السينما والتربية: تأخّرٌ وسوء فهم في العالم العربي

13 مارس 2024
أمجد الرشيد: "إنْ شاء الله ولد" في مهرجانٍ لفيلم التربية (شايين أنتوني سينْكلير/Getty)
+ الخط -

 

غالباً ما يقترن دور التربية، المنوط بالسينما، في الممارسة العربية، حين يتمّ الالتفات إليه، بجانب تربوي جاف، مع حمولته البيداغوجية والديداكتيكية المرافقة. هذا تصوّر محدود الأفق، لا يرى في الأفلام سوى قابليتها للاندماج في قالب مدرسي ضيّق، ذي مفعول سطحي وضعيف على المتعلّمين والمواطنين بصفة عامة. ذلك أنّه ينظر إلى السينما وسيلةً تطبيقية ليس أكثر، ومن ثم لا تنفع إلا لتمرير "رسائل" محدّدة، من خلال أعمال تشوبها المباشرة وأسلوب برهاني، كثيراً ما تصبّ في ثلاثة مناح: السينما وسيلة لتلقين معارف معيّنة (حول فترة تاريخية، أو موضوع علمي، مثلاً)، ومنحى تحسيسي بقضايا معينة (مخاطر إدمان المخدرات، التزام قانون السير، إلخ)، ومنحى وعظي (الإحسان للوالدين، تخليق الحياة العامة...).

هذا توجّه ليس سيئاً بحدّ ذاته، بل ضروريّ في سنّ باكرة، شرط ألّا يقترن بفرض رؤية أحادية وجامدة للأشياء، وأن يُترك للمتلقّي حرية نقاش مضمون الأفلام ومساءلتها من دون خطوط حمراء. لكنْ، مُجحف أنْ يُحصَر أفق السينما في ثيمات وأطر من هذا القبيل، مع تلامذة النصف الثاني من المرحلة الابتدائية، ثم باحتشامٍ في المرحلتين الإعدادية والثانوية، في حين يُغيَّب دور السينما كلّياً في التربية الشعبية، بمعناها الواسع، لفائدة فئات أخرى من المجتمع.

منذ 2004، ينعقد في نهاية كلّ عام، في بلدة "إفروه ـ Evreux" (شمال فرنسا)، "المهرجان الدولي لفيلم التربية". مهرجانٌ صغير نسبياً، لكنّه يضطلع بأهمية كبرى لمنظومة التربية المرتكزة على السينما، في كل أنحاء فرنسا، بحكم أنّه يمثّل انبعاثاً لعقود من نشاط مؤسسة CEMEA، في كلّ ما يتعلّق بالتربية الشعبية في ذاك البلد. مؤسّسة عريقة تتكوّن من جمعيات محلّية، تعمل على شكل شبكة تجمع موظفين وأعضاء منتَخَبين ومتطوّعين يشتغلون على التربية في المجتمع، خاصةً في ما يتعلّق بالتكوينات والتمارين الجماعية، كونها تمنح فضاءً مؤاتياً للّقاء وتبادل الخبرات. ينبغي هنا التسطير على الفرق الشاسع بين "فيلم التربية" و"الفيلم التربوي"، بناءً على المذكور أعلاه، فـ"فيلم التربية"، في أدبيات منظّمي المهرجان، يتناول بمنظور مخرجيه القضايا الرئيسية المتعلّقة بالتعليم والطفولة والشباب، وتمرير الثقافة بين الأجيال، ومكافحة كلّ أشكال التمييز. تستهدف هذه الأفلام التخييلية، أو الوثائقية، بأشكالها كلّها (واقع حيّ، أو سينما تحريك)، جمهوراً واسعاً من أولياء الأمور والمعلّمين والفاعلين في المجتمع المدني، والسياسيين والسلطات المحلية والمواطنين عامة.

كما يعمل المهرجان على خلق وضعيات تربوية وتعليمية، تُمكّن الشباب من اكتشاف صُوَر وقصص جديدة، وتطوير أخرى تتعلّق بتجربتهم. أيضاً، تُمثّل الأيام الخمسة للمهرجان في بلدة "إفروه" مساحة مُعتَبرة للتبادل والاحتكاك، وفضاءً لبناء الروابط بين المتدخّلين في مجال التعليم، ومنصّة لتطوير "التعليم الشعبي"، تجمع بين فعل "مُشاهدة" الأفلام وفضيلة "النقاش"، ما يسمح بتسليط أضواء جديدة على ثيمات التعليم.

 

 

لعلّ استعراض لائحة الأفلام المشاركة في الدورة 19 (5 ـ 9 ديسمبر/كانون الأول 2023)، في المسابقتين الرسميتين للأفلام التخييلية، كـ"خطوط النمر" للماليزية آماندا نيل، و"إن شاء الله ولد" للأردني أمجد الرشيد، أو الأفلام الوثائقية، كـ"منسيّو النجمة الجميلة (Les Oublies De La Belle Etoile) للفرنسية كليمانس دَفيغو و"كذب أبيض" للمغربية أسماء المُدير، يكفي لإعطاء نبذة عن نوع الأفلام التي يتمّ اختيارها، لخلق نقاش حيوي وخلّاق بين المهرجانيّين، حول ثيمات عدّة، كالعيش المشترك، والعلاقة مع الدين، وحقوق المرأة والأقليات، إضافة إلى مفهوم الذاكرة وجروح التاريخ التي لم تندمل، بعيداً عن الفكرة الملساء والمعقَّمة، المرتبطة بالأفلام التربوية في المجتمعات العربية.

إضافة إلى عرض الأفلام، وتنظيم موائد مستديرة وجلسات نقاش، تُركّز على التحدّيات البيئية والثقافية التي يطرحها العالم المعاصر، يحرص المهرجان على خلق برامج لفائدة الشباب، من أهمها: "مسار الناقد الشاب"، الذي تُعِدِّ فيه ورشات تكوينية تلاميذَ عديدين على خوض تجارب أولى في التعبير عن انطباعاتهم حول الأعمال السينمائية (من دون أيّ رقابة مسبقة من المنظّمين، مهما بلغت حدّتها، أو أسلوبها اللّاذع في نقد الأفلام)، وصوغها ثم مشاركتها على موقع المهرجان، أو في أشكال رسمية مبتكرة على لوحة مُعدِّة لهذا الغرض، في مدخل مجمّع "باتي"، حيث ينعقد المهرجان. هناك أيضاً فضاء مخصّص للقاء المشاركين (سينمائيين ونقاداً وتربويين) مع شباب يتقمّصون دور المراسلين الصحفيين لطرح الأسئلة، مع تسجيل اللقاءات، وتوفيرها للمستمعين على شكل "بودكاست"، على "بلُوغ" المهرجان.

إنها ثقافة التقاسم والتمرير بين الأجيال، التي تمثّل الخيط الناظم لكلّ الأنشطة، وتجد امتدادها في شعار المهرجان الذي يجسّد شخصاً بالغاً يمدّ يده على شكل سلّم، ويصعد فوقها طفلٌ ليبلغ نقطةً أعلى؛ خاصةً في برنامج "أصداء المهرجان"، الذي يحرص على نشر طرح الأعمال المتوّجة في منطقة "نورماندي"، وكلّ فرنسا، ومناطق في أوروبا والعالم، من خلال عروض وإصدارات (كتب، أقراص أفلام) لامركزية، تُقام على مدار العام.

غياب مهرجانات كهذه عن لائحة التظاهرات المنظَّمة في المنطقة العربية، على كثرتها النسبية في المغرب مثلاً، يوضح حجم التأخير وسوء الفهم اللذين لا يزالان يطبعان علاقة التربية بالسينما في بلداننا. لا نزال بعيدين عن تمكين هذا الفنّ العظيم من وسائل لعب دوره كاملاً في تنمية أذواق المتلقّين، وشَحْذ حسّهم النقدي، وفتح آفاق أوسع لتطوير ثقافتهم وقابليتهم لنقاش القضايا الإنسانية والاجتماعية التي يطرحها عصرهم، وابتكار حلول خلّاقة لمعالجتها.

المساهمون