تأصيل العنف: صور تذكارية مع جثث مقطعة

تأصيل العنف: صور تذكارية مع جثث مقطعة

23 مايو 2016
+ الخط -
إذا اعتبرنا أن نهاية الحرب، أي حرب، السلام أو النصر، وهذا افتراضٌ مشكوك به، فأي نهاية ستحظى بها سورية بعد سنوات دامية؟ النصر؟ انتصار من على من؟ لا يوجد نصرٌ في الواقع في كل الحروب، فنهاية الحروب هي أن هناك أوضاعاً جديدة، ولم يعد أحد من الطرفين المتنازعين، أو المتحاربين، كما كان. هذا عدا عن تكلفة النتيجة التي تدّعي أنها انتصار، كذلك السلام، فالحرب العالمية الثانية لم تجلب السلم ولا السلام، بل أعقبتها حربٌ باردةٌ، امتدت إلى عقودٍ، وأسفرت عن انهيارات دولٍ ومجتمعاتٍ، فكيف بحربٍ في وطن واحد، دفعت ليكون عنوانها جهاد الطوائف المقدس ضد بعضها البعض؟
بإرادةٍ ما، أو إراداتٍ، دُفع بالحراك السوري الذي بدأ سلمياً واعداً، فقوبل بالرصاص، إلى العنف المضطرد الذي أدارته ووجهته ودفعته جهاتٌ عديدة، وفقاً لأجنداتٍ ومصالح دولية وإقليمية، متذرّعةً بدوافع متباينة ومتنوعة، فأدّت إلى استنباط أشكال وأساليب وأدوات من العنف، ربما في بعضٍ منها لم يسجّل التاريخ ما يشبهها، بل إن للحالة السورية الريادة في هذه الأدوات.
ليست الممارسات العنفية الوحشية التي تحصل في ميادين الصراع هي ما يستحق الالتفات والدراسة فقط، فهذه طبيعة الحروب والعنف المتأزم الذي يصل إلى أعلى ذرواته في حضرة الموت ومواجهة القتل، وتحكّم مشاعر البقاء والحفاظ على الذات، التي هي مدعومة بعقائد وإيديولوجيات حول الجهاد وقتال الطرف الآخر الذي يحاول أن يسلبني حقي، بغريزة القتال المدمّرة. لكن إشهار العنف الوحشي المرتبط بإيديولوجيةٍ أو عقيدةٍ في الميديا، بمختلف أشكالها، وفي مقدمتها وسائط التواصل الاجتماعي هو ما يقدم صورة أكثر دقةً عن الكارثة الحقيقية التي لا تكف عن الحدوث في سورية، فتصوير واقع الحرب وأدوات ونتائج العنف والتوحش وإرساله إلى العامة هو إجراءٌ يدعو إلى توسيع قاعدة المشاركين في الاقتتال.
جديد ما شغل الصفحات الزرقاء ومواقع التواصل الأخرى صور ضابط ميداني في الجيش العربي السوري بجانب رؤوسٍ معلقة، وأجساد مقطعة وممزقة، في محيط مطار دير الزور. صور صادمة مهينة فاجرة. لكن، ليس هذا المشهد غريباً عن ساحات القتال السورية، فلطالما أتحفتنا الشاشات والمواقع بصور تفنّن فيها حاملو السلاح في التعذيب والتمثيل بالضحايا الأحياء وبجثثهم، حتى الأطفال لم يغيبوا عن مشهد العنف، بل زجّ بهم ليكونوا أدواتٍ بالغة التأثير، كما صورة الطفل ابن مقاتل من داعش ذي السنوات السبع الذي يمسك بيده رأساً مقطوعة، ويبتسم أمام الكاميرا. صارت هذه المشاهد الفاجرة في وحشيتها مألوفةً بالنسبة للذاكرة البصرية، ومهما استدرج أحدها من مخزون الذاكرة ما يشبهه، فإن الأثر الصادم بات أقل بكثير من المرات الأولى.

لكن، هذا الواقع المفرط في افتراضه، أو الـ "الهايبر" على رأي بودريار، أو المفرط في صوره وافتراضه، تجاوز "المادة"، بحدودها الفيزيائية الكلاسيكية، وتجاوز الواقع الواقعي المحقق، فبات أكبر منه، وأكثر شيطنة منه، وبات يعيد إنتاج الواقع، وليس موت الواقع كما قال بودريار. ما نشهده، في هذا العالم الافتراضي، هو هلوسة وجنون مستعر يمدّ ألسنة لهيبه مثل تنين أهوج من الشاشات، ليشعل الحرائق في الواقع، ويؤجج الغرائز، ويثير نهمها للقتل والتفنن في التعذيب والتمثيل.
من الحماقة أو اللاجدوى اتهام طرفٍ من طرفي النزاع، أو للدقّة، أطرافه باعتبار الصراع في سورية صار متعدّد الأطراف، بأنه المروّج الأوّل للعنف بأعتى صوره كما نراه، فهذه الصور تنسخ بعضها. الفرق الوحيد هو العلامات التي تدّل على الطرف، أو الشارات المميزة، فالعنف مفهوم وقيمة محمولة في الموروث الثقافي، وهو ليس بحاجةٍ إلاّ إلى توجيه وتبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتّبعه، والمبرّرات كثيرة، وهي دائماً موجودة في الطرف الآخر. ينتمي المقاتلون في الصراع السوري بغالبيتهم إلى البيئة العامة نفسها، ويحملون الموروث الثقافي عينه، الفرق فقط في إعداد الكوادر، بموجب أسسٍ تعبويةٍ وعقائديةٍ، تخص كل طرف.
ليست صورة الضابط معزولة عن سياقٍ حَكمَ الحرب والاقتتال في سورية، وليس العنف شأناً فردياً أو ذاتياً هنا، "إن الرجال الأفراد الذين لا يجدون، إلى جانبهم، آخرين يدعمونهم، لا يكون لديهم ما يكفي من السلطة، لاستخدام العنف استخداما ناجحاً"، كما تقول حنة آرندت في كتابها عن العنف. وهو "يتعارض جوهرياً مع السياسة، بل يقصيها ويغيبها تماماً. إن العنف يرتبط بأفعال غير سياسية في عمقها: التحايل الضبط أو التطويع الاجتماعي، التخدير الإيديولوجي". فهل ما نشهده في سورية بين الأطراف المتصارعة بعيد عن ذلك التفسير؟ وهل الشعب في معزلٍ عن لوثة التخدير الإيديولوجي، وفي منجى عن التطويع الاجتماعي في كل المناطق التي باتت مقسّمةً، بحكم الواقع والأطراف التي تسيطر وتدير الحياة في كل منها؟ صور ومشاهد من هذا النمط هي من الخطورة بمكانٍ، لا يمكن الاستهانة بها، أو غض النظر عنها. إنها كانت على مدى الاقتتال السوري وقوداً جاهزاً لأفراد المجتمع الذاهلين أمام آلة العنف الرهيبة، والذين صارت الحياة الافتراضية، بالنسبة لهم، ملاذاً وبديلاً عن واقعٍ لم يعودوا قادرين على العيش فيه، أو فهمه، أو مواجهته. صور ومشاهد هي إرساليات مدججة، تعيد الجمهور إلى مراتب دنيا، كما تعيد عواطفه وانفعالاته إلى شكلها الأولي مكرّسةً بالعقائد الإيمانية الجبارة، بل وتزيد الالتفاف والتمسك بالروح الجماعية، بعيداً عن العقلانية والمنطق، وخاضعةً أو قابلةً للانقياد والتحريض.
آن لنا أن نمتلك الشجاعة، ونكشف الغطاء عن مشكلاتنا المزمنة، كما آن للمثقف أن يفك ارتباطه بالسياسي، الشعب متروك أمام آلة العنف الواقعي والافتراضي، والفرد والمجتمع على حافة الانهيار، بعدما تردّت الحياة، وتداعت منظومة القيم، لو تخلّى المثقفون عن ارتباطهم بالسياسي، وتطلّعوا إلى الواقع بعين المراقب والناقد، بدلاً من الانشغال حتى بتسجيل موقفٍ تجاه صور العنف، واعتبارها مباراة كسر عظم ونفس، لرأوا أن هناك كماً هائلاً من الاستحقاقات المطلوبة منهم، ومنها حماية ضمير الناس من سمّ هذه الإرساليات الإشهارية، ومحاولة الوقاية من أن يصبح الثأر العلاج الذي يداوي كل شرورنا، على رأي سارتر. لكن المؤسف أنه حتى في الفضاء الافتراضي، فإن صفحات مثقفين كثيرين مرصودة للتحليل السياسي، وتسجيل المواقف الانفعالية، ولا تخلو أحياناً من التحريض، بل إن المستوى قد ينحدر حدّ لجوء المثقف إلى الشتيمة والسباب، بدلاً من أن تكون صفحاتهم منارةً يتسلل منها شعاع نورٍ إلى عتمة قلوب هذا الشعب، المنكوب بكل ما لديه.