ملف: بين الحجاب والبكيني وثقافة قبول الآخر (19)

ملف: بين الحجاب والبكيني... هل نملك ثقافة قبول الآخر؟ (19)

15 يونيو 2023
+ الخط -

على الصعيدين الإنساني والأخلاقي، لا تحق لأحد مصادرة حرية الآخر، وهناك عدد من البنود في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتعلّق بالحريات والحقوق وغير ذلك. لكن، على أرض الواقع، الأمر مختلف إلى حدٍّ كبير؛ فالدين والمجتمع والأسرة والقانون وغيرها، تصادر حتى الحرية الشخصية، إلى درجة أنّ الشخص الذي يمارس حريته قد يتعرّض للنقد اللاذع والعنف الجسدي والنفسي، وأحياناً الموت.

في صيف 2009، عاد أحد الأصدقاء برفقة زوجته من أوروبا إلى مدينة اللاذقية بعد غياب سنتين تقريباً، وقام بدعوتي مع مجموعة من الأشخاص لسهرة في منزله. ثمّ، وفي حوالي الثانية بعد منتصف الليل، غادر الجميع ولم يبقَ سواي وصديق آخر، فاقترحت زوجته، التي تجمعنا بها علاقة صداقة أيضاً، أن نخرج ونمشي في شوارع اللاذقية، ثم نذهب لنأكل صحناً من الفول والفتّه في المكان ذاته الذي كنا نذهب إليه قبل سفرهما. 

مع لحظة خروجنا من المنزل، قال صديقي: "إنتي بتعرفي إنو المكان يلي رايحين عليه موجود في بيئة محافظة ومتدينة جداً، وبهيدا الوقت بظن كلّ زبائنه رح يكونوا ذكور؟".

نظرت الزوجة إليه متسائلة: "أي بعرف، بس شو مناسبة هالحكي؟!".

 فتدخل زوجها، وقال: "وجودك بعد منتصف الليل بلباسك هذا في بيئة محافظة ومتدينة، قد يثير مشكلة لك ولنا". 

فردّت: "الشورت فوق الركبة بشوي يعني مو قصير كتير، والكنزة نص كم ومانها مكشوفة كتير ع الصدر، ومن تحت مو مبين غير جزء صغير من بطني، بظن هيدا لباس عادي بالنسبة لمدينة سياحية متل اللاذقية". 

ردّ الزوج: "معكِ حق، عادي جداً بالنسبة إلى أكثر مناطق اللاذقية وأحيائها، ولكن الحي الذي سنذهب إليه محافظ للغاية، والفتيات الساكنات فيه محجبات ولا يخرجن بعد منتصف الليل إلا ما نَدر". 

قال لها: أنتِ التي تنادين بالحرية وقبول الآخر وتعتبرين نفسك مع الحريات وخاصة حرية المرأة، رفضتِ وبشدّة المرأة المختلفة عنك واعتبرتِ وجودها اقتحاماً لعالمك

بانزعاج ردّت: "هل تقصد أنه يجب عليّ أن أغيّر ثيابي؟!".

أجاب الزوج: "أنتِ حرة، ولكن يُفضَّل ذلك".

 في تلك اللحظة، وبلهجة حادة، قالت: "أنتم تلبسون شورتات أقصر مما ألبسه، وكنزاتكم تكشف عن أجسادكم أكثر مني، فلماذا لا تغيّرون لباسكم الذي يُعتبر مخالفاً للشرع وفق معايير تلك البيئة المحافظة والمتدينة؟! أين المساواة والعدالة والحرية التي تتبجحون بها؟ كلامكم هذا شكل من أشكال العنف اللفظي والنفسي وفيه قمع لحريتي الشخصية وتمييز على أساس الجنس، إلى متى ستبقى عقلية الرجل الشرقي في داخلكم أنتم الذين تدّعون الثقافة والتحرّر؟".

 وختمت حديثها بالقول: "سأغيّر ثيابي بشرط أن تفعلوا أنتم ذلك".

حُسم الأمر، ولم يُبدّل أيٌّ منا ثيابه. كنّا بنظر زوجة صديقي، ثلاثة ذكور مُدّعين للتحرّر، يمارسون سلطة القمع ومصادرة الحريات الشخصية للنساء.

مشينا باتجاه المطعم، ولعدّة دقائق لم ينطق أيٌّ منا بحرف. قام صديقنا بكسر هذا الصمت بالكلام عن جمال شواطئ اللاذقية، وتحديداً شاطئ وادي قنديل. فتفاعلت الزوجة مع الحديث، وأبدتْ رغبتها في الذهاب إليه. لحظتها قال: "أتذكرين حين كنّا ذات مرة نسبح هناك، وكان الجميع يرتدون لباس البحر، وجاءت مجموعة من الفتيات المحجبات ليسبحنَ قربنا؟". هزّت رأسها بمعنى، نعم.

 فتابع: "يومها لو لم نمنعك كنتِ ستطلبين منهنّ مغادرة الشاطئ بحجة أنه من غير المنطقي أن يسبحنَ بحجابهنّ وثيابهنّ المحتشمة، بينما أنتِ وبقية الفتيات تلبسنَ البكيني، أحد الأصدقاء قال لك حينها: هذا الشاطئ ليس مسبحاً خاصاً، وهو ملك للجميع، ولا يحق لأحد أن يمنعهنّ من السباحة فيه، فأجبتِه: لا يحق لهنّ أنْ يقتحمْنَ عالمنا ويفرضنَ علينا وجودهنّ بلباسهنّ الذي لا يتناسب مع روح المكان ويلوّثه بصرياً، وعليهنّ أن يسبحْنَ في مكان آخر، ومن حق أيّ فتاة تلبس البكيني هنا أن تطلب منهنّ المغادرة".

التغيير يحتاج إلى الوقت، وإلى عمل جماعي على كافة الأصعدة

نظرتْ إليه بحدّة، وقالت: "أنت تقارن ذهابي إلى المطعم الآن بسباحة المحجبات في شاطئ وادي قنديل؟".

ابتسم وقال: "أجل. أنتِ التي تنادين بالحرية وقبول الآخر وتعتبرين نفسك مع الحريات وخاصة حرية المرأة، رفضتِ وبشدّة المرأة المختلفة عنك واعتبرتِ وجودها اقتحاماً لعالمك. والآن تريدين بلباسك هذا الذهاب إلى عالم الذكور المحافظ المُتديّن، تُرى كيف سيكون موقفك إن طلب رجل منك مغادرة المطعم بحجة أنّ لباسك شكل من أشكال الفسق والفجور ولا يتناسب مع روح تلك البيئة المحافظة؟".

ردّت: "المقارنة لا تصحّ بين ذهابي للمطعم وسباحة المحجبات، لأنّ البشرية يجب أن تتجه نحو الانفتاح واحترام الحريات الشخصية لا أن تعود إلى الوراء. وهؤلاء المحافظون والمتدينون يحاولون إعادتنا إلى الوراء، وأنا لن أسمح لهم بأن يقيّدوا حريتي. حان الوقت كي يفهموا أنّ الحياة تغيّرت، وأنّ عليهم قبول الآخر المختلف عنهم، وعدم مصادرة حريته الشخصية، ويجب أن تفهم أنت والذكران الآخران أنّ ذهابي قد يحدث تغيّراً بنسبة ما في آلية تفكيرهم".

قال: "إن كنتِ تظنين أنّ ذهابك بلباسك هذا إلى بيئة محافظة قد يحدث تغييراً على حدّ قولك، فأظنّ أنّ ذلك لن يحدث. صحيح أنّ هناك أفراداً غيّروا العالم ولكن في الوقت الحالي، وتحديداً في بيئة محافظة ومتدينة، لا يمكنك إحداث تغيير بمثل هذه السلوكيات الفردية، لأنّ هذا المجتمع محكوم بالدين والأعراف والتقاليد منذ سنوات طويلة، ولا يمكن من خلال سلوك فردي تغييره ببساطة".

لا يزال النقاش حول فكرة قبول الآخر مستمراً حتى الآن داخل المجتمع السوري، بكلّ أطيافه، وعلى الأصعدة كافة

 تابع كلامه: "التغيير يحتاج إلى الوقت، وإلى عمل جماعي على كافة الأصعدة تقوم به جهة مختصة، مجهزة بكوادر ضخمة، ولها صلاحيات مفتوحة من الدولة تُمكّنها على سبيل المثال من أن تُغيّر مناهج الدراسة وأسلوب عمل وسائل الإعلام وتؤسّس جمعيات أهلية وتقيم نشاطات وفعاليات بشكل دوري، وتعمل على إلغاء وإضافة بعض القوانين وما شابه... ما عدا ذلك، أظنّ أنّ أيّ سلوك فردي هو شبيه بأن تُعطي متسوّلاً القليل من المال ليشتري ربطة خبز، هذا السلوك لا يمكنه أن يعالج مشكلة التسوّل، بل على العكس يعطي المتسوّل دافعاً ليطلب من غيرك على أمل أن يصادف شخصاً آخر مثلك يعطيه المال".

ردت متسائلة: "ماذا بخصوص المحجبات؟ ألم يقتحمنَ بيئتنا المتحرّرة ويفرضن أنفسهنّ علينا؟ هل كان عليهنّ أن يغيرنَ ثيابهنّ أم لا؟ إن قُلتَ لا فعليك ألا تعترض على سلوكي".

أجاب: "أنا أعترف بأنه من حقك ارتداء ما يحلو لك والذهاب إلى أيّ مكان تريدينه. ولكن برأيي حين يكون مثل هذا السلوك سبباً في تعرّضك للأذية النفسية والجسدية، فأنا أرى أنه من الحكمة ألا تفعلي ذلك إلا إذا لزم الأمر. أما بالنسبة للمحجبات، فأنا شخصياً لا أحبّذ أن يسبحنَ في شاطئ كلّ من فيه يرتدي البكيني، ولكن في الوقت نفسه ومهما كان وجودهنّ على الشاطئ مزعجاً بالنسبة إليّ، لا يحق لي أن أطلب منهنّ مغادرة المكان، بل أنا من سيغادر في حال كان وجودهنّ يزعجني..".

 لقد وصلنا إلى المطعم، وسنتابع النقاش بعد أن نأكل.

ولا يزال النقاش حول فكرة قبول الآخر مستمراً حتى الآن داخل المجتمع السوري، بكلّ أطيافه، وعلى الأصعدة كافة.

رامي غدير
رامي غدير
مسرحي، لديه عمل مطبوع بعنوان "الرواية"، يكتب في عدد من المواقع والمجلات الإلكترونية، وهو أحد مؤسسي مقهى قصيدة نثر الثقافي في مدينة اللاذقية.