لويز غليك.. مسارات القصيدة الجارحة

11 أكتوبر 2020
لويز غليك في بورتريه لـ يوتوبيست
+ الخط -

"الولادة وليس الموت، هي الخسارة الفادحة" بهذه الحدّة الجارحة يمكن فهم دلالة قصائد الشاعرة الأميركية لويز غليك (نيويورك، 1943)، الحائزة "نوبل للآداب" الخميس الماضي، صاحبة "الصوت الشعري المميّز الذي يُضفي بجماله المجرّد طابعًا عالميًا على الوجود الفردي"، كما جاء في بيان "الأكاديمية السويدية".

تكشف المقولات الشعرية المبكّرة لصاحبة ديوان "الحديقة" (1976) عن صراعات عميقة تسائل الموت والخسارة والرفض وفشل العلاقات ستلازم أعمالها لخمسة عقود في كتابة شعر غنائي يراوح بين الحكي الشعري الكاشف عن مسيرة الحياة الشخصية والمخيال الشعري المفعم بالغنائية ذات الدقة اللغوية التي تعتني بالمفردة في شكلها المطلق، والنبرة الصارمة في قصائدها، حيث تعتمد بشكل كبير على تكرار المفردات بشكل إيقاعي متوحّش يتحدّى كل المحاولات لتأطيره واحتوائه. 

تقول في إحدى قصائدها:
"أمام البيت ابنة أُختي تركب دراجتها الهوائية
مثلما فعلت العام الفائت
ذهابًا ومجيئًا على الرصيف
ما تريده حقاً
هو تمرير الوقت".

مثّلت الاعترافية إحدى أبرز سمات قصائدها بسبب كثافة استخدام الإشارات للأشخاص والأحداث المؤسسة الأولى في حياتها بالإضافة إلى إشاراتها الحميمة على طريقة شعراء الاعتراف سيلفيا بلاث وجون بيريمان، إلا أن أسلوبها في استخدام الأساطير وتوظيفها للرموز الميثولوجية في قصائدها جعل قصائدها أكثر من مجرّد اعترافات تتحجّر عند حدود الذات والذاكرة، بل تجاوزت ذلك باستدعاء ما يمكن اعتباره بناء شعريًا يؤسطر الواقع بالتحليق الشعري ويهبط بالأسطورة إلى الواقع.

تحتوي أعمالها على العديد من التمثلات العاطفية القاسية

لكن الثابت في شعر الحائزة جائزة البوليتزر عام 1992 عن مجموعتها "السوسنة البرية" هي أنها تحتوي في أعمالها على العديد من التمثلات العاطفية القاسية، لتبدو في نهاية الأمر وكأنها تواجه وحوشًا في روحها، وفي أرواح الآخرين، ليس بالاستسلام والنصائح العلاجية الكامنة ولكن بالمواجهة التي تشبه تمزيق اللحم بالسكاكين.

تقول:
"لدي سيّد في السماء
يدعى الشمس
أشرّع له نفسي
أريه نيران قلبي
النيران التي تماثل حضوره
ماذا يمكن أن نسمّي هذا المجد إن لم يكن قلباً؟
آه يا إخوتي وأخواتي
أكنتم مثلي يوماً، منذ زمن سحيق
قبل أن تصيروا بشراً؟
أشرّعتم أنفسكم مرّة، وأبت أن تشرّع ثانية؟ 
لأنني في الحقيقة أتكلم الآن مثلكم
أتكلم
لأنني مهشمة مثلكم".

تظهر فكرة الصدمة في أعمال صاحبة "الحياة الجديدة" (1999) كثيمة ثابتة تواجه من خلالها مفاهيم الفناء والخسارة والمقاومة وفشل العلاقات ومحاولات التشافي والتجديد. ويلاحظ نقّاد أن القصيدة التي تُستخدم فيها صور تقليدية سعيدة أو شاعرية تبدو في مكان آخر "توحي بإدراك الفناء، وفقدان البراءة". وكأن "هذا الإحساس الذي يقارب النهاية" يغمر قصائدها "بقوّتها الاسترجاعية للذاكرة"، في إشارة إلى تحويلها للأشياء الشائعة، مثل عربة الأطفال وهي تحيلها ببراعة لواحدة من تمظهرات الوحدة والخسارة في القصيدة. 

قصائدها أكثر من مجرّد اعترافات تتحجّر عند حدود الذات

ومع ذلك، بالنسبة إليها، يمكن القول إن الصدمة هي بوابة لتقدير أكبر للحياة، وهو مفهوم ربما تم استكشافه بشكل واضح في ديوان "انتصار أخيل" (1985). الانتصار الذي يلمح إليه العنوان هو قبول أخيل للفناء، والذي يمكّنه من أن يصبح إنسانًا. تقول في إحدى قصائده:
"لا فرق حقًا بين تحضير شخص
للنوم أو الموت
الهدهدات -الكل يقولون: لا تجزعي
هكذا يعيدون صياغة نبض الأم
فالأحياء الآن يهدأون على مهل
وحدهم المحتضرون لا يسعهم ذلك
يرفضون".

تتحوّل العلاقة بين الحياة والموت كقوى متعارضة في أعمالها إلى موضوع آخر مشترك لها: الرغبة. غالبًا ما تنغمس بالبحث وتأمل أشكال الرغبة، الرغبة في الحب والاهتمام واستبصار القدرة على نقل الحقيقة - لكن نهجها في الرغبة يتميّز بالتناقض. يجادل نقّاد بأن قصائد غليك، التي غالبًا ما تتبنّى وجهات نظر متناقضة، تعكس "علاقتها هذه مع المكانة والسلطة والأخلاق والجنس، والأهم من ذلك كله، اللغة". في حين تم وصف هذا التناقض تجاه الرغبة كنتيجة لحالة من حالات "الاستجواب الذاتي الشاق". 

يتجلّى التوتر بين الرغبات المتنافسة في عمل غليك في افتراضها لشخصيات مختلفة ومتناقضة من قصيدة إلى قصيدة وفي نهجها المتنوّع لكل مجموعة من قصائدها وهو ما يظهر جليًا في مجموعتها "أرارات" (1990) وهي مجموعة صغيرة من قصائد السيرة الذاتية، التي تحاول من خلالها تأمّل فكرة الصراع بعد وفاة الآباء. ومجموعتها "القزحية المتوحشة" التي تدور حبكتها في حديقة تتمتّع الأزهار فيها بأصوات ذكية وعاطفية تتبدّل فيها الفصول ووتوقف عند شتائها. وقد دفع نقاد كثر إلى إعلان أن "التغيير هو أعلى قيمة بالنسبة لها" و"إذا كان التغيير هو أكثر ما تتوق إليه، فهو أيضًا أكثر ما تقاومه، والأكثر صعوبة بالنسبة لها، والأكثر صعوبة في تحقيقه". 

يتجلى ذلك أيضًا في مجموعتها "أفيرنو" (2006) التي تستعير عنوانها من اسم فوهة بركان صغيرة في جنوب إيطاليا، اعتبرها الرومان القدماء مدخلًا إلى العالم السفلي، يعطي هذا المكان اسمه للمجموعة العاشرة في منظر طبيعي تحوّل إلى حالة الشتاء بشكل لا رجعة فيه، إنه بوابة أو ممر يؤمّن حركة المرور بين العوالم بينما يقاوم في نفس الوقت التصالح بينهما. 

"أفيرنو" عبارة عن رثاء ممتد، عبر قصائد طويلة مضطربة لا يسلبها فقدان العزيمة والاستسلام للمآلات والحزن سحرها، إنه ليس خريطة للتنقل بين عالمين متناقضين، بل رسم تخطيطيّ مفعم بالشعرية لمكان وجودنا الحاضر المروّع المليء بالثنائيات والتناقضات.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون