Skip to main content
وقفة مع غسّان عبد الخالق
العربي الجديد ــ عمّان
غسّان عبد الخالق

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "تصاعُد النزوع لرقمنة الواقع سيزيد من اغتراب الإنسان" يقول الناقد الأردني لـ"العربي الجديد".


■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
يشغلني التفكير هذه الأيام، بما آلت إليه السيكولوجية البشرية، في خضمّ هذا الصراع المرير مع وحش كورونا. وأحسب أنَّ الناس سيكونون بحاجة ماسة لإعادة تأهيل نفسي وسلوكي إذا عادت الحياة إلى مجاريها. وكأنّ الناس اعتادوا الشعور بالذنب جرّاء أي اتصال أو تواصل وجاهي؛ فتراهم يتفقدون أنفسهم ويؤنّبونها إذا تساهلوا في المصافحة مثلاً، أو إذا غفلوا عن إحكام وضع الكمامة على وجوههم، أو إذا لمسوا سطحاً ولم يعقّموا أيديهم.

الكلّ يريد أن ينتهي ممّا هو فيه ويعود إلى منزله بأسرع وقت ممكن. صارت علاقة الناس بالمنازل ملتبسة جدّاً؛ فهي ملاذهم الذي يفيئون إليه من جهة، وهي زنازينهم التي يتمنّون الانعتاق منها من جهة أُخرى. صار الناس يعيشون حياتهم يوماً بيوم، على وقع خيبات الأمل السياسية والانهيارات الاقتصادية ومآسي الفقد الشخصية وتصاعد مظاهر العنف الاجتماعي.

غرقت الرواية العربية في التفكيك المفتعل والتجريب المجاني


■ ما آخر عمل صدر لك، وما عملك القادم؟
في المطبعة الآن كتابي النقدي الأحدث "الراوي مفكّراً؛ دراسات تطبيقية في السرد العربي المثقّف". وقد لازمتني الفكرة الناظمة له سنوات عديدة. ففي ظلّ تصاعد الشكوى سابقاً من السرد الروائي الوظيفي المسوّق بالتعبير المباشر والمبتذل عن الهموم الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، ولا ريب في أنَّ الخطاب الروائي العربي قد وقع ضحية هذا الفهم الميكانيكي للواقعية، لم يقلّ ردّ الفعل المعاكس سوءاً؛ إذ غرقت الرواية العربية في التفكيك المفتعل وفائض اللغة والتجريب المجّاني والشكلانية السطحية. وقد آليت على نفسي، في هذا الكتاب، العمل على إعادة التعريف بالمعنى الحقيقي للواقعية المنشودة والتأشير على انكساراتها بخصوص التطبيق، فضلاً عن إعادة الاعتبار للسرد المثقّف المفكّر دون مبالغة أو تصنّع. واخترت لتجسيد هذا الضرب من السرد، نصوصاً قديمة وحديثة ومعاصرة، ذكورية وأنثوية، بقصد تسليط الضوء على أكبر قدر من النماذج السردية الممثّلة لما أريد أن أقول.

عملي القادم في مرحلة التنقيح والمراجعة الآن، وهو روايتي/ رحلتي التاريخية الثالثة، حيث بذلت جهداً كبيراً لتقمّص شخصية فيلسوف ومتصوّف وشاعر بغدادي في القرن الخامس الهجري، ولم أدّخر وسعاً لتوظيف سيرته الذاتية فنياً وموضوعياً، بحيث أستوفي ما استطعت شرط التعميق الجمالي لتجربته وشرط الانطلاق من هذه التجربة لتشخيص واقعه التاريخي الذي يكاد ينطبق من وجوه كثيرة على واقع المجتمعات العربية المعاصرة. 


■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟
بعيداً عن مجاملات الزملاء والأصدقاء والصحافيّين والمتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ضوء ما يصلني من ردود أفعال من القرّاء الحقيقيين الذين لا تربطني بهم أيّة صلة، فضلاً عن ردود أفعال الناشرين لأعمالي، فأنا راضٍ إلى حدًّ بعيد، خصوصاً أنّني أكتب وأنشر لأُسعد قرّائي وأُسعد نفسي، بعيداً عن أي مطمع مادي كالرغبة في الحصول على هذه الجائزة أو تلك. لكن الكاتب ومهما بلغت درجة رضاه عمّا يكتب، يظلّ أسير حال القلق والتحفّز، وهو الحال الذي يتكفّل عادة بدفعه إلى مزيد من الإنجاز.


■ لو قُيِّض لك البدء من جديد، أيّ مسار كنت ستختار؟
لو قيّض لي البدء من جديد، سأختار مساراً مشابهاً أو قريباً جداً من مساري الحالي؛ إذ طالما حلمت بأن أكون كاتب مقال أسبوعي منتظم، إلى جانب أن أتفرّغ لإصدار ما يمكن من كتب. لكنّ تكاليف الحياة وتصاريفها في الواقع العربي، تُلزم الكاتب بأن يكون أكثر واقعية وأقل رومانسية، حتى يفي بالتزاماته المادية؛ الشخصية والعائلية والاجتماعية.

تصاعُد النزوع لرقمنة الواقع سيزيد من اغتراب الإنسان


■ ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
من المؤكَّد أن العالم يستعد لعبور دورة جديدة على كل الصّعد، وأحسب أن ثمّة مستجديْن متعاكسين بدآ يفرضان نفسيهما عالمياً. أمّا الأول فيتمثّل في تصاعد النزوع لرقمنة الواقع وتوجيهه عبر الأزرار والشاشات الذكية، ما سيزيد من حال اغتراب الإنسان عن نفسه وعن غيره، كما سيزيد مستويات السيطرة والتحكُّم في المجتمعات من جانب مراكز المال والمعلومات. 

وأمّا المستجد الثاني المعاكس فيتمثل في تصاعد النزعة الإنسانية العابرة للأديان والقوميات والأيديولوجيات والحدود. ثمّة حالة من التنبّه الملموس لما يحدث من مآسٍ في أماكن متباعدة، خصوصاً لما يحدث في فلسطين المحتلّة. وفي تقديري أنّ هناك ما يشبه التحالف العابر للقارات والجنسيات بين آلاف من شباب العالم، الذين صاروا يقفون بالمرصاد لأيّ انتهاك أو تجاوز على امتداد الكرة الأرضية، ويفيدون إلى أبعد الحدود من وسائل التواصل بوجه خاص، في التوعية السياسية وحشد الأنصار والتأثير في مجريات الأحداث.


■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
أودُّ كثيراً أن ألتقي ابن حزم؛ لأنّه ينتمي إلى زمن ملحمي يشبه هذا الزمن، لجهة كثرة التحوّلات والاختبارات والمفاجآت. ولأنّه نجح أكثر من مرّة في تجاوز ذاته سياسياً وطبقياً وفكرياً وإنسانياً. ورغم أنه كان وزيراً أرستقراطياً إلّا أنّه تجرّأ على تسطير أجمل رسالة في فلسفة الحب "طوق الحمامة". ورغم أنّه كان محسوباً على الطبقة الحاكمة المدعومة بفقهاء المذهب المالكي، فقد تجرّأ على التبشير والتأليف في المذهب الظاهري. لقد كان عاشقاً صادقاً، وشاعراً رقيقاً، وكاتباً رصيناً، ومفكّراً صلباً عابراً للتخصّصات.


■ صديق يخطر في بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
يخطر في بالي كثيراً أستاذي وصديقي العزيز العلاّمة إحسان عبّاس. تُلحّ عليَّ مقولته التي ما فتئ يردّدها على مسامعي "الإبداع مشروع فردي يا غسّان"! ويحزنني وصفه لمشاعره حينما قرّر التوقف عن نظْم الشعر بعد نكبة 1948، وتبكيني الظروف القاسية التي اضطر لاحتمالها في حيفا، حتى يواصل تعليمه المدرسي. ويهزُّني إدراكي لحقيقة أنّه أنجز كلَّ ما أنجز حتى يتجاوز ألم الاقتلاع من فلسطين وألم الحنين الدائم إليها.


■ ماذا تقرأ الآن؟
أقرأ الآن تاريخ بغداد في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وأتابع كثيراً التفاصيل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المدهشة في تلك الحقبة الزمنية؛ وما أشبه اليوم بالبارحة!


■ ماذا تسمع الآن، وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
أسمع وأستمع بلا كلل أو ملل إلى كلّ من أبي فراس الحمداني وأم كلثوم "أراك عصي الدمع شيمتك الصبر". يا لها من مغناة خالدة في الألم النبيل والصبر الجميل.


بطاقة
كاتبٌ وناقد من مواليد الزرقاء الأردنية عام 1962. حائز دكتوراه في النقد. من أعماله النقدية: "مفهوم الأدب في الخطاب الخلدوني" (1994)، و"الأخلاق في النقد العربي: من القرن الثالث حتى القرن السادس" (1999)، و"الدولة والمذهب: دراسات في الفكر العربي والإسلامي قديماً وحديثاً" (2000)، و"ثلاثاء الرّماد: مقالات حول الغرب والعرب في عام الحقيقة" (2003)، و"الأعرابي التائه: مقاربات في تجربة مؤنس الرزاز الروائية" (2010)، و"الذات والموضوع: دراسات تطبيقية في أدب السيرة العربية" (2019). صدرت له أيضاً مجموعتان قصصيتان هما "نقوش البياض" (1992)، و"ليالي شهريار" (1994)، ورواية قصيرة بعنوان "ما تيسّر من سيرته" (2010)، وسيرة ذاتية في مجلّدين: "بعض ما أذكر" (2016)، و"بعض ما نسيته" (2020).

وقفات
التحديثات الحية