Skip to main content
تقارب جوبا والخرطوم: دوافع اقتصادية وعسكرية وسياسية
العربي الجديد ــ الخرطوم
لدى البشير وميارديت حسابات سياسية سرّعت التقارب(علي نغيثي/فرانس برس)
في خطوة مفاجئة، عمدت دولتا السودان وجنوب السودان، الأسبوع الماضي، إلى إغلاق ملف الخلاقات بينهما، والتي طالما مثّلت عقبة رئيسية في علاقتهما طيلة الفترة التي أعقبت انفصال الجنوب عن الشمال قبل 5 سنوات، كما شكّلت قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة طوال الفترة الانتقالية في إطار السودان الموحد.
وفيما مهّدت موافقة الرئيس السوداني عمر البشير على مراجعة رسوم عبور نفط الجنوب عبر أراضي الشمال لتصديره الأجواء لتحقيق الانفراجة في علاقات البلدين، فإن رئيس جنوب السودان، سلفاكير ميارديت، لم يتأخر في تلقف هذا التطور، بعدما وجه يوم الثلاثاء الماضي، جيش بلاده بالانسحاب من المناطق الحدودية مع السودان لخمسة أميال جنوباً، وهو ما قابله الرئيس السوداني، عمر البشير، بخطوة إيجابية جديدة، تمثلت في إصدار قرار فتح الحدود بين البلدين.
وكان ميارديت قد عمد إلى نشر هذه القوات عقب الانفصال في العام 2011، وهو ما زاد من حدة التوتر بين الشمال والجنوب، فيما أعلنت الخرطوم قبل ما يزيد عن أربع سنوات، وبسبب تفاقم الأزمة البلدين، عن إغلاق الحدود مع جارتها الجديدة.
ومنذ ذلك الحين، فشلت جميع محاولات الوسيط الأفريقي ثامبو أمبيكي، المسؤول عن تحسين ملف العلاقات بين الخرطوم وجوبا، فضلاً عن المبعوثين الخاصين للأمم المتحدة هايلي منقريوس والأميركي دونالد بوث، في دفع البلدين لتجاوز الأزمة.

اقرأ أيضاً سلام جنوب السودان: إعلان حكومة الوحدة رهن تجاوز الخلافات 

وقد حمل بيان ميارديت، الذي وجّه فيه الجيش بالانسحاب العديد من الرسائل، بما في ذلك إعلان رغبة بلاده التطبيع الكامل مع السودان وتفعيل عمل اللجان المشتركة قبل أن يرد البشير إيجاباً بعد نحو ثلاثة أيام بإصداره قرار فتح الحدود المغلقة مع جنوب السودان ويطالب بالإسراع في تنفيذ قراراته على الأرض.

تسارع التحسن في العلاقات بين البلدين شكل مفاجأة، ولا سيما أن جنوب السودان كانت قد هددت بإغلاق آبار النفط، والتي تمثل عائداتها نحو 15 في المائة من ميزانية السودان، بسبب الخلاف على رسوم عبور النفط الجنوبي للتصدير عبر خطوط السودان.

من جهتها، تحفظت الخرطوم على مطالب جنوبية بتخفيض قيمة رسوم العبور المقدرة بـ24.5 دولارا للبرميل بسبب انخفاض اسعاره عالمياً، مصعّدة من نبرة المواجهة. لكنها سرعان ما تراجعت بصورة مفاجئة عن إفادات لوزير المالية السوداني بدرالدين محمود، أمام البرلمان، كان قد أكد فيها رفض السودان التراجع عن المبلغ المتفق عليه كرسوم عبور ووضع الحكومة لحزمة تدابير احتياطية في حال تنفيذ جوبا لتهديدات إغلاق آبار النفط. وجاء التراجع بعد قرار البشير بمراجعة رسوم العبور رضوخاً عند رغبة جوبا، فيما اتفق الطرفان على عقد اجتماعات مشتركة، يوم الخميس المقبل بجوبا، للاتفاق على رسوم عبور جديدة فضلاً عن تطبيق قرارات الرئيسين على الأرض.

هذه التطورات المتسارعة جددت التكهنات بشأن وجود اتفاق سري بين قادة الدولتين كان السبب في التطورات الأخيرة التي فشلت كل الوساطة الإقليمية والدولية والمحلية فضلاً عن المناشدات في حلها. إلا أن احتدام الأزمة الاقتصادية في البلدين، قاد محللين إلى اعتبار أنها السبب وراء الانفراجة في علاقات البلدين، ولا سيما بعد تراجع العملات المحلية إلى أدنى مستوياتها مقابل العملات الصعبة في البلدين وتردي الحياة المعيشية.
وسبق أن أعلنت الخرطوم، عبر وزارة الخارجية، خسارتها لمبلغ سبعة مليارات دولار جراء قرار إغلاق الحدود؛ وهو المبلغ الذي كان يمكن أن يدخل للخزينة من التجارة الحدودية.

تقول مصادر في حكومة جوبا لـ"العربي الجديد" إن القرارات جاءت نتيجة لتحركات مكوكية بين الدولتين، طرح خلالها كل طرف شروطا محددة لتحقيق مصالح بعينها. ولم ينفِ أو يؤكد المصدر المسؤول وجود اتفاق خفي تدخلت فيه قوى دولية وإقليمية، لكنه جزم أن الاتفاق سيحل أزمة المتمردين التي ظلت تؤرق الحكومة في الخرطوم وتُتهم جوبا بإيوائهم، من دون أن يفصح عن المزيد من التفاصيل.

من جهته، يرجح المحلل السياسي، دينق مدينق، أن تكون الخرطوم وصلت إلى اتفاق فتح الحدود مع جوبا مقابل تضييق الخناق على الحركات المسلحة التي تقاتل القوات السودانية في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، وتتخذ من مناطق جنوب السودان ملجأ لها، بما يفضي إلى إجبار هذه الحركات على قبول التسوية السياسية مع الخرطوم بدون أن تضطر الأخيرة إلى تقديم تنازلات لهذه الحركات. وكانت جميع محاولات التفاوض بين الخرطوم وهذه الحركات المسلحة قد فشلت؛ ما أدى إلى زيادة الخناق الاقتصادي والانفاق العسكري، وهو ما أدى إلى إنهاك خزينة الخرطوم.
ويرى مدينق أن رئيس جنوب السودان يعتقد أنه يمكن التضحية بمتمردي الحركة الشعبية (قطاع الشمال) الذين يقاتلون الحكومة السودانية في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان في سبيل البقاء في السلطة وإنقاذ حكمه الذي بدأ يتضعضع، ولا سيما في ظل فشل تنفيذ اتفاق السلام ومحاصرتها بالانهيار في أية لحظة، فضلاً عن رفض المجتمع الدولي ومؤسساته تمويل الدولة الوليدة.
وفي السياق، يشير المحلل السياسي إلى تنازل ميارديت عن قضية منطقة أبيي المتنازع عليها مع الخرطوم، ورفضه الاعتراف باستفتاء تمّ في المنطقة خوفاً من غضب الأخيرة. كذلك رفض رئيس جنوب السودان أخيراً تنصيب أحد قادة "المعتقلين العشرة"، دينق ألور، في حقيبة وزارة الخارجية على الرغم من اختياره من قبل رفاقه، بعدما تم منح هذه الفريق وزارة الخارجية ضمن اتفاق تقاسم السلطة. وبرر ميارديت قراره بأن الخطوة من شأنها أن تضرب علاقاته الدبلوماسية مع السودان، باعتبار أن الخرطوم لديها عداءاً تاريخياً تجاه من يعرفون بـ"أبناء قرنق"، والذي يعد ألور واحداً منها. وتعود جذور العداء التاريخي إلى وجود اعتقاد لدى الخرطوم أن "أبناء قرنق"، وهو التيار المتمسك بأفكار الزعيم الجنوبي جون قرنق، يعملون من أجل تغيير الحكم في الشمال من خلال دعم الحركة الشعبية (قطاع الشمال) لإيصالها إلى السلطة.
في غضون ذلك، يرى مراقبون أن قرارات التقارب وقتية وستنتهي بانتهاء الغرض منها ليعود الطرفان للمربع الأول، ولا سيما في ظل غياب عامل الثقة بين البلدين. كما أن جوبا على قناعة تامة بدعم الخرطوم للمتمردين عليها، تماماً مثلما تتهم بدعم المتمردين على الخرطوم. ويوجد قناعة لدى الطرفين أن استقرار أي منهما لن يتم إلا بإزاحة الآخر وإحلال بديل "صاحب ولاء".

في هذه الأثناء، لا يفصل آخرون بين التقارب المستجد بين البلدين وبين رغبة الخرطوم في تحسين صورتها الخارجية، ولا سيما أنه من المنتظر أن يعقد مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة بشأنها في شهر فبراير/شباط الحالي، للنظر في تنفيذ اتفاقيات التعاون التي وقعت بين السودان وجنوب السودان قبل نحو ثلاثة أعوام، فضلاً عن النظر في ملف منطقتي النيل الأزرق وجنوب كرفان وإقليم دارفور، وخصوصاً ما رشح عن اتجاه لفرض عقوبات بحظر جزء من الذهب السوداني.
ويرى رئيس جمعية الأخوة السودانية "الشمالية /الجنوبية" بالإنابة، الطيب زين العابدين، أن القرار كان مفاجئاً فقط لمواطني البلدين، لكنه بالتأكيد كان محل نقاش لحكومة البلدين واتخذت في سبيله خطوات عدة منها إبعاد رئيس جنوب السودان أبناء أبيي من السلطة وتوجيهاته بسحب جيشه من الحدود. ويشير زين العابدين إلى أنه من الواضح أن المحرّك الأساسي في القرارات الأخيرة اقتصادي، ولا سيما أن فتح الحدود من شأنه أن يمثّل قراراً مركزياً للخرطوم التي تحتاج للتجارة الحدودية، إذ إنها تدر دخلاً جيداً للموازنة، ولا سيما بعد تراجع إنتاج النفط الجنوبي إلى النصف.