Skip to main content
مسخ الذات ومفهوم الشهادة
سوسن جميل حسن
ليست العملية الانتحارية التي كان متوقعاً، لولا إحباطها، أن تحصد عشرات الضحايا بين قتيل وجريح في بيروت يوم 21 يناير/ كانون الثاني، الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة في زمن الفوضى القاتلة، أو فوضى القتل المسيس والمؤدلج والمبارك، فهذا النوع من العمليات "الجهادية" صار نهجاً تمارسه جهات عديدة في النزاعات والحروب، وازداد حضوره في السنوات الأخيرة المتعلقة بالأزمة السورية التي صارت عقدة العالم المتصارع على النفوذ، وصارت سورية بازار التسويات المزنّر بالدم.
لكن فشل عمليةٍ من هذا النوع، وتخيّل حجم الخسارة البشرية التي كانت ستحدث، وعدد الأرواح التي كانت ستزهق، وبالتالي الربح الذي تحقق بإحباطها، يجعل المتلقي يتفاعل معها بطريقةٍ مغايرةٍ عن مثيلاتها التي تنتهي بتحقيق الهدف الدامي الذي سيشغل العالم والميديا بأنواعها، إلى أن يبرد الدم، ويهمد الضجيج، وتعود القطعان البشرية إلى حياتها وسط الخراب، حتى تصدمها عملية أخرى، قد تفوقها في عدد الضحايا. يدفع هذا الفشل إلى التأمل والتفكّر وطرح الأسئلة بشأن هذا النمط من قتل النفس تحت مسمى "الشهادة".
الشهادة تجميل لكلمة أخرى مذمومة، ومنحها شرعية مباركة: الانتحار، أو قتل النفس الذي حرّمه الدين الإسلامي. إذ يعد قتل الإنسان نفسه معصيةً من كبائر الذنوب، ويكون قاتل نفسه عاصياً، ويعاقب في النار يوم القيامة، بسبب هذا الجرم الذي ارتكبه.
أما قتل النفس، وهو حالة بشرية لا يخلو أي مجتمع منها، مثلما هي تاريخية مرتبطة بتاريخ
الجنس البشري، فإنها تأخذ أبعاداً ثقافية واجتماعية، تختلف بين شعب وآخر، ولا بد أن تخضع للحجة المنطقية، فالانتحار المنطقي أو "حق الموت" يتطلب عادة سببًا يدفع إلى اتخاذ قرارٍ أن يقتل شخصٌ ما نفسه، بحيث يكون القرار هو الأفضل تحت الظروف الواقعة، وأن يكون تحت ظروفٍ نفسيةٍ مستقرةٍ، وألّا يكون قرارًا مندفعًا لحظيًا أو نتيجة مرض عقلي. حتى إن "القتل الرحيم"، أو الموت الرحيم، هو من أشكال الانتحار أقرته بعض الدول، وبعضها الآخر، مثل سويسرا، سمحت بالمساعدة على الانتحار منذ 1941، وصار هناك نوع من السياحة تشتهر بها زيوريخ هي "سياحة الانتحار"، إذ يقصدها أشخاصٌ اتخذوا قرار موتهم، وهناك متخصصون يساعدونهم في إنجازه.
فالموت بهذا الشكل حق، ليس بالمعنى الديني كما نفهمه، نحن الذين نعيش في بيئة إسلامية، بل هو حق إنساني مثلما هي الحياة، وطالما هو حقٌّ، فإن الفرد حرّ باتخاذ القرار وتنفيذه بإرادة كاملة. لكنه بهذا المعنى أيضًا منبوذٌ، ومن الكبائر بمنظور ثقافة هذه البيئة. وإذا كان المقدِم على الانتحار، أو قتل نفسه، يعاني من أعراضٍ ناجمةٍ عن انعدام المرونة أو التأقلم مع ظروف حياته، وأصبحت الحياة بالنسبة إليه نوعًا من العذاب الذي لا يُطاق ولا يُحتمل، فإن أسباب حياةٍ من هذا النوع وفيرةٌ في بلداننا، ليس فقط منذ اندلعت شرارة الربيع العربي، وتصعيد العنف إلى ذرىً غير مسبوقة في التاريخ البشري، بل هي أقدم من هذه الفترة، لكن هذه المرحلة مدّتها بظروفٍ إضافيةٍ نبشت ما راكمته الشعوب في صدورها من عقود وقرون، فمن القيم التي تنشأ الأجيال عليها، ويمارسها الآباء أسلوباً تربوياً منذ الطفولة مع أبنائهم هي احتقار الذات.
يتجلى احتقار الذات بشكل فج، انطلاقًا من ترسيخ مفهوم الطاعة والولاء، من طاعة الوالدين إلى طاعة رب العمل إلى طاعة المعلم إلى طاعة ولي النعمة إلى طاعة رجل الدين إلى طاعة الحاكم، هذه الطاعة العمياء التي يجب أن تُمارس سلوكاً مثالياً يترجم تبني القيم والأعراف والتعاليم الدينية، تسلب الفرد إحساسه بذاته وفرديته، وأن لديه عقلاً يمكن أن يفكر ويبدع طريقة حياةٍ أخرى تخصه، أو لديه كيانًا يستبطن أفكارًا وقيمًاً وأسئلة وجودية، لا تقنعه الإجابات الجاهزة حولها، فيكبر الشخص، ولديه شعور دائم بالاستلاب، ويخطو، منذ طفولته، في دروب التدجين حتى يكبر، ويصير فردًاً أو عنصرًا في الكوادر التي يتضافر في إعدادها سلاطين الأعراف والتقاليد ورجال الدين والأنظمة السياسية.
هذا سبب لا يمكن تجاهله عند التفكير في تأصيل العنف في هذه المنطقة، العنف الذي يبتدع ما يزيد تغوّله، معتمدًا على تاريخٍ من التراث والسند الديني، أو الوطني والقومي، فتصير المعاني مختلطة، ويصير للعنف مبرّراته التي تقنع الضمير، ويصبح الموت شأنًا نبيلًا وساميًا ومقدسًا. يتأصّل هذا التقديس بارتباطه بالشهادة وسندها الديني، فلا تخلو ورقة نعيٍ لمن يقتل في المعارك الدائرة في سورية من استهلال بالآية القرآنية: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".
بهذا المفهوم الديني المترافق مع امتلاءٍ بالشعارات والقيم الوطنية التي تتربى عليها الأجيال، 
يصبح الموت شأنًا مقدسًا وتصبح الشهادة مطلوبة، فكيف إذا كان الشعب بأكمله يعاني من الظلم وانعدام الكرامة والطموح ومن الفقر والتهميش والتقزيم والإقصاء عن الشأن العام في وطنٍ يفترض أن يكون له فيه بقدر ما عليه تجاهه، ثم تأتي سنوات الحرب بما أضرمت من نيران الفتنة والضغينة في الصدور، وما تركت من جمراتٍ تتقد في صدور من دمرت بيوتهم وقتل أبناؤهم أو أفراد أسرهم وهجروا من أماكنهم وماضيهم، وحتى من مستقبلهم، تحت تهديد القصف بالطيران والمدافع، وعانوا ذل الحصار وانعدام أدنى مقومات الحياة، وهددت حيواتهم على مرأى العالم، بينما يرسم العالم سياساته بعيدًا عن معاناتهم، ليتدبّر مصالحه؟
من بقوا على قيد الحياة في مركز الحرب السورية أو على مشارفها، إمّا امتلكوا المرونة الكافية لتجعلهم يتأقلمون مع ظروف عيشٍ مهينة، أو انحازوا إلى الجهاد، كل بحسب الغاية المستبطنة في نفسه، مدفوعين بأجنداتٍ تشتغل عليهم، وتعدهم ليكونوا أدوات حربٍ ليس من المعروف حدٌّ لعنفها، ولا نهاية لها.
هذه الحالة من الشعور بالدونية تدفع الشباب فاقدي الأمل والطموح، المستلبين تاريخيًا لسلطة الجماعة أو الدين أو القبيلة أو الحزب، إلى القيام بأعمال تراجيدية مفعمة بالبطولة الزائفة التي يستعيدون بها ذاتهم السبيّة والمهانة، فقتل النفس بتفجيرها بحزام ناسف سيحصد أعدادًا كبيرة من الضحايا هو بحد ذاته عملٌ بطولي بالنسبة إليهم، عمل بسببه ستفتح لهم الجنة أبوابها، لتدخلها أرواحهم المنهكة، ويخلدون فيها لأن الله وعدهم بها، فهم سادة هذا العالم، لأن المولى عز وجل اختارهم واصطفاهم من دون غيرهم، وهم من فهموا سر الحياة، وفكّوا ألغازها، فوصلوا إلى الحقيقة "اطلب الموت توهب لك الحياة"، بل يتمنى أن يرجع إلى الدنيا ليقتل عشرات المرات لما يراه من الكرامة. ويصبح الانتحاري شهيدًا، فهو كالمنتحر لا يغسل ولا يكفن. لكن، ليس لأن ما أقدم عليه فعل شائن، بل لأن الشهداء أطهارٌ بما فيهم من حياة، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها، لأنهم بعد أحياء، ولا يجوز البكاء عليهم، ليس لأن فعلتهم خبيثة بقتل أنفسهم بدافع قتل الأبرياء، بل لأنهم مكرّمون عند الله مأجورون.
هكذا تختلط المعاني وتدبّج القيم، فالموت بقرار حر ينهي الإنسان المعذب به حياته أمر مذموم، إلّا بعملية انتحارية تسمى استشهادية. بهذه الطريقة، تتم مصادرة الحياة العامة، وتتم السطوة والسيادة، وتتم تغذية الحروب، حروب المصالح فتستولي السياسة على الدين، وتجعله الرافعة المباركة لمعنى الموت والقتل والعنف.
تحتاج هذه المفخخات اللغوية والدينية والقيمية والثقافية إلى جهودٍ كثيرة، وهي هدف كبير من أهداف الثورات الطامحة بحياة كريمة وحرة وعادلة.