أمي تريد كُليب حياً أو تعلن الحرب عليَّ

أمي تريد كُليب حياً أو تعلن الحرب عليَّ

22 أكتوبر 2023
+ الخط -

قبل الحرب في سورية، كان الشهران التاسع والعاشر من السنة مصدر ضغط على ذوي الدخل المحدود، بسبب موعد افتتاح المدارس ومؤونة الشتاء.

 بعد الحرب، أصبحا مصدر ضغط هائل نفسياً ومالياً لغالبية الشعب السوري، فمن شبه المستحيل لشخص موظف راتبه بينما أكتب هذه السطور يتراوح بين14 و20 دولاراً شهرياً، أن يغطي هذه المصاريف دون أن يقترض مبلغاً من المال يعادل عشرة أضعاف راتبه وربما أكثر.

مما لا شك فيه أن الحلول السحرية لمثل هذه المشكلة موجودة في ذهن كثير من السوريين، بغض النظر إن كانت إيجابية أو لا. من تلك  الحلول مثلاً، اقتراض المال، أو البحث عن عمل إضافي أو عملين أحياناً، وفي حال تعذر الأمر، وهذا ما يحدث أكثر الأحيان، يتم الاستغناء عن مؤونة الشتاء أو قسم كبير منها، وأحياناً يؤجلون ذهاب أطفالهم إلى المدرسة حتى العام القادم. بمعنى آخر قليل من الجوع والدفء وحرمان من التعليم، وتغيب المشكلة لمدة عام كامل. وبمعنى ثانٍ: سأتخلى عن حاجتي لأنني عاجز عن إيجاد الحل.

أمي تريد كُليبَ حياً

بما أنني لست متزوجاً، فإن افتتاح المدارس لا يُشكل لي أي ضغط مالي، لكن أمي التي تجاوزت الـ 85 عاماً، واضحة وحازمة ولا مجال لنقاشها بخصوص مؤونة الشتاء التي تريدها كاملة دون أي نقص، أو ستزعل وتقولي لي: لا أريد شيئاً. هذا يذكرني بشكل ما بما قاله الزير سالم حين سألوه: ماذا تريد لتوقف الحرب وتحقن الدماء؟ أجاب: "أريد كُليب حياً".

أمي تريد "كُليب حياً" وإلا ستعلن الحرب عليّ طوال السنة من خلال التذمر وتوجيه الملاحظات لي، والشكوى لأخوتي بأنها ستجوع خلال الشتاء بسببي.

المؤونة كاملة هي أحد أهم أشكال الأمان والطمأنينة بالنسبة إلى أمي، وهذا يعود للمرحلة التي عاشتها مع أهلها، وفيما بعد مع والدي، حيث لم يكن لديهم منزل ولا أرض، وكانوا يعملون لدى "الآغا" وهو شخص يملك آلاف الهكتارات، ولديه فيها منازل تُمنح للأشخاص الذين يعلمون في أراضيه، وفي حال غضب الآغا على شخص ما ببساطة يطرده مع عائلته من المنزل. في تلك المرحلة، حسب رواية أمي، حتى من لا يطرده "الآغا" إن لم يخزّن مؤونة الشتاء سيجوع هو وأولاده.

في عام 2022 كان الشهران التاسع والعاشر فيها قاسيين جداً بالنسبة إليّ . لماذا؟ لأنه لم يكن لديّ ما يكفي للعيش حتى منتصف الشهر، وعلي أن أجد حلاً وأحصل على المال، ليس فقط من أجل مؤونة الشتاء؛ بل أيضاً من أجل شراء مدخرة "بطارية" كي أضيء البيت؛ فالكهرباء تأتي خلال اليوم كله كحد أقصى أربع ساعات، وأحياناً ساعة واحدة وقد لا تأتي، وأيضاً عليّ شراء غسالة بدل التي تعطلت نهائياً، إضافة إلى مصاريف المعيشة اليومية.

بالطبع وجدت الحل السحري سريعاً، وهو البحث عن شخص يقرضني المال. ولأنني إنسان محظوظ، استطعت إيجاد شخصين يمكنهما إقراضي المال لمدة ستة أشهر فقط.

شعرت بالفرح حين اقترضت ستة ملايين ليرة سورية، والتي تعادل راتب موظف لمدة ثلاث سنوات تقريباً.

ربما يتساءل البعض، بعد انقضاء الأشهر الستة كيف سددتُ الدين؟ لقد بعت محصول الحمضيات الذي لديّ، والمبلغ الذي حصلت عليه كان كافياً لتسديد الدين، ولأعيش ثلاثة أشهر أخرى مع والديّ. بعدها بعتُ تلفازاً وأربع مراوح تعمل على الكهرباء، وسريرين قديمين، وفراشاً من القطن، إضافة إلى بعض الخردوات والمعدات الزراعية.

الآن لم يبقَ من كل المال الذي حصلت عليه سوى مبلغ يكفي لسد الحاجات اليومية من طعام وشراب حتى نهاية الشهر العاشر تقريباً، وفي حال أردت جلب مؤونة الشتاء يجب عليّ الاقتراض مرة أخرى.

الآن لم يبقَ من كل المال الذي حصلت عليه سوى مبلغ يكفي لسد الحاجات اليومية من طعام وشراب حتى نهاية الشهر العاشر تقريباً

مصطلح الشتوصيفي

أكاد أجزم أنني لن أستطيع إيجاد من يقرضني المال من أجل شراء مؤونة الشتاء المقبل، فمعظم من أعرفهم وضعهم المالي سيئ بسبب الحرب والزلزال الذي ضرب البلاد في 6 شباط/ فبراير 2023.

أعرف جيداً أنني مع نهاية الشهر العاشر سأواجه ظروفاً قاسية عليّ مادياً ونفسياً، وذلك لسببين: الأول، أن بيتنا لم يعد آمناً لنبقى فيه بسبب الزلزال، لذلك غادرته برفقة والديّ العجوزين للعيش في منزل أختي المؤلف من غرفة وصالون.

الثاني: هو أنني سأعاني في إيجاد حلول وأجوبة لأسئلة عديدة متعلقة بمصطلح "الشتوصيفي".

ما المقصود بالشتوصيفي؟ حسناً سأجيبكم، في الحقيقة من الصعب عليّ شرح مصطلح "الشتوصيفي" وصياغة الأسئلة المتعلقة فيه بشكل دقيق وبكلمات بسيطة بحيث يصبح مفهوماً للقرّاء غير السوريين. رغم ذلك سأحاول شرحه قدر استطاعتي.

 "الشتوصيفي" مصطلح سوري محلي جداً لم يكن موجوداً قبل الحرب في سورية، له العديد من المعاني والدلالات الوجودية، ويُسبب نوبات قلق وهلع، وله علاقة بالضحك لدى السوريين، ويساعدهم على فهم المعنى الحقيقي لحديث ما حتى لو كانت كلمات هذا الحديث تدل على معنى آخر، وغير ذلك..

على سبيل المثال: حين يقول شخص ما للسائق الذي يوزع الخبز بواسطة سيارته: لماذا رفعت سعر ربطة الخبز؟ يُجيب السائق: "ما إجتني! اشتريت بسعر الحر، بالعادة كانت تجي بوقتها، ما بعرف شو صاير!" الشخص الذي طرح السؤال سيفهم من هذا الكلام الآتي: الرسالة التي يجب أن تصل إلى الهاتف الجوال للسائق والتي بدونها لن يستطيع تعبئة سيارته بالوقود بالسعر الذي حددته الدولة لم تصله، وبسبب تأخر وصول تلك الرسالة قام السائق بشراء البنزين من السوق السوداء، وبالتالي اضطر إلى رفع سعر ربطة الخبز كي يعوض المال الذي دفعه في السوق السوداء ثمناً للوقود.

 لماذا رفعت سعر ربطة الخبز؟ يمكن اعتباره سؤال "شتوصيفي" بجدارة، وجواب السائق يمكن اعتباره جواباً دادائياً وسوريالياً وسورياً بامتياز.

من أجل فهم روح مصطلح "الشتوصيفي" بشكل عام سأخبركم بدعابة رواها أحد الأصدقاء في إحدى السهرات: في واحد سوري إتكهرب "صعقته الكهرباء" بالشتوية ومات. الجميع ليلتها ضحك مع أن الموت ليس مضحكاً، ضحكنا لأن ما قاله هو دعابة؛ فالتيار الكهربائي في الشتاء قد ينقطع لأيام عدة وأحياناً لأسابيع. هذا المثال للأسف يشرح إلى حد كبير مصطلح "الشتوصيفي".

والدي مريض ألزهايمر، أمي لديها كسر في الحوض، الزلزال طردنا من منزلنا، والشهر العاشر قادم. ما الحل؟ حقاً إنه سؤال شتوصيفي عميق، ومن المستحيل حالياً أن أجيب عنه. رغم ذلك أنا لا أشعر بالاكتئاب والبؤس وبأنني ضحية وبأن الحياة لا تطاق، ولديّ شعور بأنني سأجد حلاً ما.

رامي غدير
رامي غدير
مسرحي، لديه عمل مطبوع بعنوان "الرواية"، يكتب في عدد من المواقع والمجلات الإلكترونية، وهو أحد مؤسسي مقهى قصيدة نثر الثقافي في مدينة اللاذقية.