"بين معبرَين" وشهيدين: اعتذارية الخروج من السجن الكبير

"بين معبرَين" وشهيدين: اعتذارية الخروج من السجن الكبير

28 مارس 2024
من الفيلم
+ الخط -
اظهر الملخص
- فيلم "بين معبرين" يروي قصة نور الغصين، الفتاة الفلسطينية التي تغلبت على الصعاب للدراسة في الولايات المتحدة، مع تسليط الضوء على الحياة القاسية في غزة والتحديات الكبيرة للخروج من القطاع.
- الفيلم، من إخراج ياسر مرتجى وإكمال رشدي السراج، يقدم لمحة عن الحياة اليومية في غزة، ويعكس الواقع المرير للفلسطينيين تحت الاحتلال، مؤكداً على الأمل والإصرار في مواجهة الظروف القاهرة.
- "بين معبرين" يعد شهادة على الإرادة الإنسانية والقدرة على الحلم وتحقيقه حتى في أصعب الظروف، محتفياً بالهوية الفلسطينية والروح النضالية، ويقدم رسالة ضد النسيان والتجاهل، مؤكداً على أهمية الذاكرة والهوية.

حين نشاهد فيلم "بين معبرين"، في مرافقته الحثيثة لفتاة تقاتل، كي تخرج من غزّة للدراسة في أميركا نعثر على فلسطينيين يمكن القول إن الناجي منهم مصاب إصابة مزمنة.

هذه الفتاة، نور الغصين، خرجت بالفعل عام 2018 من السجن الكبير، وبعد ذلك عرفت عند بدء دراستها في جامعة بورتلاند أن مخرج الفيلم ياسر مرتجى استشهد يوم 6 إبريل/ نيسان 2018، أثناء تصويره إحدى مسيرات العودة.

بقيت المواد الخام جاهزة لتكون فيلماً. لا يوجد ما يمكن تصويره بحضور نور فهي أصبحت خارج البلاد. تحتاج المواد فقط إلى آخر اللمسات من مونتاج ومعالجة صوت وموسيقى وما إلى ذلك.

هذا ما تولاه رشدي السراج مصور الفيلم وشريك مرتجى في تأسيس شركة "عين للإنتاج الإعلامي"، وسيصدر الفيلم عام 2018، وسيكون أحد الأعمال الجيدة والمختلفة في حساسيتها عن كثير من الإنتاجات الوثائقية. لم يكن مرتجى موجوداً في العرض الأول وإلى الأبد.

أيّ قطع في الحياة هو مونتاج وجودي يعيد القصة من جديد 

فصلت قصة الفيلم عن السابع من أكتوبر 2023 سنوات خمس، كان الموت فيها أقل فجوراً من الإبادة الصهيونية لمن سمّتهم "العماليق"، ومن سمّت محيط قطاعهم بـ"منطقة القيامة".

سقط شريط أسود جديد على صورة من ألبوم العائلة الفلسطينية يوم الثاني والعشرين من أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي واستشهد في قصف حيّ تل الهوا مصور الفيلم رشدي السراج.

فيلم وثائقي طويل في غزّة يمكن أن تعثر عليه كل يوم لو تركتَ كاميرا الشارع تصور وقائع يوم غزاوي. حتى لو لم تعد هناك شوارع وبدت الجغرافيا كأن زلزالاً ضربها فلم يُبق ولم يذَر يواصل الناس بموبايلاتهم إثبات وجودهم، والمراهنة على بقائهم في الذاكرة وعلى إمكانية وخز الضمير.

الصورة
ياسر مرتجى ورشدي السراج
ياسر مرتجى ورشدي السراج

نتابع فيلم "بين معبرين" لنرى أيام الطالبة الحالمة الغاضبة الباكية، وهي تتوسل معبري بيت حانون ("إيريز") شمالاً ورفح جنوباً، كي تخرج، وفي يدها ورقة القبول في جامعة بورتلاند وكل أوراقها الثبوتية.

لكننا نرى ما خلف الكاميرا، يصبح كل واحد منا مُخرجاً ويدفع برفق هؤلاء الذين لا يظهرون إلى الكادر الأمامي الذي تتحرك فيه نور.

ومن بينهم هذان الشابان، وفي مصادفة حارقة سيستشهدان مع فارق السنوات الخمس بين 2018 و2023 في عمر واحد: 31 سنة، وهما سيكونان فاعلَين أمام الكاميرا، لأنهما موجودان حقيقةً في الفيلم الوثائقي طويل المدى. أيّ قطع في الحياة هو مونتاج وجودي يعيد القصة من جديد، ويعيد التأكيد بقوة على أنهم لم يكونوا أرقاماً، والجميع هنا يريد تصوير الجميع.

تغريدة من بضع كلمات عام 2018 وفيها ياسر مرتجى يدعو الله أن توفق نور في الخروج من غزّة. وفي لقاء مع المونتير محمود أبو غلوة يقول لمنصة "أفلامنا" إن ياسر كان يتمنى السفر عن طريق معبر رفح، ثم يعود مكسوراً في كل مرّة.

ولقد تصادف وجودهما عند المعبر دون أن يخبر أحدهما الآخر بنيّة السفر، ورجع الاثنان خائبين، وقال مرتجى إنه سيذهب لتصوير مسيرة العودة، وحين يعود سيعمل على الانتهاء من فيلم "بين معبرين" غير أنه ذهب ولم يعد، إذ اخترقته طلقة متفجرة في تلك الجمعة المعروفة باسم "جمعة الكوشوك". 

 كان حلمه أن يرى غزّة من نافذة طائرة. هذا الحلم الأقصى على آخر جدار مظلم من حجرة الرأس، يجرّب ذلك بخيال جامح لمن يعيش في مكان مختنق يعرف أن آخر ما يمكن فعله هو الذل الروتيني على معبر رفح، والمصادفة التي قد تسنح، والإمكانية المالية التي تذهب للمرتشين وتجّار الأرواح.

وما أُمنية المُخرج للطالبة القلقة الباكية الغاضبة أن تخرج سوى تعويض عن حلمه المهدور. فهي تملك بيدها قبول الجامعة، وليس لديها سوى أسبوعين لتأمين المرور عبر الحصول على موافقات إسرائيلية وأردنية إن كان العبور عن طريق "إيريز".

وحين تفشل أول مرة تذهب إلى الجنوب، كأنها نازحة نحو معبر رفح، وتحشر مع الآلاف في قاعة أبو يوسف النجار في خانيونس بانتظار الحظ والباص الذي ينقل المسموح لهم، ونراهم ونرى أكداس البشر من خلال المشاهد المتوالية كائنات وحشية لا تلتقطهم الكاميرا إلا من خلال شبك حاجز وقضبان مسننة.

مثلما تقول نور عن غزّة التي تحبها وتشعر فيها بالأمان، يشيع دائماً تعبير أهل القطاع عن ذلك، وأحياناً بمبالغات شعرية، وبدا لي أن مظلومية المكان المحشور بقسوة بين "إسرائيل" ومصر تجعل الخارج منها يتحدث بلغة اعتذارية. هو لا يريد أن يكون إضافة أخرى للتنكيل الذي يتعرّض له مكانهم الصغير.

لا يريد أن يزهو بنجاته. والنجاة حمّالة أوجه، لا تقع بين ثنائية "الخارج مولود والداخل مفقود"، ولا يجوز أن تتحوّل غزّة إلى لعنة، بل المكان الذي يمكن فيه الحلم والبناء على حافة الجحيم.

كان من الممكن الحديث مباشرة عن الفيلم، غير أن فضيلة هذا العمل الكبرى أنه يفتح طريقاً إلى رؤية البشر من خلال كاميرا أليفة تجعل الناس ينسون وجودها. وقد فعل هذا بجدارة شابان غادرا عالمنا وتركا أثراً بيد عزلاء ضد الموت والغطرسة.

من السهل توافر كم هائل من المواد الوثائقية، التي قد لا تضمن العدالة إلا أنها تمنع مستمسكات الجريمة المستمرة من الإفلات.

أما إدارتها بهدوء فنّي فتنتج نوعاً من الأفلام مثل "بين معبرين"، وقد أفلح القائمون عليه في جعل نور وعائلتها ورفاقها يعيشون أيامهم بتلقائية، هذه التي تقاوم الصمت وهي محكومة منذ حصار غزّة وفي ما يوصف بالأيام العادية، بصوت الزنّانة اللئيم المطبق، وستجعلهم يحلّقون بأجنحة مكلومة.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون