Skip to main content
تحطم المكانة التمثيلية لمنظمة التحرير
سمير الزبن
بقي الفكر السياسي الفلسطيني، طوال ربع قرن، مشدودا في تجربته الكفاحية إلى غياب إقليم فلسطيني، يصنع منه وطنا، فكان على الفلسطينيين أن يخلقوا وطنا معنويا بديلا ومؤقتا، فكانت منظمة التحرير الفلسطينية. خلال هذه الفترة، فشلت كل البدائل لاستعارة جغرافيا مؤقتة من دول الجوار، لإيجاد بديل إقليمي يمكن أن تمارس عليه التجربة الفلسطينية كفاحيتها، لاستعادة الوطن المسلوب. كما فشلت كل المراهنات التي بحثت عن قاعدة ارتكاز آمنة أو "هانوي العرب" المفقودة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، كان غياب إقليم واحد يعيش عليه كل الفلسطينيين مشكلةً حقيقيةً لفصائل العمل الوطني في التعاطي مع هذا التجمع أو ذلك، حيث التجمعات الفلسطينية في الوطن والشتات تعيش في ظل سلطات عربية. لذلك، كان لكل فصيل فلسطيني برنامجه السياسي الوطني، وعلى هامش هذا البرنامج، هناك برنامج لهذا البلد أو ذاك، سواء للأردن أو لبنان أو سورية، حسب طبيعة علاقة هذا الفصيل مع هذا النظام العربي أو ذاك، حتى إن فصائل فلسطينية أقامت أحزابا عربية تابعة لها.

فرض غياب الوجود في الجغرافيا الفلسطينية على حركة المقاومة الفلسطينية أن تقيم سلطاتٍ موازية أو بديلة في حالات عديدة داخل أقاليم دول عربية أخرى، مثلما جرى في الأردن ولبنان. وإذا كانت هذه التجربة في كثير من جوانبها ذات طبيعة كارثية على التجربة الفلسطينية، فإنها، في جوانب أخرى، كانت ممرا إجباريا للتجربة الفلسطينية، لم يكن تجنّبه ممكنا. هذا ما حكمته طبيعة التجربة الفلسطينية، وطبيعة العدو الإسرائيلي، وطبيعة واقع الشتات الفلسطيني، وطبيعة التداخل العربي مع القضية الفلسطينية، لأن الأوضاع الخاصة لمنظمة التحرير، من حيث افتقارها إلى سلطة سياسية في منطقة جغرافية واحدة، وإلى سكان موحّدين، شوّهت، بلا ريب، عملية إنشاء الدولة وبَتَرتها. كانت عمليةً طيفيةً قائمة بالدرجة الأولى من
حيث الشكل، ولم تكتسب جوهريا إلا إلى الحد الذي استطاعت فيه منظمة التحرير أن تفرض لها ملجأ مأمونا، وأن تنشئ دولةً ضمن الدولة في البلد المضيف، كما حدث في فترات مختلفة في الأردن ولبنان، حسب توصيف يزيد صايغ. على الرغم من طبيعة العلاقة المتغيرة بين هذه البلدان ومنظمة التحرير، فإن علاقة الانتماء إلى المكان بقيت محكومةً بإيجاد صيغة علاقةٍ مع الوطن من خارجه، وكانت هذه الإشكالية هي التي طبعت رحلة التجربة الفلسطينية في الخارج، بدءا من الأردن، وصولا إلى تونس، مرورا بلبنان، وصولا إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي أعادت ثقل العملية الوطنية الفلسطينية إلى داخل الجغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكنها، في الوقت نفسه، عملت على تهميش الخارج الفلسطيني الذي أطلق التجربة الفلسطينية الحديثة، والذي أنهكته الحروب على هوامش فلسطين.
في وقت عانت علاقات التمثيل داخل التجمعات الفلسطينية إشكالياتٍ من الدول التي تستضيف الفلسطينيين، بوصفها دولا تحتكر السلطات على الإقليم الذي تشغله دولها، فإنها، من جانب آخر، عانت من إشكاليات تمثيلية في الإطار الفلسطيني نفسه أيضا. فقد ارتاحت الفصائل المكونة لمنظمة التحرير لصيغة أن المنظمة إطار تمثيلي للفصائل، ضمن صيغة "الكوتا" التقاسمية للتمثيل التي اتفقت عليها، بعد سيطرتها على المنظمة العام 1969. وبذلك، تم استبعاد التمثيل الحقيقي للتجمعات الفلسطينية، وإيجاد صيغة تتجاوز الممانعة العربية، عبر إبداع مؤسساتٍ وآلياتٍ تمثيلية، تعبر عن واقع الحال الفلسطيني. وبذلك، تمترست القيادة الفلسطينية خلف رفض الدول العربية المضيفة إجراء أي انتخابات فلسطينية، وبالتالي تحميل هذه الدول المسؤولية عن هذا الخلل، وبذلك تنزع الفصائل المسؤولية عن نفسها. لكن استمرار اعتماد نظام "الكوتا" على حاله من دون تعديل، حتى في الأوقات التي سيطرت فيها منظمة التحرير وفصائلها على تجمعات فلسطينية سيطرة كاملة، كان مؤشرا على رغبة القيادة الفلسطينية في إبقاء الآلية نفسها، لأنها الآلية التي تمنحها احتكارا كليا لآلية التمثيل ضمن مؤسسات المنظمة.
لم تكن هناك صيغة تمثيلية عكست العلاقة بين المخيم، بوصفه قلب الثورة ومطلقها والإطارات التمثيلية الفلسطينية، ولم تحاول منظمة التحرير إيجاد صيغةٍ من هذا النوع. بل على العكس، اعتبرت القيادة الفلسطينية أن الوجود الفلسطيني في هذا البلد أو ذاك ليس حاسما في العلاقة مع التجمع الفلسطيني، فلم تكن المخيمات يوما في ظل التجربة الفلسطينية مركزا للعمل الفلسطيني. إذ لم يعمد أي فصيلٍ إلى إقامة مركز قيادته في مخيم، مع أنها جميعها حافظت على "وجود" لها فيها. حتى لم تكن مراكز الثورة في القواعد العسكرية، بل كانت مكاتبها في العواصم. فعمان ودمشق وبيروت كانت مناطق تركز كادرات حركة المقاومة الفلسطينية، أي قريبا من
مراكز الاتصال وسلطة الدولة، على ما لاحظت روز ماري صايغ. ويمكن القول إن منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية لم تكن مشغولةً بتحويل الإطار الجماهيري المتعاطف، والملتف حول منظمة التحرير، إلى إطار تكامل تنظيمي للتجمعات الفلسطينية، ولا هي غيرت أو حاولت تغيير العلاقات الاجتماعية داخل المخيمات، بل أبقت العلاقات على حالها، مستفيدةً من تجاوز تمثيلها المكان الموجودة فيه. بذلك لعب الشتات الفلسطيني دورا معوقا في إيجاد صيغ تمثيلية صحيحة، ولعب، في الوقت نفسه، دور الذريعة للفصائل الفلسطينية بعدم البحث عن صيغ تمثيلية ملائمة مع المواقع المتاحة، وتجاوزها قضايا التمثيل إلى القضية الوطنية، بوصفها القضية الرئيسية. وبذلك، تم الاعتماد على هذا الشتات، وعلى عدم وجود الفلسطينيين في إقليم واحد، لتكريس احتكار التمثيل من القيادة الفلسطينية، واستقلال هذه القيادة عن التجمعات الفلسطينية استقلالا كاملا في المحاسبة والمراقبة.
بحكم الطبيعة الاستقلالية، وبحكم احتكار الفصائل الفلسطينية التمثيل السياسي، بوصفها الأطر التي تتقاسم هذا التمثيل، تم تقديم الهوية التنظيمية على حساب الهوية الوطنية، مع بقاء الإطار الوطني الفلسطيني (منظمة التحرير) إطارا توحيديا هشّا. أعلت طبيعة العلاقات مع التجمعات الفلسطينية قيمة الانتماء التنظيمي على حساب الانتماء الوطني، ما شكل إرباكا للأوساط التي تُعلي من الانتماء الوطني على حساب التنظيمي، وليس غريباً، في مثل هذه الأوضاع، أن يكون استعلاء الهوية التنظيمية على الهوية الوطنية ما يفسر أسباب مغادرة كفاءاتٍ كثيرة هذه الفصائل، أو حتى عزوف كفاءاتٍ كثيرة في مختلف الميادين عن الإسهام في الحركة الوطنية، ويفسر أيضا، الفقر والضحالة في المنتمين إلى الفصائل، في العقود الثلاثة الأخيرة، في وقت تعج فيه التجمعات الفلسطينية والدول العربية بكفاءاتٍ فلسطينية مشهود لها.
على الرغم من كل العيوب التي شابت آليات التمثيل الفلسطيني، فإن التجمعات الفلسطينية حمت إطارها التمثيلي، وخاضت نضالا مريرا من أجل حمايته. على الرغم من ذلك، وعلى مر الوقت، فقدت منظمة التحرير، بوصفها الإطار التمثيلي، الكثير من قوتها، ليس بفعل تخلي الفلسطينيين عنها، فقد حافظ الفلسطينيون على الالتفاف حولها، لكنها فقدت هذه القوة، بفعل ضعف الفصائل المشكلة لها، وزادت من هذا الضعف البنية البيروقراطية للإطارات العليا التي نمت في إطار الفصائل والمنظمة، وكان خاتمة المطاف إقامة السلطة الوطنية، بموجب اتفاقات أوسلو، ونقل جل صلاحيات المنظمة إليها، ما همّش منظمة التحرير نهائيا. وعندما انفجر الصراع الدموي الفلسطيني ـ الفلسطيني في قطاع غزة في العام 2007، وتحول السلطة الفلسطينية إلى سلطتين، كل واحدة تدعي الشرعية. ولم تعد السلطة، ولا الانتخابات المعطلة، صالحة لمنح الشرعية، لذلك، تم استدعاء منظمة التحرير مرة أخرى، لبناء شرعية السلطة والرئاسة الفلسطينية، ليتبين أن المنظمة لم تعد أكثر من ثوب مهلهل، لا يمنح شرعيةً، ولا يغطي عارا.