعية وتزايد موازنة الحرب

على الرغم من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا وخسارة موسكو حصتها الرئيسية بسوق النفط والغاز الأوروبية، إلا أن الاقتصاد الروسي سجل نمواً بنسبة 3.6% في عام 2023 بفضل زيادة الإنفاق العسكري على خلفية الحرب في أوكرانيا في ظل استمرار التحديات الاقتصادية طويلة المدى، وفق بيانات نشرتها وكالة "روستات" الحكومية.

ويقر الناشط اليساري، إيغور ياسين، بأن عوامل مثل التعبئة العسكرية والهجرة وزيادة الإنتاج الحربي أدت إلى ارتفاع معدل الأجور في بعض القطاعات، ولا سيما تلك المتعلقة بمجمع التصنيع العسكري، متوقعاً في الوقت نفسه تدهوراً للأوضاع لأغلبية المواطنين بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت في مارس 2024 وأدت إلى فوز الرئيس الحالي، فلاديمير بوتين، بنسبة 87 في المائة. ويقول ياسين لـ"العربي الجديد": "بسبب عزلة البلاد والعقوبات يحرم الروس العديد من السلع والخدمات والفرص، ويعانون انخفاضاً في مداخيلهم بسبب تراجع سعر صرف الروبل وارتفاع معدلات التضخم".

الصورة
تحقيق روسيا 2
تراجعت موسكو إلى المركز الثالث في قائمة أكبر الدول المصدرة للسلاح في العالم بين عامي 2019 و2023 (Getty)

وتشير البيانات الواردة بموقع المصرف المركزي الروسي إلى أن سعر صرف الدولار ارتفع من نحو 70 روبلاً مطلع عام 2023 إلى قرابة 93 روبلاً حالياً، ما يعني أنّ العملة الروسية فقدت أكثر من 30 في المائة من قيمتها، رغم رفع سعر الفائدة الأساسية مرات عدة، لتبلغ 16 في المائة حالياً. ويلفت ياسين إلى أنّ الحكومة تسعى لسدّ عجز الموازنة عبر تقليص النفقات الاجتماعية، مضيفاً: "حمل الكلام المخادع عن ضرورة تعزيز دفاع البلاد وأمنها، في باطنه سعياً من أصحاب السلطة للحفاظ على النفوذ والثروات والامتيازات مهما كان الثمن".

ويخلص إلى أنّ فبراير/ شباط 2022 بيّن ما كان يجري الإعداد له، وأنّ الحكومة لا تملك موارد مالية كافية للامتناع عن رفع سنّ التقاعد، في حين تتوافر تريليونات لشنّ حرب، إذ شهدت البلاد في عام 2018 إصلاحاً مثيراً للجدل والسخط الاجتماعي، نصّ على الرفع التدريجي لسنّ التقاعد من 55 إلى 60 عاماً للنساء ومن 60 إلى 65 عاماً للرجال.

 

هل تتكرر تجربة الاتحاد السوفييتي؟

يصف الخبير إنوزيمتسيف، الحياة النابضة وسط العاصمة الروسية وفي كبريات مدن البلاد، بأنها علامة على عدم دقة انطباعات تأثر البلاد جراء الحرب الطاحنة الدائرة منذ أكثر من عامين، إذ تمتلئ المراكز التجارية والمقاهي والمطاعم الفاخرة بالرواد، مشيراً إلى عدم دقة الصورة النمطية لحتمية الفقر والمجاعات في أثناء الحروب، بل "وربما يمكن الإشارة إلى مساهمتها في إنعاش الاقتصاد" كما يقول.

الإفراط في الإنفاق العسكري أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي

وفي الوقت الذي يُعَدّ فيه الإفراط في الإنفاق العسكري أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، يقلل كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أندرييف، من واقعية تكرار ذلك مع روسيا اليوم، قائلاً لـ"العربي الجديد": "زيادة الإنفاق العسكري ضرورة في ظروف إجراء العملية العسكرية الخاصة، ولا تؤدي إلى تقليص الرعاية الاجتماعية، بل فقط تحول دون تحسينها".

ويجزم أندرييف بأنه لا يمكن تلخيص أسباب انهيار الدولة السوفييتية في زيادة الإنفاق العسكري، مضيفاً: "هناك مجموعة من العوامل أضعفت الاقتصاد السوفييتي، ومنها تراجع أسعار النفط وتمكّن الولايات المتحدة من جرّ موسكو إلى سباق تسلح منهك، ولكن الأهم عجز آخر زعيم سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، عن السيطرة على الأوضاع في دولة قد استنفدت أيديولوجياً".