إعصار الغلاء يغيّر أنماط الغذاء في تونس والمغرب والجزائر

إعصار الغلاء يغيّر أنماط الغذاء في تونس والمغرب والجزائر

08 سبتمبر 2023
قفزات هائلة في أسعار الوجبات الغذائية (ياسين غادي/ الاناضول)
+ الخط -

باتت عادات التونسيين الغذائية رهينة العرض المتوفر في السوق وقدرتهم على الإنفاق بعد أن كانوا من بين الشعوب المهدرة للغذاء.

وبسبب أزمة التموين وارتفاع الأسعار يُجبر التونسيون على تغيير أنماطهم الاستهلاكية والجنوح نحو التقشف الاضطراري والاستغناء عن الأطباق المكلفة وأشكال التبذير.

غياب السلع في تونس
تغيب عن أسواق تونس منذ أشهر مواد تموينية متعددة ومن أبرزها القهوة والشاي والأرز إلى جانب اضطراب في التزويد بالمعجنات والخبز وارتفاع أسعار الخضروات والغلال ومختلف أنواع اللحوم والأسماك.
وعموما يعتمد التونسيون بشكل مكثف في أطباقهم اليومية على المعجنات وأصناف من الخضر حسب المواسم إلى جانب تزودّهم بمصادر البروتيينات عن طريق البيض الدواجن واللحوم الحمراء بدرجة أقل وهي مواد تحقق التوازن الغذائي لمختلف الشرائح الاجتماعية بسبب تنوع الأطباق وثراء مخزون المطبخ التونسي.
ويقر تاجر الخضروات في سوق سيدي البحري الشعبي بالعاصمة تونس، محمد النصري، برصد تحولات في سلوك التونسيين الاستهلاكي، مؤكدا أن أغلب زبائنه يعتمدون سياسات تقشفية مع ارتفاع الأسعار ويكتفون بالحد الأدنى من المقتنيات.

ويقول النصري في حديثه لـ"العربي الجديد": "أعمل بسوق سيدي البحري منذ ما يزيد عن 20 عاما وهو سوق يقصده التونسيون من مختلف الشرائح الاجتماعية ويجد فيه الجميع ضالتهم لتنوع العرض والأسعار، غير أن نقص السلع وارتفاع الأسعار أصبح هاجسا يسيطر على كل المواطنين ما يدفعهم للبحث عن حلول لطبخ أطباق بأقل كلفة ممكنة".
ويؤكد المتحدث استغناء شريحة واسعة من التونسيين عن اللحوم الحمراء والأسماك مرتفعة الثمن وتعويضها بلحوم الدواجن والبيض والبقول التي ارتفعت أسعارها أيضا تحت تأثير الجفاف وزيادة كلفة الإنتاج.
وتابع "أغلب زبائن السوق يكتفون بالحد الأدنى من حاجياتهم من الغذاء وتخلوا عن الإسراف في الإنفاق".
ولم تهدأ أزمة شح السلع الأساسية في السوق التونسية خلال العام الجاري، بصدارة القمح والطحين، في وقت تتهم الدولة جهات باحتكار هذه السلع بينما يجمع الخبراء على أن الصعوبات المالية التي تمر بها الدولة، هي أبرز سبب وراء استمرار ندرة المواد الغذائية في الأسواق المحلية.
ويورد الديوان التونسي للتجارة (حكومي) سنويا أكثر من 3500 حاوية من المواد الغذائية من بينها أكثر من 1000 حاوية لمادة الأرز، حيث يبلغ الاستهلاك الوطني السنوي من مادة الأرز حوالي 27 ألف طن.
ويحتفظ الديوان بمخزون استراتيجي في حدود شهرين ونصف من الاستهلاك الوطني أي ما يعادل 6 آلاف طن موزعة بين مخازن الديوان على كامل أنحاء البلاد ووحدات التعليب والموانئ.
ويؤكد رئيس منظمة إرشاد المستهلك، لطفي الرياحي، حصول تغيرات في السلوك الاستهلاكي للتونسيين منذ بداية أزمة التموين، مرجّحا أن يتحوّل ذلك إلى سلوك دائم سيما فيما يتعلّق بهدر الغذاء.
وأكد الرياحي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن الاستبيانات التي تقوم بها المنظمة حول عادات التونسيين الغذائية وعلاقتهم بالطعام أكدت أن ظاهرة الهدر الغذائي تراجعت بشكل لافت، حيث باتت الأسر أكثر حرصا على تقليص الغذاء أو التقليص من عدد الوجبات. وأفاد في سياق متصل بأن أغلب الأسر باتت تميل إلى الأطباق الأقل كلفة.
وتابع: "للأزمة فوائد رغم قسوتها، من ذلك اتجاه الأسر نحو التقشف في الغذاء والسيطرة على النفقات وعدم هدر الغذاء الذي كان يكلّف التونسيين الكثير".
وقال: "مستقبلا لن يهدر التونسيون الخبز الذي يضطرون للوقوف يوميا في الطوابير من أجل الحصول عليه".
ويرى رئيس منظمة إرشاد المستهلك أن إعادة تصنيف المنتجات الزراعية والغذاء أصبحت أمرا ضروريا من أجل توفير عرض متنوّع يتلاءم مع القدرات الإنفاقية لمختلف الشرائح الاجتماعية.
كما يؤكد الرياحي على ضرورة حوكمة التونسيين لنفقات الغذاء وإعادة النظر في سلوكهم تجاه الطعام في ظل التحديات المناخية التي تواجهها البلاد وتأثير الجفاف على المحاصيل.

وأظهر آخر تقرير يتعلق بإهدار الطعام في العالم نشره برنامج الأمم المتحدة البيئي، الخاص بعام 2021، أن التقديرات المتعلقة بتونس تشير إلى أن نصيب الفرد في البلاد هو 91 كيلوغراماً من الطعام المهدر سنوياً.
وتظهر بيانات المعهد الوطني للاستهلاك (حكومي) أن الخبز يأتي في مقدمة المنتجات التي يتم تبذيرها بنسبة 15.7 في المائة وقد بلغت نسبة إهدار الدقيق لإنتاج الخبز لدى المخابز عام 2017 حوالي 686 ألف طن، أي ما يعادل 10.4 في المائة من كميات الدقيق المدعوم.
كما يهدر التونسيون 10.2 في المائة من منتجات الحبوب و6.5 في المائة من الخضروات و4.2 في المائة من الغلال. في المقابل، تظهر الدراسات أن حوالي 600 ألف تونسي يعانون من سوء التغذية.

ضغط النفقات في المغرب
في المغرب أُجبرت أسر على الضغط كثيرا على نفقاتها في شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، لأنها مدعوة مع الدخول المدرسي على تأمين الكتب لأبنائها وأداء واجبات التمدرس في المدارس الخاصة، حيث ستوجه إيراداتها وحتى مدخراتها لتحقيق ذلك الهدف الذي أضحى هاجسها الرئيسي، بعدما كان الإنفاق على الغذاء الذي ارتفعت أسعاره على رأس انشغالاتها.
في الشهر الحالي توجه الأسر الجزء الأكبر من إيراداتها لتكاليف الدخول المدرسي. فقد سبق للبحث الوطني حول الأسعار المنشور قبل خمسة أعوام، وأكد أن أسعار التعليم ارتفعت بـ في المائة 44، حيث زادت بوتيرة أسرع ثلاث مرات من مؤشر أسعار الاستهلاك، الذي استقر في حدود 15 في المائة.
تلك نفقات لا يمكن للأسر الإفلات منها، كما أن الغذاء الذي شغل الأسر كثيرا في ظل ارتفاعات غير مسبوقة لأسعار اللحوم الحمراء، حيث بلغت في بعض الفترة عشرة دولارات للكيلوغرام، دفع الأسر ذات الدخل المحدود إلى خفض استهلاكها لهذه السلعة.
ولاحظ رئيس الجمعية الوطنية لمربي دجاج اللحم بالمغرب، محمد عبود، في حديثه لـ"العربي الجديد" أنه رغم انخفاض أسعار الدواجن إلى 1.6 دولار للكيلو غرام بعدما بلغت 2.5 دولار قبل عام، غير أنها ظلت مرتفعة، حيث إن الأسر لم تجد فيها، كما في مناسبات سابقة، تعويضا عن اللحوم الحمراء.
ويذهب رئيس الجامعة المغربية لجامعات المستهلك، مديح وديع، إلى أن الغلاء الذي ضرب العديد من السلع، يجبر الأسر على إعادة النظر في بنية السلع والخدمات التي تستهلكها، بما يساعدها على مراعاة إيراداتها التي تتأثر بالتضخم.
ويشير وديع في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن الأسر تعمد إلى التخلي أو تقليص بعض نفقاتها، خاصة ذات الصلة بالسفر والترفيه، كي تتمكن من تسخير إيراداتها، بعد الوفاء بمستحقات استئجار أو الأقساط الشهرية لقروض المساكن وتكاليف مدارس الأبناء، لتأمين الغذاء.
واعتبر أن بعض الأسر قد تعمد إلى خفض كميات مشترياتها من الغذاء في ظل الغلاء، حيث تقتصر على الضروري منه، وهو ما تجلى منذ الأزمة الصحية التي أثرت على إيرادات الأسر الفقيرة والمتوسطة.
ويلاحظ المسؤول عن محل تجاري بالدار البيضاء، توفيق فرتوح، خلال حديثه لـ"العربي الجديد" أن الإقبال على شراء الألبسة في ظل الغلاء، أجبر العديد من الأسر على المراهنة على موسم التنزيلات بهدف الاستفادة من عروض تتيح لها توفير ألبسة لها ولأبنائها.
ويعتبر أن انتعاش الإقبال الذي شهدته سوق الألبسة بعد الجائحة، عاد ليتباطأ بسبب ارتفاع أسعار بعض المدخلات، ولجوء الأسر إلى تغليب الإنفاق على حاجياتها الأساسية اليومية الملحة المتمثلة في الغذاء والنقل.
ويتجلى من بيانات المندوبية السامية للتخطيط، أن أسعار السلع الغذائية تقود الارتفاعات في العام الحالي، متبوعة بالمطاعم والفنادق والتعليم والملابس والأحذية والأثاث والأدوات المنزلية والصيانة العادية.

وأشار البنك الدولي في تقرير له في فبراير/ شباط الماضي إلى أن معدل التضخم السنوي بالمغرب كان أعلى بنسبة الثلث تقريبا بالنسبة لأفقر 10 في المائة من السكان، بالمقارنة مع أغنى 10 في المائة من السكان، حيث يعزو ذلك في المقام الأول إلى آثار زيادة أسعار الغذاء التي تستحوذ على نسبة أعلى من إنفاق الأسر الأكثر فقرا.
ويعتبر أن التضخم السنوي قد يكون أعلى بنسبة 30 في المائة للشريحة العشرية الأفقر من توزيع الدخل مقارنة بالفئة الأكثر ثراء، مشيرا إلى أن فروق التضخم ترجع في الغالب إلى تأثير ارتفاع السلع الغذائىة، والتي تمثل حصة أكبر من سلة استهلاك الأسر الفقيرة.
ويظهر أن أسعار السلع الغذائية كانت حاسمة في مستوى التضخم، حيث ارتفعت بنسبة 11.7 في المائة منذ بداية العام الجاري، فيما زادت أسعار السلع غير الغذائية بنسبة 0.4 في المائة، علما أن هذه الفئة من السلع ينتظر أن ترتفع أكثر في سياق متسم بارتفاعات متتالية لأسعار الوقود.
ويرى 98.1 في المائة من الأسر أن أسعار السلع الغذائية ارتفعت في الاثني عشر شهرا الماضية، ويترقب 72.5 في المائة من الأسر استمرارها في ذلك المنحى في الاثني عشر شهرا المقبلة، حسب دراسات رسمية.
وأكد 53.4 في المائة من الأسر المشاركة في البحث الفصلي الذي نشر في يوليو/ تموز الماضي، أن إيراداتها تغطي نفقاتها، بينما يشير 44 في المائة إلى لجوئها من أجل تغطية نفقاتها إلى الاستعانة بمدخراتها أو الاستدانة في الاثني عشر شهرا المقبلة.

إعصار الغلاء في الجزائر
لم تصمد أسعار المواد الغذائية واسعة الاستهلاك كثيرا أمام إعصار "ارتفاع الأسعار" الذي عصف بجميع أسواق الجزائر، ما جعل المواطنين يراجعون حساباتهم ويعيدون رسم "خريطة إنفاقية جديدة"، تُمكنهم من اجتياز يومياتهم بأخف الأضرار، في بلد يُقدر فيه الأجر الوطني الأدنى المضمون بـ 20 ألف دينار جزائري (148 دولارا) فيما يبلغ متوسط الأجور فيه بين 25 ألف دينار و 30 ألف دينار(222 دولارا).
وفي جولة ببعض الأسواق في العاصمة الجزائرية، استطلعت "العربي الجديد" طرق تسيير الجزائريين للميزانية المخصصة لشهر سبتمبر/أيلول، الذي يحمل موعداَ مهماَ وهو الدخول المدرسي، ما يعني مصاريف إضافية ترهق جيوب الجزائريين، بالموازاة مع تسجيل الأسعار ارتفاعا جنونيا في الأسبوع الأول من الشهر، حيث بلغ سعر الجزر 70 دينارا والطماطم 150 دينارا، في حين سجلت أسعار اللحوم الحمراء ارتفاعا دفع بسعر لحم البقر إلى 1800 دينار للكيلوغرام الواحد و2200 للحم الغنم و520 دينارا للدجاج.
يكشف المتقاعد الحاج عبد القادر موسى الذي التقته "العربي الجديد" في سوق "القبة" بالعاصمة الجزائرية أنه "يخصص عادة ما بين 15 ألف دينار الى 20 ألف دينار للمواد الغذائية شهريا، وذلك منذ سنوات". ويضيف موسى أن "قُفة" المشتريات فقدت بعضا من وزنها بسبب غلاء الأسعار مقارنة مع السنوات الماضية، أما الكماليات كالأجبان والعصائر والمكسرات، فقد خرجت رسميا من قائمة الاستهلاك.
ويوضح أن "الأسر راجعت حتى قائمة الأساسيات والضروريات، فقلصتها الى زيت المائدة، الملح، السكر، سمن الطهي، البصل، البطاطا، وبعض العجائن فقط".
وهي نفس الملاحظة التي وقفت عليها مدرسة في الابتدائي، السيدة ربيعة، التي أكدت لـ "العربي الجديد" أن "الميزانية التي تخصصها هي وزوجها لشراء الخضر والفواكه واللحوم، لن تصمد كثيرا مقارنة مع السنوات الماضية، فكل المواد عرفت ارتفاعا في الأسعار بين 10 في المائة وصولا إلى 50 في المائة، ما كُنا نقتنيه أسبوعيا بقيمة 5 آلاف دينار أصبحنا نشتريه بـ 8 آلاف دينار، إذاً ارتفعت فاتورة المقتنيات وتقلص الحجم والكم".

وأضافت المتحدثة لـ "العربي الجديد" أنه "حتى المواد الغذائية واسعة الاستهلاك التي كانت ملاذا للأسر، كالبقوليات هي الأخرى خرجت من قفة العائلات الغذائية بعدما قفزت أسعار بأكثر من 100 في المائة، وحتى البيض لم يسلم من المقصلة، بعد ارتفاع سعره من 10 إلى 23 دينارا للحبة الواحدة، وأصبحنا نشتري عددا أقل من عشر وحدات بعدما كنا نشتري علبا ذات سعة 30 حبة".
وحسب دراسة قام بها أستاذ العلوم الاقتصادية في جامعة الجزائر جمال الدين بركان، فإن الأسرة المتكونة من 5 أفراد تحتاج إلى 40 ألف دينار جزائري لضمان احتياجاتها من المواد الغذائية طيلة شهر كامل.
ويرجع بركان في حديث مع "العربي الجديد" هذا الرقم إلى عاملين أساسين هما "انخفاض قيمة الدينار وارتفاع التضخم الذي بلغ 9 في المائة حسب أرقام الحكومة هو رقم مشكوك فيه، وهما عاملان أثرا على القدرة الشرائية للمواطن الجزائري".
كما ينضم الأستاذ الجامعي إلى المنادين بمراجعة سلم الأجور في البلاد، إذ يؤكد جمال الدين بركان لـ "العربي الجديد " أن الرواتب في الجزائر أكلها انهيار الدينار " وهو ما يجعل الخبير الاقتصادي يبدي تخوفه من انهيارٍ بات وشيكا للقدرة الشرائية للمواطن الجزائري" .
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي والمستشار المالي، عبد الهادي قدوري، إن "الدينار تراجع بقرابة 36 في المائة في السنوات الأخيرة، وبعملية حسابية بسيطة نضيف حجم التراجع أو "التعويم" حتى نكون أكثر دقة، لحجم التضخم البالغ 9 في المائة حسب أرقام الحكومة المشكوك فيها، فنجد أن معدل الأسعار ارتفع بواقع 45 في المائة، أي بطريقة أخرى رواتب العمال تراجعت بـ 45 في المائة".
وأضاف الخبير الجزائري في حديث مع "العربي الجديد" أن "جيوب المواطنين تفقد دوريا من قدرتها الشرائية وتقترب بسرعة من الانهيار".

المساهمون