دمشق القديمة تفتقد ناسها
رامي سويد ــ دمشق
نزح كثير من أهالي معلولا نحو العاصمة(يوسف قروشان/فرانس برس)
ساعات الانتظار أمام باب الكاتدرائية المريمية وسط حي باب توما في دمشق القديمة طويلة. يقف أحمد في الصف إلى جانب عشرات العائلات، وينتظر دوره للحصول على المعونات الغذائية التي تقدمها الكاتدرائية للنازحين الذين استقروا أخيراً في أحياء باب توما وباب شرقي والقصاع. كان المسيحيون من أبناء دمشق يشكلون غالبية سكانها الأصليين، قبل أن يجبر قصف قوات النظام لحي جوبر القريب ومناطق غوطة دمشق الشرقية كثيرا من العائلات على النزوح نحو هذه الأحياء.

أيضاً، اهتمت كنيسة السيدة في منطقة الغسانة القريبة وكنيسة الصليب في حي القصاع، حالها حال معظم الكنائس، بتقديم المساعدات الغذائية لنازحي العاصمة، لتتفرغ الجمعيات الخيرية لتأمين السكن والمال. هرب الآلاف من سكان ضواحي العاصمة وغوطتيها إلى دمشق، بسبب قصف قوات النظام لمناطق سكنهم. في البداية، كان معظم هؤلاء من المسلمين الذين يشكلون غالبية في المناطق التي تعرضت للقصف، قبل أن يضطر تدهور الأوضاع الأمنية، منذ نهاية العام الماضي، سكان المناطق ذات الغالبية المسيحية في ريف دمشق، كصيدنايا ومعلولا وجبعدين، للنزوح نحو العاصمة.

النازحون الميسورون المقيمون في أحياء باب توما وباب شرقي والقصاع، تمكنوا من استئجار البيوت التي تركها أهلها وسافروا إلى الخارج. أما الفقراء، فأقاموا في مراكز إيواء النازحين في دور الأيتام أو البيوت الدمشقية القديمة التي تملكها الأوقاف المسيحية والإسلامية، وتشرف عليها جمعيات خيرية محلية.

في هذه المناطق (شمال العاصمة) التي غصت بالنازحين، ساد الخوف والتوجس بين السكان، نتيجة السقوط المتكرر لقذائف الهاون العشوائية مجهولة المصدر، والتي تبادلت قوات النظام والمعارضة الاتهامات بالمسؤولية عنها، قبل أن يعتادوا عليها ويتابعوا حياتهم بشكل طبيعي، غير آبهين بقذيفة طائشة قد تودي فجأة بحياة أحدهم. كأنهم بذلك اعتادوا الموت العشوائي.

صباحاً، ينطلق الأطفال ببدلاتهم الزرقاء التي ما زالوا يرتدونها في مناطق سيطرة النظام السوري، بعكس حال نظرائهم في مناطق سيطرة المعارضة. يتوجه أصحاب المحال التجارية إلى أعمالهم. أحياناً، تمرّ جنازة أحد الذين قُتلوا بصواريخ قوات النظام، يتأملون الجنازة قبل أن يتابعوا أعمالهم.

ما زال معظم أبناء المنطقة يؤيدون النظام السوري. يبررون ذلك باتهام قوات المعارضة بأنها تقصف منطقتهم بقذائف الهاون، علماً أن المعارضة السورية لطالما اتهمت قوات النظام بالمسؤولية عنها، لافتة إلى أنها تعمد إلى تأليب السكان ضدهم. يحاول أبناء المنطقة أن يصموا آذانهم عن أصوات القصف العنيف اليومي على حي جوبر الدمشقي القريب الذي تسيطر عليه المعارضة. أصوات الانفجارات المتكررة نهاراً، نتيجة قصف قوات النظام اليومي، وأصوات الاشتباكات ليلاً، تؤرق سكان المنطقة قبل أن يصموا آذانهم وينسوا الحرب الدائرة على بعد مئات الأمتار.

في ساحة باب توما، تنتشر مئات البسطات التي يملكها باعة متجولون. يضع هؤلاء المسدسات من دون أية حرج. فالبلاد في حالة حرب، علماً أن القانون يمنع حيازة الأسلحة الفردية، إلا في حال كان صاحبها قد حصل على رخصة. يعلم السكان أن هؤلاء الباعة ينتمون إلى المليشيات المتحالفة مع قوات النظام السوري، كما أن بعضهم يعملون مخبرين لأجهزة الاستخبارات السورية، حتى إنهم حفظوا وجوههم، وعرفوا أن معظمهم من حي الجورة القريب. يتناسى سكان باب توما كل ذلك، ويبررون وجود هؤلاء الباعة المسلحين بأنهم يقومون بحمايتهم من غزو قوات المعارضة لمناطقهم.

لم يبق في الأحياء المسيحية شمال العاصمة كثير من الشباب. هرب معظمهم من الخدمة في جيش النظام، فيما اختار آخرون السفر إلى الخليج العربي أو الدول الأوروبية، بحثاً عن عمل، بعيداً عن الحرب المستمرة، التي لا يعرف أحد متى تنتهي. لم تقتصر الهجرة على الشباب، فقد غادرت كثير من عائلات المنطقة نحو لبنان والأردن. وغادر آخرون إلى أماكن أبعد، بحثاً عن ظروف حياة أفضل، في ظل تردي خدمات المياه والكهرباء والاتصالات وانعدامها أحياناً.

حل نازحو الريف الدمشقي وضواحي العاصمة مكان مواطنيهم الذين فضلوا الرحيل. استأجروا بيوتهم وسجلوا أبناءهم في المدارس. تغيرت الوجوه في باب توما والقصاع وباب شرقي، لتبدأ معالم تغيّر التركيبة السكانية في منطقة لم تصلها الحرب بعد، لكن ارتداداتها لم تغب عنها قط.