Skip to main content
السعودية.. السطو على التاريخ أيضاً
عصام شعبان
استقبلت تظاهرات ترحيب مصنوعة ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، في القاهرة، في زيارته قبل أيام، والتي سبقها وتلاها احتفاء إعلامي، وحملات ترحيب وتظاهرات إلكترونية صنعتها لجان وكتائب إلكترونية، وتصدرت الزيارة عناوين الصحف وأعمدة الكتاب لتملّق الزائر.
لنا أن نستشف أي سعادة يشعر بها بن سلمان في أثناء مروره بميدان التحرير، ذي الرمزية الثورية تاريخيا، وهو يشاهد مصريين يلوحون بعلم السعودية ويرحّبون به، بعد كل حملات الرفض والهجوم عليه بعد قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. ربما كان بن سلمان يحتاج هذا المشهد، لإعادة توازنه النفسي، قبل استعادة توازنه السياسي، وكسب تأييد بعض نظم المنطقة. وللأسف، استخدم المستأجرون من متظاهري الترحيب بالرجل شعارا احتجاجيا مقلوبا، "يا بن سلمان قول لأبوك المصريين بيحبوك" بعدما كان مصريون من سنوات يهتفون ضد حسني مبارك مرددين "يا جمال قول لأبوك المصريين بيكرهوك".
ارتبط توقيت الزيارة بما تعرّضت له السعودية من إحراج وفضيحة دولية، بعد الكشف عن تفاصيل جريمة الانحطاط الإجرامى غير المسبوق الذي مارسه النظام السعودي ضد خاشقجي، والإشارات عن قيادة بن سلمان طاقم الجريمة، وما خلفه ذلك من تهديداتٍ لوضعه السياسي بل لصورة السعودية التي باتت محل رفض أو ابتزاز من قوى دولية. ولعل ذلك كان أحد الموضوعات والأسباب الرئيسية لجولة زياراته العربية أخيرا، وشكلت محاولة لاستعادة الثقة، والاستقواء بالدول التي زارها، وطلب عونها، ليظهر في العالم أن هناك نظما تستقبله وتحتفي به.

لكن كل هذا الاحتفاء المصنوع لا يخفي وقائع الغضب تجاه النظام السعودي، وبن سلمان تحديدا، ولا يخفي هذا التزلف الرسمي والإعلامي أغراض الزيارة التي حملت أبعادا شخصية تخص صاحبها، ولن يغير هذا المشهد أيضا ما يستقر في أغلب أذهان المصريين عن نيات السعودية تجاه مصر، أو غيرها من بلاد المنطقة، وخصوصا لبنان وسورية وتونس واليمن. وقد اختار بن سلمان في جولته أن يزور، قبل مشاركته في اجتماع قادة دول العشرين في الأرجنتين، مصر وتونس، وهما الدولتان المستهدفتان من قوى الثورة المضادة، بغرض إجهاض كل مكتسبات ثورتيهما، ودفن قواها الحية ومصمصة عظمها وتطويق إرادتهما ووقف تأثيرهما عربيا. وعلى الرغم من اختلاف الأوضاع في مصر وتونس، إلا أن حسابات السعودية تجاه الثورة والعداء لها لا تختلف في البلدين، ولا يفرّق أسلوب السعودية في استغلال الأزمات الاقتصادية بينهما، في محاولات إخضاعهما.
استطاعت القوة الوطنية في تونس، التقليدية منها والجديدة، اليسارية والليبرالية، أن تظهر احتجاجها ضد "أمير المنشار"، أو السفاح حسب ما كانت الشعارات تدوي أمام المسرح البلدي في شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة تونس. كان لافتا في المظاهرة تجاور أعلام مصرية وجزائرية وتونسية، وكانت المظاهرة فرصة لإعلان بعض مواطني مصر والجزائر رفضهم سياسات المملكة إلى جانب الرفض التونسي، قوى شبابية وسياسية ونقابية تونسية، في مقدمتهم الجبهة الشعبية وجمعية النساء الديمقراطيات واتحاد الطلاب والصحافيون، أعلن هؤلاء، باسم التونسيين، موقفا رافضا محاولة شراء حكام تونس الجدد تحت وطأة أزمتها الاقتصادية. ويعلم الشعب التونسي أن السعودية التي تؤوي الدكتاتور المخلوع، زين العابدين بن علي، لا تحمل الخير لتونس، وتعادي الثورات العربية، وأن النظام الحاكم فيها ملطخ بالدماء. وصور بن سلمان ملطخة بدماء جمال خاشقجي مثال حي، سيما وأنها تتجاور مع صور لضحايا التدخل السعودي في اليمن، حيث الشعب الذي تحاصره السعودية، ليجوع بعضه ويقتل بعضه الآخر بطيران التحالف الإسلامي الذي تقوده المملكة، لتدمير ما تبقى من ثورته المغدورة. وفي مصر، وعلى الرغم من الحصار القمعي، أصدر ما يزيد عن مائتين من الصحافيين المصريين بيانا يرفض زيارة بن سلمان، بالإضافة إلى صدور بيان لقوى وطنية يسارية وديمقراطية ترفض الزيارة. ويعبر هذا المشهد الاحتجاجي عن أن ثمّة رفضا لسياسات العربية السعودية وحكامها، وموقفا يتشكل يوما بعد يوم رافضا ممارسات المملكة ومحاولاتها للهيمنة والسيطرة، سواء بالتدخل العسكري أو عبر بوابة الاقتصاد.
وقد أحدث تدخل السعودية المتكرّر في شؤون مصر، ومحاولة حصار دورها وثورتها، بالإضافة إلى محاولات الوصاية عليها واستخدامها فزاعة، أسبابا لتحفظ اغلب المصريين تجاه المملكة، فالسعودية بالنسبة للأغلبية دولة تحاول فرض هيمنتها في مقابل الدعم المالي الذي يتلقاه نظام عبد الفتاح السيسي، وعبر بوابة الاستثمار والتعاون الاقتصادي، يتم جرجرة مصر إلى تبني مواقف المملكة، بل تدخل مصر في إطار التحالفات الإقليمية في شكلٍ أقرب إلى التبعية.
كان الانقسام الخليجي أحد مواضيع زيارة بن سلمان القاهرة، بل تم تصوير واقعة مقتل جمال خاشجقي في هذا الإطار، بوصفها حدثا عابرا، ومؤامرةً من ثلاثي الشر (تركيا وقطر وإيران) لمحاصرة السعودية، بل وضرب الأمن القومي العربي، وهز استقرار المنطقة وإضعاف الدول العربية! ويتناسى هؤلاء أن سياسة الأحلاف والانقسام الخليجي العربي الذي تساهم فيه السعودية بدور أساسي هو الأزمة الحقيقية، وهو الأمر الذي يخلّف حالة ضعف عربي شامل. كما يقدّم هذا الوضع من انقساماتٍ وتحارب وتدخل عسكري، ودعم الأطراف المتناقضة في عدة دول فرصا لقوى الهيمنة عالميا، لفرض شروطها على الجميع. ويمنح هذا الانقسام والتفتت القوى الأوروبية، والأميركية خصوصا، مدخلا لنهب موارد دول الخليج وشعوبها، مرّات عبر شراء الأسلحة، وتمويل قطاع الاقتصاد العسكري الأميركي والأوروبي، ومراتٍ عبر ابتزاز دول الخليج لضخ أموالها في الاستثمارات الأوروبية والأميركية.

تحاول السعودية بشكل واضح في زيارات بن سلمان المتكرّرة استغلال أزمة مصر، لتكون سندا سياسيا وعسكريا لها، فلا يقتصر الأمر على الأرض في مقابل أموال المنح والمساعدات والاستثمارات، كما حدث في اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين، والتي تم بمقتضاها التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، أو منح أراض في سيناء وغيرها من المناطق لشركات ومستثمرين وأمراء سعوديين، بل يتجاوز الأمر ذلك في محاولات للهيمنة الثقافية أيضا، وهنا لم يكن مستغربا أن يصمم سعوديون صورة للأهرامات المصرية الثلاثة مضاءة بعلم السعودية، أو كما نقلت صحف ووسائل إعلام سعودية وإمارتية ومصرية تزيين الأهرامات بعلم السعودية احتراما وترحيبا بزيارة بن سلمان. صحيح أن وزارة الآثار المصرية نفت الواقعة، لكن نقل وسائل إعلام مصرية وعربية الخبر يحمل دلالات تتلخص في أن هناك من يريد السطو على التاريخ، بعدما سرق أو احتل الجغرافيا، وأن هناك تحالفا من كتائب إعلامية ومصالح سياسية ومالية ترحب بذلك، وأن وسائل إعلام مصرية لم تتأكد من الواقعة، وراحت تبث الخبر المهين لتلتحق بحفلة التطبيل الرخيص، ما يعني توفر الرغبة والترحاب بالفعل، على الرغم مما تحمله الصورة التي تم تداولها من إهانه بالغة لمصر وشعبها وتاريخها. ولذلك ليس في القول إن السعودية تريد سرقة التاريخ والجغرافيا، ولم لا وهي تظن أنها قادرة على شراء كل شيء، الذمم والضمير والسياسيين والنخب والدول أيضا..